هزائمُ متتالية باعدت بين الجنرال الليبي الحالم بالسُلطة والمتمرس في الحروب، وبين مشروعه العسكري الذي أطلقه قبل عامٍ للسيطرة على العاصمة،

فالخسارة المدوية التي مُنيت بها قواته في الساحل الغربي، دفع حفتر ثمنها غاليًا ببدء الفصل الأخير من معركة طرابلس بحشد قوات الوفاق قواتها صوب مدينة ترهونة، آخر قلاع أمير الحرب الليبي في غرب ليبيا.

لكن حفتر الذي فرض اسمه سياسيًا وحضوره عسكريًا في أغلب الأراضي الليبية، ما زالت أمامه مكاسب ميدانية أخرى يمكنه استغلالها تفاوضيًا وأبرزها المنشآت النفطية، خاصة أنه ما زال مدعومًا بقوة من قوى إقليمية ودولية، وهو ما يُعقّد موقف حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا؛

فالسلاح وحده لن يحل مشكلتها على عكس غريمها، والمبادرات الدولية لم تأتِ في صالحها.

التقرير التالي يشرح الأسباب اللي تمنع الوفاق من إزاحة حفتر من المشهد السياسي رغم انتصاراتها العسكرية الأخيرة.

ترهونة ستحدد مصير المنتصر.. ماذا بعد الفصل الأخير من معركة طرابلس؟

 يشهد الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر انقلابًا في موازين القوى في المعركة التي أطلقها قبل عامٍ للسيطرة على طرابلس، وبداية السقوط كانت في 25 مارس (آذار) الماضي،

حين أطلقت حكومة الوفاق عملية «عاصفة السلام»، التي هدفت للانتقال إلى مرحلة الهجوم بعد الدفاع، وتمثلت أولى مهامها في تحييد الحظر الجوي الذي فرضه حفتر منذ منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي على العاصمة ومحيطها، والذي كان يعتمد في حظره على قاعدة الوطية الجوية غرب ليبيا، لتنجح الوفاق في النهاية في السيطرة الكاملة لأول مرة على سماء المعركة.

على الأرجح، لم تكن قوات حكومة الوفاق لتحصد تفوقًا جويًا حاسمًا لولا الطائرات التركية المُسيرة من طراز «بيرقدار» التي قلبت موازين المعركة في ليبيا، وقبلها أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لفرض سطوته في شمال سوريا.

وكانت النتيجة أن مُنيتْ قوات الجنرال المتقاعد بهزائم مدوية إثر خسارتها ست مدن، منها اثنتان استراتيجيتان غرب طرابلس، في معاركٍ متواصلة استمرت ساعاتٍ معدوداتٍ، نجحت فيها حكومة الوفاق في بسط سيطرتها الكاملة على الشريط الساحلي الممتد من العاصمة حتى الحدود مع تونس.

ولم تتبق في جولات المعارك الدائرة سوى مدينة ترهونة -88 كم جنوب طرابلس، وقاعدة الوطية الجوية آخر القواعد المتبقية غرب ليبيا، وبدونهما لن تكتمل انتصارات الوفاق، كونهما يمثلان أهم معاقل حفتر التي لن تسقط بسهولة،

وتكمن خطورة قاعدة الوطية –مساحتها 50 كم، في «موقعها المحصن طبيعيًا، حيث شيدها الأمريكيون خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) في منطقة بعيدة عن التجمعات السكانية، وأقرب منطقة مأهولة تبعد عنها 25 كلم، مما يجعل أي هجوم كبير على القاعدة، مكشوفًا أمام طائراتها الحربية ومدفعيتها الثقيلة، بحسب ما نشرته وكالة «الأناضول» التركية.

الخوف من الوقوع في حرب استنزافٍ دفع حكومة الوفاق لتغيير استراتيجيتها العسكرية بالهجوم على مدينة ترهونة بدلًا من الوطية التي تمتلك تحصيناتها القوية، ويتوقع صمودها لفترات طويلة أمام الحصار، بفضل مخازن الأسلحة ومحطة الوقود التي تمتلكها، وهو ما يفسر تحويل الهجوم عنها.

وتفشل حكومة الوفاق في السيطرة على ترهونة منذ أطلقت معارك استرداد مدن غلاف العاصمة طرابلس، بصفتها المدينة الحصينة التي تستعصي على السقوط، والتي تحوي بداخلها مركز عمليات حفتر، إضافة إلى أنها معقل اللواء التاسع مشاة، أقوى الكتائب في غرب ليبيا.

