بقلم د. طارق محمد الجملي

الصراعات الداخلية تعد أحد العوامل المهددة لاستقرار الدولة. فهذه الصراعات تؤدي في أغلب الأحوال إلى تكفيك الروابط الاجتماعية.

وهذه المشكلة تبدو أكثر تعقيدا في المجتمعات ذات التكوين القبلي، حيث المشكلة لا ترتبط فقط بحالة النزاع القائم، ولكنها تمتد إلى ما بعد هذا النزاع، حيث العلاقات الاجتماعية التي تصدعت تحتاج إلى وقت طويل لإعادتها إلى ما كنت عليه.

الجزء الأول

إن تطبيق فكرة العدالة بوسائلها التقليدية ستمثل في مثل هذه المجتمعات أحد مشاكل النزاع لا أحد حلوله. ففكرة العدالة في صورتها التقليدية التي تتخذ فكرة الجزاء الجنائي المطبق عبر سلسلة الإجراءات المسماة الدعوى الجنائية لن تؤدي – في تقديرنا – إلى حسم النزاع بقدر ما أنها ستمثل مجرد إعلان عن انتهاء الخصومة من الناحية القانونية، ليبقى النزاع على المستوى الاجتماعي قائما.

على الرغم من التطور الذي شهده الفكر القانوني الجنائي، إلا أن نظرة المجتمع القبلي ما زالت تعد الجريمة اعتداء شخصيا على حقوق الضحية. ولهذا، فإن حسم النزاع يجب أن يأخذ في الاعتبار هذه الطبيعة الخاصة، بحيث تكون الضحية هي أساس أي حل من خلال مشاركتها في التسوية.

إن العدالة التي تستهدف حل النزاعات الداخلية التي تحدث على خلفية الثورات تتسم – فوق ما تقدم – بخاصية إضافية وهي أن مرتكب الجريمة عادة ما يتمتع بالقوة التي تؤهله لأن يكون بعيدا عن طائلة العقاب. ولهذا فإن أسلوب الملاحقة الجنائية التقليدية لن يؤدي إلى تسوية النزاع من الناحية الواقعية لا سيما على المستوى الاجتماعي.

ولهذا فان تبني أساليب جديدة تأخذ في الاعتبار طبيعة النزاع وتهدف إلى تسوية الخلاف وإزالة آثاره من الناحية الاجتماعية سوف يمثل أحد الحلول الناجعة لتذليل الصعوبات التي تواجه أي مشروع للمصالحة الوطنية. فمن ناحية، إذا كان من أهم الصعوبات التي تواجه مشروع المصالحة الوطنية هو صعوبة إخضاع الجناة – بسبب مراكزهم – لنظام جزائي، فإن نظام العدالة المقترح يجب أن يستهدف إيجاد حلول تكفل إخضاع الجناة للمساءلة الجنائية الطوعية.

كما أنه يجب أن يضمن إيجاد حل يلائم الضحية ويسكن جراحها من خلال مساهمته في تحديد طريقة تسوية الخلاف.

التجربة الليبية لا تبدو بعيدة عن هذا التصور للمشكلة.

فالصراع بعد ثورة السابع عشر من فبراير هو صراع نخبوي، وإن كانت تقوده مجموعة صغيرة، لكنها تتمتع بقاعدة شعبية تؤيدها. ولهذا كان يبدو أن وضع تصور للمصالحة الوطنية لا يمكن أن يتجاوز مسألة تطبيق العدالة التي من خلالها يمكن جبر الضرر وضمان خضوع الجناة للمساءلة الجنائية في تصور جديد لفكرة العدالة.

العدالة الانتقالية مثلت خلال المراحل اللاحقة لثورة فبراير إحدى الوسائل لتجاوز مرحلة الصراع، حيث العديد من التشريعات صدرت تتبنى أنظمة مختلفة للعدالة الانتقالية. فما فاعلية هذه التجربة؟ وما هي البدائل الأكثر ملاءمة للحالة الليبية؟ وما مبررات تبني هذه البدائل؟

فاعلية التجربة الليبية في مجال العدالة الانتقالية بعد ثورة السابع عشر من فبراير

الخطوات نحو إرساء نظام للعدالة الانتقالية بدأت بشكل سريع بعد نجاح ثورة السابع عشر من فبراير، حيث صدرت مجموعة من التشريعات في إطار إرساء مبدأ العدالة الانتقالية. إلا أن هذه التشريعات تميزت بخاصيتين رئيستين:

الأولى، أن هذه التشريعات استهدفت إقصاء أحد أطراف النزاع من خلال إقرار مبدأ العزل السياسي.

