بقلم علي عبداللطيف اللافي

درنة هي المدينة الليبية التي سماها الرحالة العرب والأجانب وعلماء الآثار بـ “عروس ليبيا” و بـ”درة البحر المتوسط”،

وهي المدينة التي تعيش منذ سنتين على وقع التجاذب بين أطراف الصراع، وهي محل استهداف من طرف قوى إقليمية ودولية نتاج عومل عدة متداخلة ومتراكمة، فما هي أهم المعطيات التاريخية والجغرافية للمدينة وما هي أسرار استفاقة المجلس الرئاسي تجاه الوضع الراهن في المدينة وماهي خلفيات الاستهداف في ظل تجاهل كبير للمجتمع الدولي لمآسيها ولحصارها؟

حكومة الوفاق والاستفاقة المتأخرة تجاه درنة

خيّم التجاذب الداخلي وطبيعة الصراع السياسي في ليبيا على طبيعة المواقف من حصار المدينة الظالم والغريب والمستراب، ألا أن التطورات الأخيرة أجبرت الرئاسي وتحديدا بعض أعضائه على الاستفاقة والمبادرة بالتحرك لما قد تؤدي اليه الأوضاع في المدينة إثر إمكانية اقتحامها وعمليا بدأت المبادرات والبيانات والمواقف تتطور مع تطور الاحداث في درنة:

أـ مجلس الأعلى للدولة

تصدرت الأوضاع في المدينة اهتمامات رئيس مجلس الدولة المنتخب حديثا خالد المشري” والذي التقى أول أمس الثلاثاء 08 مايو 2018، بوفد من مشائخ وأعيان ليبيا في مقر المجلس بالعاصمة طرابلس، حيث تم بحث العديد من القضايا وعلى رأسها ملف الأوضاع في مدينة درنة، وأكد الطرفان على ضرورة الوصول لتوافقات لبناء دولة مدنية بعيداً عن لغة العنف والسلاح.

ب ـ المجلس الرئاسي

تصدرت تطورات الأوضاع في درنة أنشطة أعضاء المجلس الرئاسي واضافة الى متابعة فائز السراج للتطورات، التقى عضو المجلس الرئاسي محمد عماري زايد أول أمس الثلاثاء رئيس المجلس المحلي لمدينة درنة وضواحيها “عوض لعيرج” الذي أكد تبعية المؤسسات العسكرية والمدنية في المدينة لحكومة الوفاق الوطني بحسب إدارة التواصل بحكومة الوفاق الوطني،

وقدم رئيس المجلس المحلي خلال اللقاء شرحاً للأوضاع التي تعيشها المدينة، وما تعانيه من ويلات جراء الأعمال العسكرية الدائرة الآن حولها واستهداف المدينة وإلحاق الضرر بها والحصار حيث طالب المجلس الرئاسي التدخل لوقف إطلاق النار لتجنيب المدينة الدمار من أجل المحافظة على النسيج الاجتماعي بها.

أعلن عماري على موقفه الداعم لمدينة درنة وأهلها واستنكاره الشديد لصمت البعثة الأممية والمجتمع الدولي حول ما يجري في المدينة، وأكد بأنه يعمل على إتخاذ حكومة الوفاق الوطني والمجلس الرئاسي ما يلزم من قرارات لوقف إطلاق النار، حماية للمدنيين، عملا بأحكام القانون الإنساني الدولي وبنود الاتفاق السياسي ومخاطبة الجهات الدولية بالخصوص.

كما تم التطرق لمخصصات المجلس المحلي درنة المالية التي ستسهم في حلحلة ما تعانيه من مختنقات.

تبيان عضو الرئاسي محمد لعماري

 لم يكتفي عضو المجلس الرئاسي محمد عماري زايد بلقاء رئيس المجلس المحلي بل أصدر بيانا في نفس اليوم أدان فيه الأعمال العسكرية الدائرة حول مدينة درنة وما اعتبره استهدافاً للمدينة وإلحاق الضرر بها، وأكد أيضا بأن ما وصفه بـ”استهداف درنة وأهلها” (محاربة الجماعات الارهابية في المدينة) يعتبر تعميق للأزمة في البلاد وإصرار على الحل العسكري وسفك مزيد من دماء الليبيين ونسف لكل جهود المصالحة والحوار.

