بقلم عائد عميرة

مرة أخرى تتسلط الأضواء على الجنوب الليبي، فما إن تمر أزمة حتى تشتعل أخرى بفعل جهات داخلية وأخرى خارجية، وأحيانًا يتحد كلاهما لإثارة الأزمات في هذه المنطقة المشتعلة منذ القدم.

 هذه المرة أخذت الميليشيات التشادية زمام الأمور، محاولة السيطرة على إقليم فزان، وهو ما وجده حفتر الباحث عن ميدان معركة جديدة، ذريعة للتدخل في الجنوب عسكريًا، فكيف الأوضاع هناك؟

تجدد عمليات القتل والسطو

الأحداث الأخيرة في الجنوب أدت إلى سقوط 4 قتلى على الأقل تمت تصفيتهم من عصابات المعارضة التشادية، وعرفت الأيام الماضية عودة ميليشيات المعارضة التشادية المسلحة مجددًا لانتهاك السيادة الليبية على أراضيها، ودخول قواتها مناطق الجنوب، وممارستها عمليات النهب والخطف والقتل.

وتمركزت الاعتداءات هذه المرة في منطقة أم الأرانب” وشرق بلدة القطرون وتجهري جنوب ليبيا، وعرفت هذه المناطق اشتباكات مسلحة بين السكان ومجموعة من عصابات المرتزقة التشادية المسلحة التي تمارس السطو والخطف والتعدي على الممتلكات الخاصة.

ولا تعتبر هذه المرة الأولى التي تمارس فيها قوات المعارضة التشادية التي تزدهر بفضل المساعدات المالية وعمليات التهريب، انتهاكات في إقليم فزان الليبي، فهي دائمًا ما تمارس أعمال الخطف والتهريب والحرابة والسطو والتعدي على الممتلكات الخاصة في هذه المنطقة التي تعرف عدم استقرار أمني وانتشار الفوضى فيها.

وعادة ما تتخذ هذه القوات الأراضي الليبي منطلقًا لهجمات تشنها ضد القرى التشادية، ففي شهر أغسطس/آب الماضي شنت هذه القوات – المعروفة باسم المجلس القيادي العسكري لإنقاذ الجمهورية” – انطلاقًا من الأراضي الليبية، هجومًا على بلدة كوري بوغري في منطقة تيبستي بأقصى شمال تشاد، قبل أن تعود إلى الجنوب الليبي.

تتمركز هذه الميليشيات التي تعيش في صدام دائم مع حكومة انجامينا في جنوب سبها، وتمكنت هذه المجموعات من التغلغل حتى وصلت إلى قلب الجنوب، واتخذت من المزارع والأحراش القريبة من المدينة مستقرًا لها.

فضلًا عن الميليشيات التشادية، يعرف الجنوب الليبي وجود العديد من الميليشيات المسلحة الأخرى، حيث تمتلئ مدن وقرى مختلفة في الجنوب بالمقاتلين الأفارقة الذين جاء بعضهم في مجموعات منتظمة تحالفت مع أحد أقطاب الصراع في الشرق أو الغرب، وبعضهم جاء بشكل فردي بحثًا عن لقمة العيش ليجد نفسه ممتشقًا السلاح ويقاتل على أرض غريبة.

وتعتبر الفوضى عامل جذب للأفارقة، فقد انقسمت القبائل وتشكل لكل منها مجموعات مسلحة، وكانت حركات التمرد بدارفور أولى هذه المجموعات التي وجدت بقوة في الجنوب، وقد دخلت هذه الوحدات منذ سنة 2011 وقاتلت بجانب نظام معمر القذافي، وعادت لتتمركز في نقاط معينة في الصحراء جنوب البلاد تمارس أعمال الحرابة كالسطو والسرقة بالإكراه والاغتيال والتهريب، قبل أن تقع الاستعانة بها من أطراف الصراع بالجنوب سنة 2015.

صمت رسمي يزيد من معاناة الأهالي

أمام تجدد هذه الانتهاكات اكتفت حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج بالإدانة والتحذير، ففي بيان لها أكدت حكومة السراج هذا العدوان الذي يستهدف استقرار بلادنا لن يمر دون عقاب، محذرة من أن جماعات المرتزقة وكل الطامعين في البلاد يجدون في الانقسامات فرصة للاختراق والتسلل لتحقيق مطامعهم.

وتعهدت الحكومة باتخاذ إجراءات رادعة ضد المرتزقة والعصابات القادمة من خارج الحدود، مشيرة إلى أن منطقة الجنوب الليبي باتت تشهد ما وصفته بأنه عدوان غاشم من تلك العصابات التي لم تكتف بعمليات النهب والتخريب التي تمارسها داخل ليبيا، بل تمادت لتمارس جرائم القتل بحق المواطنين.

هذه البيانات المتكررة التي تفتقد إلى إجراءات عملية زادت من معاناة الأهالي في الجنوب الليبي، ففي كل أزمة تشهدها المنطقة لا تكلف الحكومة نفسها البحث عن حلول وتكتفي بإصدار بيانات الشجب والإدانة والوعيد دون أن تحرك ساكنًا.

عجزت حكومة الوفاق عن السيطرة على الجنوب

تتميز منطقة الجنوب الليبي بعدم الاستقرار، حيث تشهد فراغًا أمنيًا واضطرابات متكررة منذ سقوط نظام معمر القذافي في فبراير/شباط 2011، وتسيطر عليها عصابات تهريب النفط والبشر، وتعتبر هذه المنطقة البوابة الرئيسية للمهاجرين الأفارقة الذين يتخذون من ليبيا محطة للهروب لأوروبا، حيث يعبر عشرات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين سنويًا الحدود من دول جنوب الصحراء إلى ليبيا، لينطلقوا منها عبر القوارب إلى السواحل الجنوبية للقارة الأوروبية.

