خيري عمر

على مدى الشهور الماضية، تتشكّل في ليبيا عملية بناء مسار انتقالي متزامنة ومتوازية، فبينما يتّجه المجلس الرئاسي إلى إعادة دمج الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور في المشهد السياسي، تعمل البعثة الأممية على تكوين مسار للحوار السياسي، بدأته بتشكيل الهيئة الاستشارية لصياغة خياراتٍ للمرحلة الانتقالية، لتكون ليبيا أمام حالة تنافس أو صراع بين طرفَين على التمكين لمسار سياسي.

وهنا، يساعد تحليل سياقات السلطة والنفوذ في استكشاف سياسات المسارَين تجاه تعقيدات الوضع الراهن. على هذه الأرضية، تشهد ليبيا تسارع الطرفَين إلى التمكين القانوني للآليات التنظيمية من ناصية عملية الانتقال. على خلاف وحدة مسار الحوار السياسي في المرّات السابقة، تتخذ المحاولة الحالية الطابع الثنائي، فتدخل جهتان متنافستان معترك فرض خريطة الانتقال السياسي.

فمن جهةٍ، ووفقاً لصلاحياتها، تتبنى بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا مسار حوار على غرار تجارب 2015 و2020، للوصول إلى الوضع الدائم، ومن جهةٍ أخرى، سار المجلس الرئاسي نحو استدعاء مقترح الهيئة التأسيسية للدستور (يوليو/ تموز 2017)، باعتباره نتاجاً قانونياً لمؤسّسة دستورية مُنتخَبة.

وفي المقارنة، على مستوى الجهتَين، هناك اختلاف في طريقة تشكيل العضوية، فبينما تستند عضوية الهيئة التأسيسية إلى انتخابات مارس/ آذار 2014، صاغت البعثة الدولية، في نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، مبادرةً متعدّدةَ المسارات، تستمدّ مشروعيتها من الاتفاق السياسي وخريطة طريق ملتقى الحوار السياسيلإنشاء مسار انتقالي بديل، وضعت فيه معايير تشكيل هيئة استشارية لاقتراح خيارات للمرحلة المقبلة.

وباستشاراتٍ محدودة مع أطراف ليبية، توصلت في 4 فبراير/ شباط 2025 إلى اختيار 21 عضواً وفق معايير، المهنية، الخبرة في القضايا القانونية والدستورية و/ أو الانتخابات والقدرة على تحقيق التوافق، مع فهمٍ للتحدّيات السياسية القائمة.

ووفق تقرير الهيئة الاستشارية (4 مايو/ أيار 2025) يتلاقى المشروعان على أولوية وجود الدستور قبل الانتخابات، يحقّق وظيفتَين: الحدّ من مخاطر النزاعات المستقبلية على السلطة، والخروج من السيولة الدستورية القائمة حالياً، غير أنه رغم قبول الاستفتاء على مشروع دستور 2017، تُفسح الهيئة الاستشارية الطريق لاقتراح مشروع بديل من طريق لجنة جديدة للحوار السياسي.

وتمثّل هذه النقطة الخلافية مسألةَ تنازع مع مسار الاستفتاء الدستوري وفق خطة المجلس الرئاسي، لتكون هذه الجزئية العامل الأكثر ارتباطاً بدور دوائر السلطة ونفوذ العسكريين والمسلّحين في حماية نتائج الحلّ السياسي أو إحباطها، إذ يُحتجّ بالوضعية القانونية للهيئة التأسيسية في مواجهة الأمم المتحدة ومجلس النواب والجهات الأخرى.

على مدى السنوات الماضية، لم تتمكّن حكومات ليبيا من ضبط سلوك المسلّحين، كذلك ظلّ الجيش مفتقراً إلى التكامل المؤسّسي في التراب الليبي

ومع اقتراح الهيئة الاستشارية ثلاث خيارات أخرى، تشترك في ثلاثة شروط لتهيئة البيئة الانتخابية: تصحيح الوضع القانوني للمفوضية الوطنية العليا للانتخابات؛ مراجعة النظام الدستوري والقانوني؛ وتشكيل سلطة تنفيذية مؤقّتة.

