بعد تسعِ سنواتٍ عجافٍ مرّت منذ اندلاع الثورة الليبية عام 2011، لا زالت ليبيا في النفق المُظلم، فالانقسام السياسي والصراع العسكري لم يحسما الخلاف لصالح الطرف الأقوى حتى الآن.

كذلك فشلت كافة خطط الأمم المتحدة في الوصول إلى تسوية؛ فالسلاح لم يحلّ المشكلة، والمبادرات الدولية مزّقت كل الأطراف لصالحها.

واحدةٌ من القضايا التي لم تتأثر بالصراع الممتد، هي ملف «نفط ليبيا» الذي يُنظر إليه من قبل البعض أنه المحرك الرئيس للأحداث، والورقة الثمينة التي اتفق الجميع على عدم المساس بها؛ حتى أنّ «مؤتمر برلين» –الذي ضم 12 رئيسًا يُشار لهم بأنهم شركاء الحرب بالوكالةجاءت مُخرجاته علانيةً على النحو الآتي:

«نفط ليبيا أولًا.. ثم الهدنة»، رغم أن المؤتمر عُقد بالأساس لوقف إطلاق النار. هذا التقرير يشرح لك البُعد الغائب في الصراع الليبي، وكيف يرسم نفط ليبيا إلى حد بعيد سياسات الجميع تجاه ليبيا.

الفصل المنسي من تاريخ الثورة.. نفط ليبيا أهم من الأرواح

قبل عام 2011، كان معمّر القذافي دكتاتورًا شرسًا يحكمُ بلدًا حاول منافسه جيرانه في الزعامة، وبفضل نفط ليبيا الذي مثّل نحو أكثر من 90% من مصادر الدخل القومي.

امتلكت ليبيا أعلى معدلات نمو اقتصادي على مستوى القارة، وهو ما انعكس على الليبيين الذين منحتهم حكومتهم الكهرباء بالمجان، ووفّرت لهم قروضًا من البنوك بنسبة فائدة 0%، على الرغم من كل شراستها وعنفها ضد من يخالف آراء العقيد منهم، وامتدّ حُلم العقيد إلى أفريقيا؛ فتبنّى فكرة «الدينار الذهبي» ليكون عُملة أفريقية موحدة هدفها إسقاط الدولار الأمريكي، وهي الفكرة التي أزعجت أنظمة غربية وعربية على السواء.

قرب ليبيا من الأسواق الأوروبية ومساهمتها بنحو 1.65 مليون برميل يوميًا من النفط الخفيف النادر عالي الجودة، وعضويتها في منظمة «أوبك»، كانت بمثابة أوراق القوة التي ساوم القذافي بها الغرب على بقاء نظامه، خاصةً أنه لا توجد دولة تستطيع تعويض حصة ليبيا النفطية، حتى السعودية نفسها.

والعقيد الليبي بنى تصوراته حينها بناءً على تذبذب أسعار النفط في ظل الأزمة العالمية، ووصول سعر البرميل إلى أعلى مستوى له في التاريخ بنحو 147 دولار في البرميل عام 2008.

كما أنّ تجربة الثورة الإسلامية في إيران كانت لا تزال حاضرة؛ فحين انقطعت إمدادات النفط عن السوق بما يقارب نحو مليوني برميل يوميًا، تضاعفت الأسعار من 13 دولارًا للبرميل في منتصف عام 1979 إلى 34 دولارًا في منتصف عام 1980.

وبعدما اندلعت الثورة الليبية في 17 فبراير (شباط) عام 2011، خشى القذافي من تكرار السيناريو الذي حدث في تونس ومصر، فلجأ مباشرة لاستخدام الحل العسكري وتصفية المتظاهرين السلميين في البداية؛ وكانت النتيجة الحتمية لهذا القرار أن تسلّح الثوار واستولوا على مستودعات الأسلحة الليبية، ودخلوا في مواجهات مفتوحة مع القذافي والقبائل الموالية له، ثم انتقل الصراع إلى المنشآت النفطية.

تجاهل مجلس الأمن في البداية دعوات جامعة الدول العربية لفرض حظر جوي علي ليبيا بعدما استخدم القذافي الطيران لقصف المدنيين، وفي الوقت نفسه عقد وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي اجتماعًا لمناقشة تداعيات الاضطرابات في الشرق الأوسط على أسعار الطاقة والنفط العالمية، خاصة بعدما أعلنت وكالة الطاقة الدولية التي تمثل مصالح الدول الصناعية المستهلكة للنفط، أنّ حجم الإنتاج الليبي المُعطّل يصل إلى ميلون برميل.

وحين جاءت التطورات على الأرض سريعًا بخسارة القذافي معظم حقول النفط والغاز الليبية، وجّه الثوار أولى رسائلهم بالتعهد بالوفاء بالتزامات الخاصة بالاتفاقات الليبية حول صادرات النفط، ليبدأ فصلًا جديدًا من الثورة الليبية بعد نحو شهرٍ من تصاعد الأحداث بتشكيل تحالف دولي لإسقاط القذافي.