ويعاني السكان المحليون من تردي الأوضاع الإنسانية والمعيشية والصحية، نتيجة ذلك اضطر العديد من السكان بيع منازلهم وممتلكاتهم هناك والنزوح إلى العاصمة طرابلس، ما من شأنه أن يساهم في تغيير ديموغرافية المكان، الأمر الذي تطمح له بعض القبائل، وهو ما يزيد الأمر تعقيدًا أكثر.

وأدى تجاهل الحكومات المتعاقبة لإقليم قزان الذي يمثل الضلع الثالث – مع إقليمي برقة في الشرق وطرابلس في الغرب – إلى غرقه في حالة من الفوضى والأوضاع المعيشية الصعبة بسبب ما تعيشه البلاد من حالة انقسام، رغم ما يزخر به من موارد طبيعية كالنفط والمعادن.

وأول أمس الخميس أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا للسلطات الليبية عن قلقها البالغ إزاء تصاعد معدل الجريمة، وموجة حوادث الخطف والأعمال التخريبية الأخيرة التي طالت البنية التحتية للنهر الصناعي، ولفت البيان إلى تراجع مستوى الخدمات في الجنوب، وهو ما أدى إلى زيادة معاناة الأهالي في المنطقة.

حفتر يستعد

اللواء المتقاعد خليفة حفتر الباحث عن ميدان معركة جديد ليثبت زعامته وقوته ومكانته في المشهد العام في البلاد، وجد في أزمات الجنوب متنفسًا له، ومكانًا لإثبات جدارته بقيادة الجيش الذي تسعى القاهرة إلى توحيد صفوفه في قادم الأيام.

في هذا الشأن، قالت مليشيات الكرامة التي يتزعمها حفتر إنها تخطط للقيام بعملية عسكرية واسعة النطاق في جنوب البلاد، للقضاء على جماعات المعارضة السودانية والتشادية وما وصفته بعصابات إجرامية محلية.

وقبل ذلك، طالب مجلس نواب طبرق من حفتر بإرسال تعزيزات عسكرية بشكل عاجل لتطهير جنوب البلاد من عصابات المعارضة التشادية التي دخلت في مواجهات مسلحة مع أهالي جنوب ليبيا هذه الأيام، في مسعى منه لأخذ زمام الأمور من حكومة الوفاق العاجزة عن التدخل.

يسعى حفتر إلى استغلال ورقة الميليشيات الإفريقية، لفرض شروطه على مختلف أطراف الصراع في البلاد على رأسها فائز السراج ومعسكره في غرب البلاد، فضلًا عن فرض شروطه على الدول الغربية على رأسها إيطاليا التي تشهد علاقتها مع حفتر فتورًا كبيرًا نتيجة تباين وجهات النظر بين الطرفين.

ويعمل حفتر على استغلال هذه الفوضى، حتى يبرر دخوله للجنوب ومحاولة السيطرة عليه كما حدث في بنغازي سنة 2014، فحفتر الذي ارتبط اسمه بالعنف والفوضى والسعي إلى إرباك الوضع العام في البلاد، يريد إظهار نفسه بمظهر المنقذ للبلاد من ويلات الميليشيات المسلحة وأنه القادر وحده على تسيير ليبيا.

ماذا عن فرنسا؟

حفتر ليس الوحيد المستفيد من فوضى الميلشيات في الجنوب الليبي، فغيره كثير، من ذلك فرنسا التي تسعى لتكريس حضورها السياسي والاقتصاد والعسكري في ليبيا بشتى الوسائل، وتأمين مصالحها في هذه المنطقة التي تعتبر مدخلًا مهمًا إلى العمق الإفريقي، أرض الثروات الطبيعية.

ويحتوي الجنوب الليبي بحسب دراسات المسح الجيولوجي الحديثة التي قامت بها شركات نفط أوروبية وأمريكية، على احتياطي هائل من النفط والغاز، ويوجد به حقل الشرارة للغاز والنفط الذي تعمل به شركة إيني الإيطالية.

وتوجد في غرب سبها منطقة خصبة تسمي وادي الحياة تحتوي على أهم احتياطات النفط والماء في ليبيا، وهناك حقل نفط تديره شركة ريبسول الإسبانية يشكل وحده 15% من إنتاج النفط الخام، بينما تنشط أيضًا شركات طاقة أخرى في المنطقة.

كما يوجد في الجنوب خزانات المياه الجوفية العميقة التي توفر المياه للنهر الصناعي العظيم، أحد إنجازات نظام القذافي القليلة، وتوفر أيضًا نحو ثلثي إمدادات المياه في البلاد، كما يعد الجنوب الليبي واعدًا في مجال إنتاج الطاقة الشمسية.

تستند فرنسا في محاولة بسط نفوذها على المنطقة إلى إرث تاريخي استعماري، حيث كان إقليم فزان لفترة طويلة قابعًا تحت السيطرة الفرنسية، وتستعمل فرنسا فزاعة الجماعات المتشددة كذريعة للسيطرة على جنوبي ليبيا، وتراهن السلطات الفرنسية التي تمتلك قواعد عسكرية شمال النيجر قرب الحدود الجنوبية الليبية على هذه المنطقة كأحد مصادر الثروات الباطنية من نفط وغاز ومعادن.

وتسعى فرنسا إلى استغلال هذه الفوضى لتوفير الذريعة للتدخل في الجنوب تحت غطاء الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، خاصة أنها تروج لنفسها بكونها الحامي لاستقرار منطقة الساحل والصحراء، وأن هذه المنطقة دونها ستمثل بؤرة للإرهاب.

***

عائد عميرة ـ محرر صحفي في فريق نون بوست

____________

مواد ذات علاقة