محمد زايد

ستظل الأوضاع مرشحة للتدهور والارتباك ما لم يعالج أمران معاً: عقد الانتخابات والسيطرة على سلاح الميليشيات.

منذ أسابيع قليلة تصاعد القلق في ضوء الاشتباكات التي شهدتها العاصمة الليبية طرابلس بين بعض الميليشيات المسيطرة على العاصمة، وتوقفت بالكاد قبل انعقاد جلسة الإفادة التي نظمها مجلس الأمن الدولي في شأن ليبيا منذ أيام وتحدث فيها مبعوث الأمم المتحدة عبدالله باتيلى وقدمت بعض الدول مداخلات معظمها تقليدي، وليس ما سبق إلا جزءاً من عدد من التطورات المتضاربة في ليبيا، بعضها على قدر من الإيجابية، وبعضها الآخر سلبي، والمشهد في مجمله يستحق وقفة تقييم، بخاصة أن بعض التطورات الليبية قد تكون لها تداعيات بعيدة الأمد.

التطورات المتضاربة

واندلعت الاشتباكات المسلحة التي شهدتها العاصمة بين فريقين من الميليشيات المسيطرة على العاصمة، والمؤيدة لحكومة عبدالحميد الدبيبة وقوى الإسلام السياسي المسيطرة على المنطقة الغربية، بعد احتجاز قوات الردع لآمر القوات المسماة 444 التي تسيطر على جنوب العاصمة، وعجز الدبيبة عن السيطرة على الطرفين فاضطر إلى اللجوء لأعيان وحكماء سوق الجمعة والنواحي الأربعة في طرابلس للتوسط بين الأطراف.

وعلى رغم أنها ليست المرة الأولى للاشتباكات بين القوى والميليشيات العسكرية المسيطرة على الغرب، والتي لم تتوحد إلا بسبب الصراع ضد القوى المدنية المسيطرة على الشرق الليبي، فإن التعليقات ركزت على عجز الدبيبة وعدم سيطرته بشكل واضح على الجبهة الرئيسة التي يعتمد عليها.

لكن ثمة تطورات إيجابية، أولها الاجتماع الذي عقده رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي مع عقيلة صالح رئيس مجلس النواب والقائد العسكري خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، في أول زيارة له إلى بنغازي بعد توليه منصبه، وهو ما اعتبره البعض بمثابة بداية لتباعد المنفي عن حكومة الدبيبة وبخاصة مع مظاهر ضعفه وتآكل سيطرته الواضحة سابقة الذكر، وقد أصدر اللقاء تأكيداً لتولي مجلس النواب اتخاذ الإجراءات الكفيلة باعتماد القوانين الانتخابية المحالة عليه من لجنة (6 زائد 6).

وعلى رغم أنه ما زال من السابق لأوانه التيقن من اكتمال هذه التحالفات الجديدة، فإن الواضح أن هذه شواهد أخرى على تراجع الدبيبة، كما حرص اللقاء على الإشارات الواضحة إلى رفض محاولات المبعوث الدولي السيطرة على العملية السياسية.

أما التطور الإيجابي الثاني الذي ربما يكون أكثر وضوحاً فهو إعلان توحيد المصرف المركزي الليبي بين الشرق والغرب، ويعد بمثابة إنهاء لوضع شاذ بدأ منذ قرابة 10 سنوات وهدد تماسك الدولة والمجتمع، وقد أبرز بيان للجامعة العربية بهذا الصدد التقدير الواضح لأهمية هذه الخطوة، وعبر البيان عن أمله في أن يضع هذا نهاية لمسألة غياب شفافية وعدالة توزيع عائدات الثروة الوطنية التي طالما شكلت نقطة خلاف جوهرية بين الأطراف السياسية الفاعلة.

دور الأمم المتحدة وملابساته

قبل أن نشير إلى أبعاد وملابسات اجتماع مجلس الأمن الأخير، نشير إلى أن المجلس أصدر بياناً الأحد الماضي لمناسبة الاشتباكات الأخيرة في طرابلس. وأشار هذا البيان إلى ضرورة معالجة الخلافات عبر الحوار بروح من التوافق والمشاركة بشكل كامل وشفاف.

ورأى أن الاشتباكات العنيفة الأخيرة في طرابلس كشفت عن هشاشة الوضع الأمني في ليبيا وضرورة إحراز تقدم على المسارين السياسي والأمني، كما هدد البيان بمعاقبة معرقلي الانتخابات، مؤكداً التزامه عملية سياسية تسهلها الأمم المتحدة بناءً على مفاوضات لجنة (6 زائد 6) المشتركة بين مجلسي النواب ومجلس الدولة للخروج بخريطة طريق انتخابية قابلة للتطبيق، وحض الجهات المعنية الليبية على مضاعفة جهودها لوضع اتفاق سياسي لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في أقرب وقت.