أضاف في نفس البيان إن من يقوم باستهداف درنة تحت ذرائع واهية يتخذها كغطاء لتنفيذ رغبته في السيطرة عليها مؤشر واضح على أن الأجندة التي تقوم عليها الحرب لا تخدم إلا من يلهث وراء أطماع شخصية ويسعى وراء مآربه الخاصة ولا يريد تغليب مصلحة الوطن”.

كما طالب عماري في بيانه المجلس الرئاسي بصفته “القائد الأعلى” والمسؤول الأول على تطبيق الاتفاق السياسي ووقف إطلاق النار بتحديد موقفه من استهداف مدينة درنة وتعرض المدنيين فيها للخطر ، مستغرباً صمت البعثة الأممية والمجتمع تجاه ما يجري في المدينة….

كيف وفر “مجلس شورى درنة” مبررات الحصار؟

عمليا ما يجري في درنة هو وضع المدينة بين مطرقة قوات حفتر وسندان أنصار مجلس شورى المدينة، حيث وضع هذا الأخير المدينة في فخ مُبيَت بما جعلها لقمة سائغة لعداوة المحيط وقد استغل حفتر ذلك ونصب لها فخا آخرا، وهو ما يعني أن المجلس هو أحد أهم المعطيات في توريط المدينة في هذا المنحى (الحصار)، رغم أن أنصار المجلس وقياداته لا يمكن وضعهم في سلة واحدة فكريا واجتماعيا وسياسيا وتنظيميا وبعضهم ساهم سابقا في طرد داعش منها.

أما من حيث الوقائع والحيثيات الراهنة فبمجرد أن تأكدت العناصر القيادية في المجلس، أنه لا مخرج لهم من الورطة التي وضعوا المدينة وأنفسهم فيها، أصبحوا يحاولون توسيع دائرة الصراع والتورط في حرب يبحث عنها حفتر ومحيطه الاستشاري، وهي حرب قد تتحول الى حرب فناء ودمار على كل المدينة.

ومن الواجب عمليا المسارعة بدفع حكماء ليبيا الى تجنيب المدينة مصير ما حدث لبنغازي وأن يدركوا جميعا عواقب الاستهتار والطيش وعدم القدرة على تقدير المسؤوليات تجاه مثل هذه المغامرات فلا حفتر ورفاقه سيجنون شيئا من حصار درنة ولا من اقتحامها ولا مجلس شورى المدينة سينتصر في كل الظروف.

وعلى حكومة التوافق  وعلى البعثة الأممية تجنب تكرار نفس المسرحية ونفس الإخراج الهزيل ان لم نقل بنفس المخرجين لما حدث في بنغازي من دمار وضحايا، وعلى أهالي درنة بل على كل الليبيين الوعي أن مخابرات إقليمية ودولية تسعى للوقيعة بين الليبيين أي بين طرفي الصراع على تخوم درنة وأن وحدة ليبيا ومستقبلها هما المستهدفان أولا وأخيرا.

ولذلك فان طرح فكرة “قوة حماية المدينة” ليس حلا عمليا  فدرنة مدينة ليبية ليست موضوع صراع ولا هي أرض يتقاتل فيها الليبيون، وهي مدينة ليبية لابد من أن يكون فيها أمن ليبي وقيادة سياسية ومجلس بلدي يؤمن الخدمات وذلك من أجل أن تعيش المدينة آمنة.

وثانيا لتتحول كرافد سياحي واقتصادي ويشارك أبناؤها في أنشطة المجتمع المدني والسياسي بما فيهم أعضاء مجلس شورى المدينة ممن لم تتورط اياديهم في دماء الليبيين.

خلفيات ما يجري في درنة

ما جري في درنة بل حولها ليس مرتبط فقط بأجندات حفتر ولا بمسوغات قد يكون وفرها ما يسمى بمجلس شورى المدينة ومعسكر الكرامة كما بينا أعلاه، وهو لا يرتبط فقط بتجاذب سياسي بل له أسباب وخلفيات تاريخية متعددة:

أالخلفيات المحلية: ذلك أن الصراع على درنة سياسي بالأساس، وهو نقل عملي للتجاذب الايديولوجي بين الإسلاميين والليبراليين عربيا وأيضا بين أنصار “فبراير” و أنصار “سبتمبر”، فبعض رجال حكومة الوفاق لم ينسوا أن حفتر قد حقق اختراقات سابقة في الزنتان و”صبراتة” وقريبا من الحدود التونسية ورغم محاصرة تلك الاختراقات فانهم يحلمون بصمود درنة للتأكيد أن حفتر لا يُسيطر على كل الشرق الليبي.