أصدر مجلس الأمن الدولي في مارس قرارًا بفرض حظر جوي علي ليبيا، وإباحة استخدام القوة لحماية المدنيين من هجمات القوات التابعة للقذافي، بعدما فقد القذافي سيطرته على نفط ليبيا، ثم شكلت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا لإسقاط النظام انتهى بتسليم قيادته إلى حلف الناتو الذي أعلن أنّ عملياته العسكرية ستشمل كافة الأراضي الليبية، وليس فقط مناطق النزاع، وتضمنت حقول النفط والموانئ النفطية التي أصبحت تحت رعاية أجنبيةٍ خالصة.

استمر القتال ستّة أشهر، حتى استطاع الثوار دخول العاصمة الليبية طرابلس، ليعقبها بشهرين قتل القذافي يوم 20 أكتوبر 2011، في مدينة سرت مسقط رأسه، وبعدها بأيام أعلن المجلس الوطني الانتقالي الذي لاقى اعترافًا دوليًاسقوط النظام وانتهاء الحرب.

ليس حفتر ولا السراج.. من يتحكم في نفط ليبيا؟

المفكر الليبي الصادق النيهوم ( التي توفى قبل ثورة فبراير بأكثر من 14 عاما) وصف حال ليبيا بعد الحرب قائلًا: «الحرب لا تستمر خمس سنوات كاملة دون أن تصبح مملة، الحربُ مثل أى مسرحيةٍ أخرى، لا تستطيع أن تكون مثيرةً إلى الأبد»، وهو يرى أنّ السبب في ذلك راجعٌ إلى أنّ: «ليبيا بلد مبني بالقش ويطفو فوق بحيرات البترول.. فما أسهل أن تأكله النيران».

تتنازع على الحكم في ليبيا بعد سقوط القذافي سلطتان متنافستان منذ 2015؛ هما حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة برئاسة فائز السراج وتتخذ من العاصمة طرابلس مقرًا لها، وسلطة موازية في الشرق تدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر وتحظى بدعم برلمان طبرق المنتخب عام 2014.

ويرسم المشهد الليبي حاليًا برلمانان متنافسان، وحكومتان تتنازعان الشرعية، وعدد لا يُحصى من الجماعات المُسلحة، وبنكان مركزيّان، وشركتان نفطيّتان وطنيّتان إحداها في طرابلس معترف بها، والأخرى موازية في بنغازي وتابعة لحفتر، وتبرز ورقة النفط باعتبارها إحدى كلمات السر المفتاحية لفهم الصراع الحقيقي الذي يتمثل في التنافس على النفط وعائداته بين طرابلس وبنغازي.

يسيطر حفتر فعليًا على معظم حقول ومنشآت النفط في ليبيا، بما فيها حوض سرت الذي يمثل نحو ثلثي الإنتاج الليبي من النفط، إضافة إلى سيطرته على منطقة «الهلال النفطي» التي تمتد لمساحة تتجاوز 250 كم من بنغازي شرقًا إلى سرت غربًا، وتحتوي في داخلها 80% من احتياطي النفط الليبي، واجتاحت قواته أيضًا الجنوب الليبي، وسيطرت على حقلي الفيل والشرارة الرئيسيين، ويبلغ إنتاج الأخير نحو 300 ألف برميل يوميًا.

وقبل ذهاب الجنرال الليبي إلى مؤتمر برلين، أغلقت قواته موانئ النفط الرئيسية في شرق ليبيا، وهو ما أوقف نصف صادرات البلاد، ووفق بيان المؤسسة الوطنية لنفط ليبيا، التابعة لحكومة الوفاق، فمن المتوقع أن ينخفض الإنتاج إلى 72 ألف برميل خلال أيام بعد إغلاق الموانئ، بعدما كانت ليبيا تنتج أكثر من 1.3 مليون برميل يوميًا، في حين بلغت عائدات النفط العام الماضي نحو 22.5 مليار دولار، وفق تصريحات رسمية.

ورغم أنّ الجنرال الليبي يفرض نفسه سياسيًا في ليبيا عبر سيطرته العسكرية، إلا أنّه لا يمتلك حتى الآن شرعية بيع النفط في المناطق التي يسيطر عليها، ويطالب حفتر رسميًا بتقسيم عائدات النفط بينه وبين حكومة الوفاق التي تمتلك حصرًا بيع النفط بموجب قرارات دولية صارمة حيّدت مؤسسة النفط الرسمية بعيدًا عن الصراع السياسي، حتى أنّ الأمم المتحدة أجبرت فائز السراج على التزام حكومته بتمويل قوات شرق ليبيبا التي تحاصرها، وهي القوات المكلفة بحراسة النفط.

ويحصل حفتر على حصة من عائدات النفط الليبي في صورة المرتبات التي يمول بها جيشه منذ سيطر على منشآت الهلال النفطي في يونيو من العام 2018، والتزم حفتر حينها بتسليم المنشآت لحكومة طرابلس بدلًا من الحكومة المؤقتة في بنغازي مقابل صفقة رسمية تمثلت في تمويل جيشه في صورة رواتب تدفعها حكومة الوفاق بصورة منتظمة.