والثانية، أن هذه القوانين منحت لبعض الفئات مزايا تشريعية تصل إلى حد العفو المطلق من العقاب،

إلا أن هذه التشريعات لم تضع آلية واضحة تستهدف تحقيق المصالحة الوطنية من خلال هذا العفو المطلق أو الإقصاء السياسي. بل على العكس تماما ، أُعتقد أن السياسة التي اعتمدتها تلك التشريعات أدّت وتؤدي إلى تعزيز حالة الانقسام الاجتماعي والسياسي، وتقوية حالة العداء بين أطراف النزاع الليبي من خلال حرمان أحد أطراف النزاع من أي ميزة يمنحها نظام العدالة الانتقالية تجسيدا لفكرة الإقصاء التي ذكرناها.

فمثلا نجد أن القانون رقم 35 لسنة 2012 بشأن العفو عن بعض الجرائم نص في مادته الأولى على استثناء بعض الأشخاص من تطبيق أحكام العفو عندما قررت هذه المادة إنه لا تسري أحكام هذا القانون على الجرائم المرتكبة من زوج المدعو معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي وأبنائه وبناته أصالة أو بالتبني وأصهاره وأعوانه“.

وفي نفس السياق، نجد أن القانون رقم 6 لسنة 2015 في شأن العفو العام تبنى نفس المنطق الإقصائي عندما قرر في مادته 3 استبعاد بعض الجرائم من نطاق العفو. فنصت الفقرة 4 من المادة المذكورة على عدم سريان قانون العفو بشأن جرائم القتل على الهوية والاختطاف والإخفاء القسري والتعذيب“.

حيث يبدو واضحا أن هذا القانون صادَر أهداف العدالة الانتقالية المتمثلة في فكرة رأب الصدع وتسوية الخلاف بين أطرافه، فتلك الجرائم التي ذكرتها الفقرة الثالثة هي في صميم المسائل التي نحتاج بشأنها إلى مصالحة وعفو يضمن جبر الضرر ويكفل عدم الإفلات من المساءلة الجنائية، بأسلوب يلائم المرحلة التي تمر بها الدولة الليبية.

إن هذا الإقصاء الذي تضمنته هذه القوانين يأتي في سياق سياسة إقصائية جرّدت مفهوم العدالة الانتقالية من أهدافها السامية لتجعلها مجرد عدالة انتقامية أو انتقائية لا تستهدف تحقيق مشروع حقيقي للمصالحة بقدر ما أنها زادت حالة الانقسام السياسي وأضعفت فاعلية نظام العدالة المتبنى.

يبدو واضحا أن هذه السياسة الإقصائية التي عرفتها تلك المرحلة في ليبيا، لم تقدم بديلا واقعيا يمكن من خلاله تحقيق العدالة للحالات المستبعدة من نطاق إعمال قوانين العدالة الانتقالية، الأمر الذي أدى إلى تأجيل الحل وإطالة أمد المشكلة وفتح المجال أمام تطور الأزمة.

فالعقاب عن حالات القتل والتهجير والحجز التعسفي يستلزم وجود دولة قوية تبسط سلطانها على كامل تراب البلاد. وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تجاوز ظروف المرحلة، فلا يتحقق إلا من خلال مشروع تصالحي يحقق العدالة ويعيد الأمن والسلام.

ولهذا يمكن القول أن فكرة المصالحة ترتبط بالعدالة الانتقالية، لأن إجبار قادة المليشيات العسكرية غير المشروعة ممن ارتكبوا ويرتكبون جرائم ضد الإنسانية بما في ذلك جرائم الحجز التعسفيعلى الخضوع لنظام عقابي تتبع فيه سلسلة الإجراءات الجبرية التي يتضمنها قانون الإجراءات، تبدو مسألة بعيدة المنال بسبب ما يتمتع به قادة تلك التنظيمات من قوة تجعلهم في موقع متميز بالمقارنة بإمكانيات الدولة الضعيفة.

ولذلك يبدو من الضروري إيجاد آلية جديدة للعدالة الانتقالية في ليبيا تضمن تجاوز عيوب التجربة السابقة.

يتبع في الجزء التالي بدءً بـ (نظام العدالة التصالحية إطار قانوني فعّال لتحقيق أهداف العدالة التوافقية)

***

د. طارق محمد الجملي ـ عميد كلية القانون جامعة بنغازي، أستاذ القانون الجنائي

____________

نشر هذا المقال في العدد | 13 | ديسمبر 2018، من مجلة المفكرة القانونية

مواد ذات علاقة