حفتر يريد التوسع شرقا للانطلاق خارجه في اطار أحلامه المستقبلية وهو أيضا لم يغفر للمدينة انها احتفلت بذكرى ثورة 17فبراير رغم منعه لذلك في مدن الشرق سنتي 2016 و2017، وهو ما حدا بالكاتب والمحلل السياسي الليبي صالح الشلوي يتساءل:

لماذا لدرنة كمدينة أن تختلف عن البيضاء كمدينة؟

لماذا تحاصر الأولى بينما يكون في الثانية مطار دولي تقلع منه الطائرات إلى خارج البلد؟

بالخلفيات الإقليمية: وهي أيضا عديدة على غرار أطماع السيسي ونظامه في ليبيا وثرواتها وخلفيات تاريخية في درنة بالذات من حيث العلاقات الجغرافية والاجتماعية، وكل ذلك تؤكده الوثائق وحقائق التاريخ والجغرافيا.

أما بعض أطراف إقليمية فتنظر الى موقعها الجغرافي والى مينائها المهم لوجستيا وسخاءها المجتمعي وأنها مدينة تكتسب قابلية لتصبح أجمل المدن العربية سياحيا واقتصاديا…

تالخلفيات الدولية: تمثل درنة استحضارا لأحداث تاريخية انكسرت فيها قوى دولية على احتلال المدن العربية والإسلامية وخاصة في الحقبة القرمنلية إضافة الى ان الأحداث الحالية في درنة قد يقع توظيفها للمضي في التقسيم العملي والعودة الى ما قبل سيناريوهات 24 ديسمبر 1952.

كما تسعى بعض القوى الدولية الى قتل فكرة صمود مدن عربية مستقبلا أمام الاختراق الفكري والثقافي وأن يكون لها القدرة على التصدي للغزو الخارجي الناعم وأيضا المباشر.

الخلفيات المباشرة لحصار درنة

عمليا تزامنت الحملة العسكرية والتحشيد لها مع صمت مُطبق لعدد من أعضاء مجلس رئاسة حكومة الوفاق الوطني رغم تحرَك بعض الأعضاء، وذلك بسبب اعتقادهم أن من يسيطر على المدينة “إرهابيون” كما ترى القوات المحتشدة حول المدينة ذلك أو هي بُرمجت ذهنيا وسلوكيا على ذلك، على غرار أحد نواب رئيس المجلس الرئاسي وعدد من وزراء الوفاق وبعض المسؤولين في عدد من الوزارات والمؤسسات بناء على تجاذب ايديولوجي واصطفاف مبني على خلفيات قبلية وتاريخية وولائية.

وعمليا كشفت الحملةُ العسكرية أن هناك ضوء أخضر إقليمي لاقتحام المدينة، وهو اذن عملي من قبل رعاة الانقلاب الإقليميين والدوليين اعتقادا من مُستشاريهم في الغُرف المغلقة أن ذلك سيترتب عليه تنامي الرصيد الشعبي لمعسكر الكرامة وزعيمه حفتر، والذي قد تعود ترتيبات اسناده كمرشح محتمل (وهو حق دستوري) لأي انتخابات رئاسية قادمة والتي قد تُجرى في نهاية السنة الحالية وفقا لترتيبات سياسية قد تُحبك أو ترتب في قادم الأسابيع.

