بلال عبدالله

نقاط أساسية

ـ غَلُبَ الطابع التكتيكي على إدارة الصراع الليبي خلال عام 2024، وتبدى ذلك في حرص الأطراف المحلية كافة على شراء وقت أطول للاستقرار الهش القائم منذ سنوات، من دون التوصل إلى حلول حقيقية للإشكاليات القائمة.

ـ من المرجح أن يتأثَّر مسار الصراع الليبي وكيفية الإدارة الدولية له في عام 2025 بمتغيرات دولية وإقليمية فَارِقَة، مثل عودة الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض، والتغيرات في خريطة النفوذ الدولي والإقليمي، لاسيما على خلفية التطورات الجارية في شرق المتوسط.

ـ مع أن إدارة ترمب قد تحاول الدفع باتجاه إنهاء الانقسام الليبي، في إطار توجهها المُعلَن لإنهاء الصراعات المفتوحة حول العالم، إلا أن الصراع المالي بين طرفيّ الانقسام الليبي مُرشَّحٌ للتصاعُد في 2025، سواء حول إدارة الأموال الليبية التابعة لمؤسسة الاستثمار، أو حول تقاسم عائدات النفط

ـ يُتوقَّع أن تنعكس تأثيرات أي صفقة يعقدها ترمب مع بوتين، بشأن الصراع الأوكراني وحدود النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، على الأوضاع في ليبيا؛ وهو ما لن تمتد آثاره فقط لبقية عام 2025، لكنه قد يكون محدداً رئيساً لشكل خريطة النفوذ الدولي والإقليمي في ليبيا خلال السنوات الأربع المقبلة.

***

تأرجح المشهد الليبي في عام 2024 بين ثنائيتيّ التهدئة والتصعيد؛ حيث إن الأوضاع ليست بالاستقرار الكافي لتسوية الأزمة نهائياً، ولا هي منفلتة من القواعد القادرة على تحجيم نوازع العنف بين أطراف الصراع داخلياً وخارجياً.

وعلى هذا الحال تُراوِح الأزمة الليبية مكانها منذ سنوات، لتتسم في إطارها العام بحالة من الاستقرار النسبي تتخلله موجات متقطعة من العنف محدود النطاق، والتصعيد الذي لا يخرج عن السيطرة

 ومع دخول عام 2025، من المرجح أن تؤثر العديد من الاتجاهات في مسار الصراع الليبي وكيفية الإدارة الدولية له، لاسيما مع وجود بعض المتغيرات الدولية والإقليمية الفارقة، وعلى رأسها عودة الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض، والتغيرات في خريطة النفوذ الدولي والإقليمي، لاسيما على خلفية التطورات في شرق المتوسط، وتأثير كل ذلك على مصالح بعض اللاعبين الفاعلين في الشأن الليبي.

 التحديات والفرص في 2024

يتمثل أبرز التحديات والفرص التي شهدتها ليبيا في خلال عام 2024، في الآتي

1. أزمة المصرف المركزي:

بمثل ما اتبع محافظ المصرف المركزي، الصّديق الكبير، سياسة تهدف إلى تشديد الخناق المالي على سلطات شرق ليبيا قبل حوالي ست سنوات، بشكل دفعها إلى محاولة السيطرة على العاصمة طرابلس في حرب استمرت أكثر من عام، مارس الكبير أيضاً سياسةً شبيهة مع حكومة طرابلس منذ أواخر 2023، على النحو الذي دفع كلاً من المجلس الرئاسي وحكومة عبد الحميد الدبيبة إلى اتباع سياسة حافة الهاوية في المعركة ضد الكبير وحلفائه الجدد في الشرق الليبي.

وتُعد هذه هي أقصى حالات المجابهة بين طرفيّ الانقسام منذ انتخاب سلطات طرابلس عبر ملتقى الحوار الوطني في فبراير 2021. وبقدر ما مثلت تلك الأزمة تحدياً كبيراً للاستقرار الهش، فإن تسويتها سلمياً كان ضرورياً للحفاظ على هذا الاستقرار.

جرت تسوية الأزمة برعاية مباشرة من البعثة الأممية، وفي ظل ضغط أمريكي على مختلف الأطراف، عبر التوافق على تعيين ناجي عيسى، النائب السابق للصدّيق الكبير محافظاً جديداً للمصرف، ومرعي البرعصي نائباً له؛ مع الاتفاق أيضاً على تعيين مجلس إدارة للمصرف، وهو الأمر الذي كان غائباً على مدار عقد كامل، إذ كان الكبير ينفرد بقيادة المصرف من دون وجود مجلس إدارة.

وبشكل عام، كانت الفلسفة التي حكمت تسوية الأزمة هي تحييد قيادة المصرف (نسبياً) عن الصراع السياسي، والتركيز على الدور الفني لها وللمصرف من جهة، ومن جهة أخرى إعادة التوازن والطابع الجماعي إلى قيادة المصرف، عبر تعيين مجلس إدارة وإنهاء نمط القيادة المنفردة

 2. تصدُّع العملية السياسية:

إذ وصل التصعيد المتبادل حداً قد يصعب معه استمرار العملية السياسية وفق الأجسام القائمة؛ فمن ناحية أولى، تفاقمت أزمة الانقسام داخل المجلس الأعلى للدولة، بين جناح مُوالٍ لحكومة الدبيبة بقيادة محمد تكالة، وجناح آخر مناوئ لها بقيادة خالد المشري، إثر التنازع حول نتائج انتخابات رئاسة المجلس، وهو الانقسام الذي تعمَّق نتيجة لجوء الطرفين المتنازعين إلى القضاء، وصدور أحكام متضاربة لم يعترف بها كل طرف.