ورغم اختلال التوزان العسكري لقوات حفتر داخل ترهونة التي تواجه هجومًا شرسًا من سبعة محاور، في ظل غياب الغطاء الجوي، إلا أنها ما زالت تمتلك دفاعات جوية قوية يُسيّرها مرتزقة شركة فاغنر الروسية، بحسب اتهامات الوفاق.

ومن وجهة نظرٍ عسكرية، ففي حال أسقطت الوفاق مدينة ترهونة، وحافظت على تحييد قاعدة الوطية، فسيبدأ فصل جديد بعد انتهاء معركة طرابلس بالتحول لاستعادة المدن الاستراتيجية وسط ليبيا، والبداية ستكون وفق خُطة معلنة بالاتجاه صوب مدينة سرت –وسط ليبياالتي استحوذ عليها حفتر في يناير (كانون الثاني) الماضي.

وتكمن أهمية مدينة «سرت» في كونها بوابة العبور إلى منطقة الهلال النفطي التي تستحوذ على 80% من النفط الليبي، إضافة إلى أنها تقع بها قاعدة الجفرة الجوية أهم القواعد التي تمدّ قاعدة الوطية بالإمدادات العسكرية، وهو ما يهدد بسقوط الجنوب، ومحاصرة الشرق الليبي، حيث بنغازي، عاصمة حفتر.

إلا أنّ بقاء ترهونة، وقاعدة الوطية خارج سيطرة حكومة الوفاق، تضعف كثيرًا من تأثير كل الهزائم التي تكبدتها قوات حفتر، كونها تمنح الأخير أملًا في استعادة مدن الساحل الغربي، وإعادة السيطرة الجوية، وهو ما قد يرسم معادلة جديدة في معركة طرابلس.

موازين القوى الدولية.. أوراق أخرى في يد حفتر المهزوم

أقدم حفتر على الهجوم على طرابلس، لإسقاط منافسه السياسي فايز السراج، ومعه اتفاق الصخيرات عام 2015 –التسوية الأهم في تاريخ الأزمةالذي أشرفت عليه الأمم المتحدة، وبالرغم من هزائمه العسكرية التي تكبدها خلال المعركة التي فشل في إنهائها، إلا أنه ما يزال مدعومًا من عدة قوى عربية وإقليمية تُراهن عليه في حسم المعركة لصالحه باعتباره أقوى رجل في ليبيا.

لفهم الأزمة الليبية من وجهة نظر الغرب، فحفتر لا يمتلك فقط «شرعية القوة» المدججة بالسلاح، فالجنرال الليبي خطط مُسبقًا لجذب القادة البرجماتيين داخل الصراع الليبي، ليتحول بعدها من رجلٍ منزوع الشرعية والنفوذ، إلى حاضر دائم على طاولة المفاوضات منافسًا كتفًا بكتف لرئيس الحكومة.

فإلى جانب الحلفاء التقليديين (مصر والسعودية والإمارات) الذين دعموا أمير الحرب الليبي لخوض معركة ضد جمامن يعتبرونهم خصومهم الإسلاميين، صنع حفتر أيضًا خلافًا كبيرًا داخل أوروبا بعد سيطرته على المنشآت النفطية، وأعلن تعاونه في ملفات «اللاجئين، والهجرة، وتهريب السلاح»، إلى جانب القضاء على الإرهاب، ليحصل على شرعية دولية بتمهد له دور مُستقبلي في قيادة ليبيا، والحفاظ على المصالح الاقتصادية والسياسية القديمة للحلفاء.

ضاعف حفتر نفوذه السياسي عبر قوى إقليمية وقبلية وعربية انتهت في النهاية إلى منحه حصانة دولية عبر منع إدانته داخل مجلس الأمن، أو إصدار قرار بعدم وقف إطلاق النار، وهو ما دفع حكومة الوفاق إلى توجيه اتهام رسمي جاء فيه: «المجتمع الدولي ما يزال يشاهد وهو منقسم والبعض يساند هجوم حفتر».