وفي هذا السياق، صاغت المقترح الأول، فاهتمّت بوجود مرحلة تمهيدية، تُشكّل فيها حكومة موحّدة لتسيير المرافق والخدمات العامّة، حتى إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، لتبدأ مرحلة انتقالية تنتهي باعتماد الدستور الدائم. فيما صاغت الخيار الثاني مرحلةً مؤقّتةً بأربع سنوات، يُنتخب فيها مجلس تشريعي من غرفتَين، ويعتمد فيها الدستور الدائم، وتنتهي لحكومة مُنتخَبة.

وخروجاً من صعوبات الوضع التشريعي القائم، اقترحت الهيئة الاستشارية الخيار الرابع، العودة إلى مرحلة تأسيسية، يُنتخب فيها مجلس تأسيسي من 60 عضواً. يتبنّى هذا الاقتراح العودة إلى مرحلة التأسيس لوضع ليبيا في عامي 2011 و2012، فتجمع المؤسّسة المُنتخَبة ما بين الصلاحيات التشريعية والتنفيذية.

ولتهيئة شروط تكوين وعمل المؤسّسة الجديدة، اشترط المقترح الخروج المتزامن لكل المتصارعين على السلطة من المشهد، وضمان عدم عرقلتهم للعملية السياسية.

وفق نظرة وجاهية، يكتسب مقترح المجلس الرئاسي قوة دفع من توافر عاملَين: يتمثّل الأول بوجوده ضمن خيارات الهيئة الاستشارية، وهنا تتزايد فرصه في الحصول على دعم مؤيّدي ثورة فبراير (2011) باعتبار مشروع الدستور آخر ما تبقّى من الحراك السياسي حينها.

أمّا في الثاني (عموماً)، فيستند خيار المسار الدستوري إلى سموّ مشروعية أعمال الهيئة التأسيسية على الهيئة الاستشارية، والمسار اللاحق للحوار السياسي، فتتمتّع بوضع قانوني أكثر تعبيراً عن الإرادة الشعبية.

ورغم هذه الميّزات، يواجه اقتراح المجلس الرئاسي رواسب الفترة الماضية، ليس في ما يتعلّق بالخلافات حول عدة مواد في مشروع دستور الهيئة التأسيسية أو رفض جماعات الأمازيغ والتبو والطوارق، ولكنّه يواجه تباين المواقف حول سماح قوانين الانتخابات الصادرة عن لجنة 6 + 6 ومجلس النواب بترشيح مزدوجي الجنسية، أو تجدّد تنازع الصلاحيات بعد إصدار محمّد المنفي ثلاثة مراسيم في إبريل/ نيسان 2025، وهي نزاعات تؤدّي إلى تذبذب الاعتبار القانوني للمؤسّسات.
وبغض النظر عن العيوب القانونية ونضج شروط الصراع، لا تقدّم هذه المقترحات حلّاً ابتكارياً بقدر ما تعمل على إثارة النزاع
فعلى مستوى المسارَين، تتسم أفكار الخروج من الحالة الانتقالية بالطابع التقليدي وغياب القدرة على حلّ الصراع بين المكوّنات الليبية أو تحويله لخدمة السلم.

فمنذ تشكيل الهيئة الاستشارية، بدت مقترحات المبعوثة الأممية هانا تيتيه تكراراً لتجربة الحوار السياسي السابقة، وفي السياق نفسه، يكون استدعاء رئيس المجلس الرئاسي محمّد المنفي للهيئة التأسيسية في يونيو/ حزيران الماضي، بعد ثماني سنوات من إعداد مشروع الدستور، بعقد اجتماع في مدينة البيضاء لتجديد رئاسة مراجع نوح، لتكون ضمن أطراف العملية السياسة في المرحلة المقبلة.

وفي هذا السياق، لا تبدو محاولة المبعوثة الدولية (تيتيه) مختلفةً عن المرّات السابقة، فهي تسير نحو تجريب نسخة جديدة من الشخصيات العامّة (والخبراء) من دون نفوذ حقيقي في التركيبة السياسية والعسكرية القائمة في طول البلاد وعرضها، لتزيد احتمالية اختلاف مقترحاتها عن مصالح السلطات والكيانات النافذة في الاقتصاد والأمن والعسكر، ما يزيد من مخاطر تنفيذ مقرّرات الحوار السياسي.

فعلى مدى السنوات الماضية، لم تتمكّن حكومات ليبيا من ضبط سلوك المسلّحين، كذلك ظلّ الجيش مفتقراً إلى التكامل المؤسّسي في التراب الليبي.