ومن ناحية ثانية، أسس المجلس الرئاسي المفوضية الوطنية للاستفتاء، لغرض تمرير بعض القرارات عبر الاستفتاء الشعبي، وهو ما يمثل الْتفافاً صريحاً على صلاحيات المفوضية الوطنية العليا للانتخابات.

وفي المقابل، لجأ مجلس النواب إلى سحب صفة القيادة العليا للجيش من المجلس الرئاسي، في خضم التصعيد المتبادل بين الطرفين إبان أزمة المصرف المركزي. وفي العموم، اتسم المشهد السياسي بقدر كبير من الفوضى وعدم التقيد بأي قواعد تكفل استقرار العملية السياسية.

راجت في أوساط الرأي العام الليبي فرضية مفادها أن الهدف من المفوضية هو إجراء استفتاء شعبي على حلّ مجلس النواب.

 3. اضطراب الدور الأممي:

مثّلت استقالة المبعوث الأممي السابق عبد الله باتيلي في أبريل 2024 تحدياً أمام عملية التسوية؛ فمع الاستقالة توقف العمل في مبادرته التي كان قد أعلن عنها قبل الاستقالة بنحو عام، وانقضى نحو ثمانية أشهر قبل أن تعلن القائمة بأعمال رئيس البعثة، ستيفاني خوري، عن مبادرتها الجديدة للتسوية في شهر ديسمبر.

ثم جاء الإعلان، في 24 يناير 2025، عن تعيين مبعوث أممي جديد، ممثلاً في الغانية هانا سيروا تيتيه، ليضع نهاية مبكرة لمبادرة خوري، وفتح الباب أمام إطالة أمد الفراغ الذي تعانيه عملية التسوية، نظراً للوقت الذي ستستغرقه تيتيه قبل طرح مبادرة جديدة.

 4. بدء إعادة الإعمار:

شهد العام المنقضي انطلاق عملية إعادة الإعمار، مع تباين واضح في وتيرة الاستثمارات بين شرق البلاد الذي شهد تسارعاً في تلك العملية، مقارنة بالمناطق الخاضعة لسلطة حكومة طرابلس.

وقد مثّل ذلك في جانب منه فرصة كبيرة لتعزيز الاستقرار، عبر ربط مصالح العديد من الفاعلين الخارجيين باستمرار الهدنة القائمة وعدم الذهاب إلى خيارات تصعيدية، غير أن ذلك مثّل في جانب منه تحدياً واضحاً لتحقيق استقرار أكثر استدامة، بسبب تقديم بدء عملية إعادة الإعمار على التوصل لتسوية نهائية للصراع، الأمر الذي يرسّخ الحلول غير الانتخابية وفرض الأمر الواقع، بشكل يتعارض مع الشروط الموضوعية لتحقيق الاستقرار الدائم على أساس من الشرعية الدستورية والانتخابية.

 مع أن إدارة الرئيس ترمب لم تَكشِف بعد عن مضمون سياستها تجاه الصراع الليبي، إلا أنها في كل الأحوال ستُلقي بظلالها على استجابات مختلف أطرافه الفاعلة

5. دعم الوقود وتهريبه:

بدأ عام 2024 مع استمرار الدبيبة في الإلحاح على ضرورة الذهاب إلى خيار رفع الدعم عن الوقود، وهو ما كان يلقى معارضة معلنة من سلطات شرق ليبيا. ويأتي موقف الدبيبة في جانب منه بغرض قطع الطريق على عملية تهريب الوقود المدعوم إلى الخارج.

وبقدر ما كان هذا الملف يمثل فرصة حيوية لتقويض ظاهرة التهريب، فإنَّه مثّل تحدياً للاستقرار، في ضوء اتساع طائفة المتضررين من وراء هذا الخيار في حال تطبيقه، سواء بالنسبة لخصوم الدبيبة أو على المستوى الشعبي.

وكان من التحولات اللافتة أن عام 2024 انتهى مع حدوث تحول جذري في موقف حكومة أسامة حماد، الذي أعلن في ديسمبر تأييد حكومته لقرار رفع الدعم عن الوقود، إثر اجتماعه مع مرعي البرعصي نائب محافظ المصرف.

6. إجراء الانتخابات البلدية:

شهد نوفمبر 2024 المرحلة الأولى من انتخابات المجالس البلدية، والتي شملت نحو 58 بلدية تتوزع في مختلف مناطق ليبيا، وبلغت نسبة المشاركين في التصويت 49% ممن لهم حق الانتخاب، وهي نسبة تعد مرتفعة. كما أن سير العملية الانتخابية بهذا المستوى من السلاسة في مناطق مختلفة من البلاد يعد مؤشراً إيجابياً على إمكانية إجراء الانتخابات للسلطتين التشريعية والتنفيذية من دون عوائق لوجستية كبيرة

 7. تحولات الأدوار الخارجية:

شهدت ليبيا طوال العام حراكاً نشطاً على مستوى زيارات ممثلي الدول الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة وروسيا؛ غير أن اللافت للنظر كان العلاقات المتنامية بين كل من الصين ومعسكريّ الصراع في شرقي البلاد وغربيها. كما شهد الدور التركي تطوراً ملحوظاً في اتجاه مزيد من التقارب مع معسكر شرق ليبيا، مع الحفاظ على نفوذ أنقرة التقليدي في المنطقة الغربية. ومع نهاية العام، كان المتغير الأهم هو الضغوط التي تعرض لها الوجود العسكري الروسي في سورية عقب إطاحة بشار الأسد، ما أدى إلى تسارع نقل الكثير من الأصول العسكرية الروسية إلى الأراضي الليبية.

يتبع

***

بلال عبد الله، باحث غير مُقيم في مركز الإمارات للسياسات، متخصص في الشأن الليبي.

________________

مواد ذات علاقة