واللافت أنّ كافة مبادرات وقف إطلاق النار تصب كُليًا لصالح حفتر، لأنها تمنحه تواجدًا عسكريًا حول طرابلس، وهو ما يُعطيه دومًا وقتًا إضافيًا لتحريك المدفعية الثقيلة صوب العاصمة عبر خطوط الإمداد الخلفية، وفي الوقت المناسب الذي تكتمل استعداداته يخرق الهدنة.

من وجهة نظر غربية، يظل حفتر أقوى رجلٍ في ليبيا، كونه يمتلك ميليشيات تصلح لتكون نواة جيش نظامي، وهي التي فرض عليها الجنرال الليبي منذ البداية صورةً انضباطية موزعة على ألوية وكتائب في رسالةٍ بثّها للجميع توضح قدرته على إعادة الاستقرار باعتباره رجل دولة، وهي الورقة الرابحة التي يستغلها جيدًا طيلة سنواتٍ من عُمر الأزمة.

وعلى النقيض، تمتلك حكومة الوفاق ميليشيات لها انتماءات قبلية سبق أن حوّلت العاصمة لحرب شوارع باستخدام الأسلحة المتوسطة والثقيلة، والتي أظهرت السراج في صورة الضعيف، وهو ما يفتح بابًا جديدًا محتملًا للصراع حول طرابلس في حال نجحت تلك الميليشيات في هزيمة حفتر.

ومن وجهة نظرٍ عسكرية، فانتصارات حكومة الوفاق لا تكفي وليست مؤشرًا على انهيار أسطورة حفتر في ليبيا، فبينما كانت طول خطوط الإمداد نقطة ضعفٍ لحفتر، فإن حكومة الوفاق لن تستطيع شنّ معركة مضادة في الشرق الليبي للسبب نفسه، بالإضافة إلى أنّ الوفاق ليس لديها قدرة عسكرية للوصول لقاعدة عمليات حفتر في الشرق.

على جانبٍ آخر، فالطيران التركي الذي حوّل مسار معركة طرابلس، لن يكون له وجود في الشرق الليبي، حيث الحدود المصرية، ومعقل حفتر، يقول الصحافي الليبي عبد السلام الراجحي لـ«ساسة بوست»: «لم يكن هدف تركيا المُعلن هو إسقاط الشرق الليبي، وإنما القتال في غرب وجنوب غرب ليبيا بعيدًا عن مصر، كما أنّ الاتفاق الرئيس مع حكومة الوفاق يشمل طرد حفتر من تخوم العاصمة وما حولها فقط».

وفي ظل عجز الوفاق عن شنّ معركة شاملة للوصول إلى عمق الشرق الليبي، لا يتبق أمامها سوى خيار سياسي وحيد لإقناع الحلفاء بالتخلي عن حفتر، أو خوض معارك استنزاف طويلة وصنع انتصاراتٍ في جنوب ووسط ليبيا، لكنها لن تكون كافية لإنهاء أسطورة حفتر الذي يُصرّ على أنه لا وقت للحلول السياسية.

 ماذا تبقى للوفاق لإنهاء أسطورة حفتر؟

يتصارع على الحكم في ليبيا سلطتان متناحرتان؛ «حكومة الوفاق الوطني» المعترف بها دوليًّا، ومقرها طرابلس، ومنافستها في شرق ليبيا، «الحكومة المؤقتة» المدعومة من مجلس النواب الليبي، وقوات الشرق الليبي، المعروفة باسم الجيش الوطني الليبي.

ويرسم المشهدَ الليبي حاليًا برلمانان متنافسان، وحكومتان تتنازعان الشرعية، وعدد لا يُحصى من الجماعات المُسلحة، وبنكان مركزيَّان، وشركتان نفطيَّتان وطنيَّتان، إحداهما في طرابلس معترف بها، والأخرى موازية في بنغازي تابعة لحفتر.

 وبخلاف المشهد السياسي المتأزم، نجحت حكومة الوفاق في تحييد شركة النفط الموازية في بنغازي لصالح المؤسسة الوطنية في طرابلس التي تمتلك حصرًا بيع النفط بموجب قرارات دولية صارمة حيّدت مؤسسة النفط الرسمية بعيدًا عن الصراع السياسي، وهي الورقة التي منعت حفتر من إعلان قيام دولة ليبية موازية بالرغم من سيطرته على أغلب التراب الليبي.