تكتمل دورة الصراع مع تذبذب تحرّكات البعثة الأممية رغم صلاحياتها الواسعة، إذ كان تدخّلها الانتقائي عاملاً رئيساً في إرباك المشهد الانتقالي

بشكل عام، تُعيد هذه المقترحات تشكيل خريطة الصراع والتحالف، فهي تتجاوز موضوع تغيير الحكومة إلى تبنّي مسارَين مختلفَين لمستقبل البلاد، ما يفتح الطريق أمام تنافس مشروعَين. في ظلّ هذا الجدل، تقع ليبيا تحت مسارات متعارضة، يسعى كلٌّ منها للاستحواذ على الدولة أو بعض أجزائها، ما يشكّل بيئة تهديد لأيّ محاولة للحلّ السلمي.

في تصوّرات السياسة، تتشكّل حالة نزاع ثنائي، فبينما يهتم مجلس النواب بدعم التشريعات الانتخابية الصادرة عنه، وبتشكيل حكومة جديدة، يتبنّى الحُكم في طرابلس الاستفتاء، مع تصحيح وضع الحكومة القائمة، فلا ينصبّ الخلاف بين الجهتَين على طريق السير في المرحلة الانتقالية، بقدر توظيفه للنفوذ والبقاء في السلطة.

تكتمل دورة الصراع مع تذبذب تحرّكات البعثة الأممية رغم صلاحياتها الواسعة، فقد كان تدخّلها الانتقائي عاملاً رئيساً في إرباك المشهد الانتقالي. تظهر الفجوة بين الصلاحيات وسياسة البعثة واضحة في الفترة 2020 ـ 2025 عن مدى سلطة مبعوث الأمم المتحدة.

تعكس طريقة اختيار لجنة الحوار السياسي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، ولاحقاً اختيار الهيئة الاستشارية، وجود سلطة آمرة وحقيقية لم تُعمَل خلال الفترة البينية، لتكون سمة التراخي والتدخّل الانتقائي واضحةً في تفضيلات غالبية المبعوثين الدوليين للانخراط في مساومات حول الاعتراف بالكيانات الليبية أو فرض عقوبات عليها، وهنا، يتّسق الاعتراف بفوز محمّد تكالة في انتخابات مجلس الدولة مع حالات تدخّل سابقة، كانت سبباً في ظهور نزاعات أكثر ممّا وفّرت حلولاً.

فعلى مستوى سلوك الفاعلين خارج عمليات الترتيب للمرحلة الانتقالية، يمكن ملاحظة تعدّد مصادر تهديد الانتقال السلمي. توضح الاشتباكات المتكرّرة في المنطقة الغربية جانباً مهمّاً من تقويض الشروط اللازمة لوجود مؤسّسات قوية، إذ يغلب عليها تقويض القدرات المدنية والعسكرية، على خلاف المركزية السياسية والعسكرية في بقية الأراضي الليبية.

يقف التفاوت بين حالة السلطة على الجانبين وراء التنافس على توجّهين: وضع شروط المرحلة الانتقالية، والتوسّع في سياسات التمكين من المؤسّسات العامّة المدنية والعسكرية، لتتشكّل ملامح التفكّك وتشتّت القوة الصلبة، لتكون كيانات الحوار السياسي الحلقة الرخوة في المشهد السياسي.

تراكمت هذه الظاهرة على مدى فترة الحوار السياسي، حيث كانت نقطة الضعف الرئيسية واضحةً في خلوّ هيئاته من المكوّنات الفاعلة. وباستثناء مبادرة المبعوث الأممي غسان سلامة، في مايو 2014، لجمع أطراف الصراع إلى طاولة حوار مباشر.

اقتصرت اختيارات البعثة للجان الحوار على خليط من السياسيين، بين ممثّلين للجهة التشريعية ووجهاء اجتماعيين وبعض الناشطين الحقوقيين، فيما خلت قوائم المشاركين من ذوي النفوذ الفعليين، لتظلّ أطر الحوار الحلقة الضعيفة في السياسة الليبية.

كانت الشكاوى من فساد التصويت في جنيف (فبراير 2021) علامةً بارزةً على هشاشة لجنة 75، وتلاشي وجودها بعد صياغة خريطة الطريق والتصويت على تشكيل السلطة التنفيذية، لتبقى المرحلة الانتقالية بلا حراسة مؤسّسيها، ليكون الانغماس في الدفاتر القديمة أقرب إلى وصفة صراع، لا إلى حلٍّ سلمي.

***

خيري عمر ـ أستاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .

______________

مواد ذات علاقة