ثم عقد المجلس جلسة استماع نهاية الأسبوع الماضي لكي يقدم باتيلى إفادته عن التطورات، فتحدث عن أنه سعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف:

أولها إقناع مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة بالنظر في المقترحات المقدمة بهدف معالجة الثغرات القانونية وأوجه القصور الفنية من مشاريع قوانين الانتخابات التي أعدتها لجنة (6 زائد 6) المشكلة من قبل المجلسين.

والهدف الثاني هو البحث في إمكانية عقد اجتماع مباشر بين الأطراف المعنية الرئيسة أو ممثليهم بهدف التوصل إلى اتفاق سياسي.

أما الهدف الثالث فهو إدارة الحوار بين الجهات الأمنية والعسكرية لتهيئة بيئة أمنية تمكن من إحراز تقدم في الانتخابات وتحقيق استقرار مستدام، كما أضاف المبعوث الأممي أنه يتفاعل مع خليفة حفتر وعقيلة صالح لمعرفة شواغلهما الانتخابية، ويعمل مع المنفي للنظر في إمكانية عقد مفاوضات بين القادة الليبيين والأطراف الرئيسة.

وما هو واضح من تلك الإفادة أن هناك افتراض وجود تنسيق بين باتيلي ومحمد المنفي في تحركه الأخير، كما أن المبعوث الأممي تجاهل تهديداته السابقة بإنشاء لجنة موسعة تتولى مهمة التوافق على القوانين الانتخابية، وهو مقترح كان أثار ضغينة معظم القوى السياسية الليبية وليس فقط مجلس النواب، وعموماً فإن تراجع المبعوث عن هذه التهديدات والتعامل بنهج جديد واقعي يحترم الأطراف الليبية يمثل تطوراً إيجابياً.

ترسيخ للنفوذ التركي

من ناحية أخرى ففي التقدير أن أهم ما شهدته الساحة الليبية أخيراً هو تعزيز خطوات إضافية للنفوذ التركي، فمن ناحية شارك عبدالحميد الدبيبة السفير التركي يلمز في وضع حجر الأساس لمشروع محطة جنوب طرابلس الغازية الجديدة بقدرة 1320 ميغاواط تقيمها تركيا، وتحت شعار أنه بعد إنشاء هذه المحطة لن يعاني جنوب طرابلس انقطاع الكهرباء.

والأهم هو الضجة وتباين المعلومات حول صحة قيام حكومة الدبيبة باستئجار ميناء الخمس لتركيا لبناء قاعدة عسكرية لمدة 99 عاماً، وقد نفت حكومة الدبيبة هذا الأمر وسط تحذيرات بإضرابات واضطرابات رداً على هذه الخطوة، التي وإن لم تتأكد فقد نتجت عن زيارة قطعة بحرية عسكرية تركية للميناء المهم استراتيجياً لليبيا.

والمؤكد أن الدبيبة الذي تتراجع أسهمه داخلياً حتى مع حلفائه السابقين يتحول إلى مزيد من الاعتماد على تركيا أسوة بما اضطر إليه سلفه السراج سابقاً ومن ناحية أخرى لم تقم أنقرة بأية خطوة لتخفيف المواقف التي سببت إزعاجاً إقليمياً ضدها ولا تزال أعداد المرتزقة السوريين وأماكن وجودهم في غرب ليبيا من دون أي تغيير وتحت سيطرة تركية كاملة.

المشهد الشامل

ما يتضح من العرض السابق هو استمرار تداعيات متوقعة، سواء في ما يتعلق بتكريس النفوذ التركي في غرب البلاد، أو حدوث مظاهر الانفلات الأمنية في المنطقة نفسها في ظل وجود ترتيبات سياسية تعتمد على الميليشيات والمرتزقة لضمان بقائها، بينما تتمثل الخطوات الإيجابية في توحيد المصرف المركزي، وفي تحركات المنفي المنسقة مع بعثة الأمم المتحدة التي أصبحت تضيق خياراتها، بدليل جلسة الإفادة الأخيرة.

وفى جميع الأحوال تؤكد المعضلة الليبية أن أوضاعها ستظل مرشحة للتدهور والارتباك المتواصل ما لم يتم اتخاذ خطوات جادة تعالج أمرين معاً وليس بشكل مجتزئ، وهما عقد الانتخابات والسيطرة على سلاح الميليشيات، وما لم يتغير هذا سيشكل استمرار الأوضاع الحالية مزيداً من ترسيخ النفوذ التركي في البلاد وتعقد فرص الخروج من الأزمة المزمنة.

ـــــــــــــــــ

مواد ذات علاقة