ورغم انتصارات حكومة الوفاق الأخيرة، ووصولها إلى توازن عسكري مكنها من حصد المكاسب الميدانية، إلا أنه يتبقى لها ثلاث محطات رئيسية لإنهاء أسطورة حفتر في ليبيا ممثلة في المنشآت النفطية، والبرلمان الليبي، ومظلة الدعم الدولي والقبلي.

يمتلك حفتر ورقة اقتصادية ثمنية تتمثل في سيطرته على الهلال النفطي الذي يمتد لمساحة تتجاوز 250 كم من بنغازي شرقًا إلى سرت غربًا، وتحتوي في داخلها 80% من احتياطي النفط الليبي، وبالحديث عن النفط باعتباره موردًا شبه وحيد للاقتصاد الليبي، تكتسب المنطقة أهمية سياسية كبرى لمن يُسيطر عليها.

تغيرت خريطة الحرب في ليبيا فعليًا بسيطرة حفتر الكاملة على منطقة الهلال النفطي في يونيو (حزيران) عام 2018، ليبدأ بعدها التحضيرات لمعركة طرابلس، عبر الاستحواذ على الجنوب ثم بدء معركة إسقاط الغرب.

وبخلاف الورقة الاقتصادية، يمتلك حفتر ورقة سياسية شرعية ممثلة في برلمان طبرق المنتخب الذي يمنحه شرعية قانونية لعملياته العسكرية في ليبيا، كون الطرفين يرفضان اتفاق الصخيرات، ولا يعترفان بحكومة الوفاق، ويرفضان قرار المحكمة الإدارية التي حددت أن الدستور يسبق الانتخابات، وهو الصراع السياسي الذي يضرب الثقة في المؤسسات الليبية، ويستفيد منه حفتر.

المثير أنه حين أشيع نبأ وفاة حفتر في فرنسا أوائل عام 2018، حظت الوفاق بفرصة نادرة لانتزاع قلعة الشرعية الوحيدة التي يتحصن بها حفتر، عبر اللقاء الذي عُقد في المغرب، وجمع رئيس البرلمان في طبرق ورئيس المجلس الأعلى للدولة في طرابلس، حيث جرى الاتفاق بشأن قضايا محورية أبرزها تعديل المجلس الرئاسي، وتشكيل حكومة جديدة، وإصدار قانون الاستفتاء على الدستور من البرلمان، وهي الخطوة التي أثارت حفيظة حفتر والدول الداعمة له، كونها تهدم مشروعه السياسي والعسكري في آن.

وفيما تروج الوفاق لرواية دعم الحلفاء السخي لحفتر، لكن ّ الحقيقة أنّ صمود أمير الحرب الليبي لم يكن وراءه فقط الدعم المقدم من أطراف إقليمية ودولية، فالدعم القبلي يرسم ربما بشكل أكبر خريطة المنتصر، ويحدد الطرف الخاسر، من قبل حتى بدء المعارك. على سبيل المثال، شكّل أبناء القبائل في شرق ليبيا، خزانًا بشريًا لمعارك اللواء خليفة حفتر منذ إطلاقه عملية الكرامة منتصف عام 2014، وكذلك في حروبه المتتالية في بنغازي وأجدابيا والهلال النفطي ودرنة وصولًا إلى معركة طرابلس الأخيرة، حيث تفشل الوفاق حاليًا في اقتحام ترهونة بسبب الدعم القبلي المقدم لحفتر.

وفي الوقت الذي ينقسم ولاء القبائل شرق ليبيا بين مؤيد لحفتر ومعارض له، تواجه حكومة الوفاق المأزق نفسه في المدن التي أسقطتها مؤخرًا غرب ليبيا، حيث يوجد خمس قبائل تختلف في ولائها بين طرفي الصراع، أخطرهم بالنسبة للوفاق هم قبيلتي الورفلة والزنتان، وتسيطر الأخيرة على قاعدة الوطية الاستراتيجية.

أصعب الاختبارات الحالية التي تواجه حكومة الوفاق، هو الوصول لصيغة تفاهماتٍ مع البرلمان الليبي المنتخب في طبرق، وعقد صفقاتٍ مع القبائل لتغيير تحالفاتها أو البقاء على تعهداتها، إضافة إلى انتزاع منطقة الهلال النفطي الذي كان سابقًا في حوزتها، وهم القلاع الثلاث التي لن تنتهي بدونهما أسطورة حفتر في ليبي.

_____________

مواد ذات علاقة