وهنا يطرح تساؤل مهم ورئيسي لفهم ما يجري على تخوم المدينة، هل المجتمع الدولي جاد عمليا في دعم حكومة الوفاق الوطني؟؛ وإلا كيف يتم السماح الفعلي  لحفتر وفريقه بمواصلة عملياته العسكرية خاصة في ظل إصراره على عدم الاعتراف السياسي بحكومة الوفاق وتعطيل مصادقة مجلس النواب على تزكيتها كحكومة لكل الليبيين؟

ولماذا يأبى حفتر أن ينضوي تحت إمرة الرئاسي ولصالح من الإصرار على ذلك؟، وهل معنى ذلك ان هناك طريقا أخرى سوف يسلكها المجتمع الدولي للحل في ليبيا غير الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات قبل عامين أو هل تم في الخفاء سن خارطة طريق للعودة الى سيناريو القذافي2 وأن حفتر عاد الى منطق التلويح بشروطه؟

وماذا تعني مسارعة أعضاء في حكومة الوفاق الوطني ومحسوبون على حفتر  ولائيا إلى منطقة الرجمة؟، وهل يعني ذلك أنها محاولة منهم لوضع أرجلهم هناك ينالون بها حظوة عند حفتر ظنا منهم أن سيناريو تخلي المجتمع الدولي على الاتفاق السياسي قد يصبح أمرا واقعا في مرحلة ما.

خاصة وأن بعضهم أصبح يُشرعن عمليا لما قد يُرتكب في حق سكان درنة من جرائم، بل أن البعض من أولئك يعتقدون أنهم يساهمون في تسهيل الأمر على حفتر مستقبلا ليضع أقداما له في العاصمة طرابلس وفقا لتحاليلهم وأمانيهم.

أما عن طبيعة التحشيد الحالي حول المدينة فله ماهية ثانية وهي وضع البلد لاحقا في أتون حرب أهلية وقابلية موضوعية للتقسيم، ذلك أن الإيحاء بالبدء في حرب لاقتحامها فان ذلك يعني موضوعيا إطالة أمد هذا الصراع والدخول في معركة ثانية في الشرق سيُبقى الجميع ينتظر متى تنتهي حتى يطبق الاتفاق السياسي ولعل القياس بما حدث في بنغازي والتي ظل حفتر نفسه يهدد بالسيطرة عليها طيلة ثلاث سنوات كاملة وكانت النتائج كارثية عمرانيا وسياسيا واجتماعيا باعتراف الجميع بل وانتجت مجرمي حرب مطلوبين دوليا على غرار الورفلي وآخرين.

علاقة حصار درنة بآفق الحل السياسي في ليبيا

من الواضح أن المجتمع الدولي تشقه خلافات تجاه الحل في ليبيا نتاج الخلاف على التموقع على أراضيها عسكريا وفي مغانم الشركات الغربية في إعادة التعمير والاستثمار في ثروات غدامس الباطنية إضافة للسيطرة على مسالك الدخول الى العمق الافريقي، فتارة يتجه رهانه على المجلس الرئاسي وتارة يعتمد على قوات حفتر في شرق البلاد.

وكأنه بذلك يعمد إلى ممارسة نوع من الضغوط على كليهما للخروج بحل لا يزال حبيس جعبته ربما يكون تحويرا وتعديلا في الاتفاق السياسي تقصى منه أطراف وتبقى أطراف أو تضاف إليه أخرى، وربما تكون انتخابات يهيئها ويمهد أرضيتها لمن يراه الغرب مناسبا للحكم.

فهل ستكون حرب درنة والتهديد باجتياح المدينة ضغطا على المجلس الرئاسي أم أنه الرهان الأخير على الرجل المناسب الجدير بالحكم أو التجهيز لخطة بديلة يبرز من خلالها اشخاص لا نراهم في المشهد الحالي أو هم مُتوارين خلف هذا الطرف أو ذاك.

وفي علاقة بكل ذلك لا يدري أحد كم ستستمر الاحداث في درنة والتي لا يمكن لأي قوة أن تسيطر عليها إلا بعد سنوات لأسباب تاريخية واجتماعية وسياسية رغم سوء الحال المعيشية التي أنهكت المواطنين وفي درنة حيث نقدر أنه لن ينتصر فيها منطق القوة على قوة المنطق، وهذه الأخيرة قد ترتكز على فعل ومبادرات جهة أو رجل ليبي رشيد يُجنب ليبيا الدمار مجددا ويدفعها نحو الوحدة والآخاء في قادم الأشهر لإجراء مصالحة تبني الغد وتدفن آلام وأحقاد الماضي، وحتى لا يضطر السراج أو غيره لترديد مقولة محمد يوسف المقريف سنة 2013 لك الله يا ليبيا

***

علي عبداللطيف اللافي ـ كاتب تونسي

_______________

الرأي العام التونسية

مواد ذات علاقة