امتلاك حكومة الوفاق المؤسسة الوطنية دون حقول النفط، واستحواذ حفتر على أغلب الأراضي الليبية، بما فيها المنشآت النفطية دون الاستفادة من عائداتها الضخمة يرسم فعليًا البُعد الغائب في الصراع الليبي؛

فأهمية طرابلس الحقيقة إلى جانب رمزيتها السياسية تكمن في استحواذها على مؤسسة النفط الرسمية باعتبارها الهيئة الشرعية الوحيدة المدعومة من الأمم المتحدة التي يحق لها تشغيل وإنتاج وتصدير النفط، لذا تكتسب العاصمة أهمية سياسية كبرى لمن يُسيطر على ذلك المبنى القابع في قلبها.

وسبق أن كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» تعاون حفتر مع عدد من الدول الأوروبية والعربية وعلى رأسها الإمارات في توقيع عقود مع 18 شركة على الأقل عبر المؤسسة الموازية لبيع النفط، وسبق أن خسرت ليبيا نحو 920 مليون دولار بسبب إغلاق حفتر موانئ وحقول النفط شرق ليبيا عام 2018.

وفي ظل تحذيرات المؤسسة الوطنية الليبية للنفط إنها قد تضطر إلى وقف إنتاج النفط الخام بالكامل، كشفت صحيفة «لاريبوبليكا» الإيطالية أنّ فرنسا عرقلت قرارًا إدانة بحق حفتر، كانت قد أعدته الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا، وتشير الصحيفة إلى أن موقف باريس الداعم لحفتر والمُعادي للوفاق ينبع من سعيها للفوز بجزء من العطاءات التي تستعد الشركة الوطنية الليبية للنفط لاستثمارها في قطاع النفط بقيمة ثلاثين مليار دولار وهو ما يرسم بُعدًا آخر غائبًا في خريطة التحالفات بين جناحي حفتر والسراج.

النفط يحدد الحلفاء.. لماذا تدعم إيطاليا الوفاق وفرنسا حفتر؟

لدى شركتي «إيني» الإيطالية و«توتال» الفرنسية مشاريع مشتركة مع شركة النفط الوطنية في طرابلس، لكنّ حكومتيهما كانتا دومًا على خلاف حاد بشأن السياسة حول من يجني أولًا بترول ليبيا؛

فإيطاليا تؤيد حكومة طرابلس لأنّ المصالح الاقتصادية لروما تتركز في الأراضي الواقعة تحت سيطرة الوفاق، في حين أنّ اهتمامات فرنسا بحفتر تتركز في أنّ مركز استثماراتها السياسية تتركز في الأماكن التي يفرض سيطرته عليها والواقعة في الجنوب الليبي إضافة إلى مدن الساحل.

وتعد إيطاليا الشريك الأول للنفط في ليبيا، إذ تتسابق مع فرنسا على انتزاع حصة كبرى من نفط ليبيا، ونجحت باريس مؤخرًا في انتزاع حصة 16.33% من شركة «الواحة»، أهم شركة نفط في ليبياالتابعة لمؤسسة النفط الليبية، والصفقة جاءت بعد سنواتٍ من رفض طرابلس التي اشترطت دفع 650 مليون دولار.

وصفقة شركة «توتال» الفرنسية، جاءت عقب إعلان شركة «إيني» الإيطالية أواخر عام 2018 استحواذها على نصف أصول ليبيا من النفط والغاز، وهو ما أفرز صراعًا سياسيًا خالصًا انتهى لدعم فرنسا حفتر في المعركة التي شنها لإسقاط طرابلس في أبريل العام الماضي.

وبخلاف شركتي «توتال» الفرنسية، و«إيني» الإيطالية، تبرز شركات نفطية أخرى عالمية مثل شركة «فينتر شال» الألمانية وشركة «أو أم» في النمساوية و«بريتش بتروليوم» البريطانية، و«غاز بروم» و«تات نفت» الروسيتين، و«ريبسول» الإسبانية و«سوناطراك» الجزائرية، بالإضافة لشركات أخرى أمريكية وتركية وصينية ومصرية تعمل في مجال الحفر.

واللافت أنّ تلك الشركات العاملة في مجال الطاقة في ليبيا، تمتلك بلدانها أدوارًا رئيسية في الصراع الليبي، لذا حين اجتمع الفرقاء وجهًا لوجه في مؤتمر برلين، أقرّ الحاضرون إرساء قواعد الحرب بالوكالة ممثلة في الامتناع عن الأعمال القتالية ضد المنشآت النفطية، وهو القرار الذي حصل على ضمانات وتعهدات كافية، على عكس قرار وقف إطلاق النار.

ورغم أن الدول الداعمة لحفتر رسمت خطًّا أُحاديًّا للأزمة على أنه صراع هوية علمانية ضد الأصولية الإسلامية، وهو المبرر الأخلاقي الذي يستند عليه الجنرال الليبي للوصول إلى طرابلس، لكنّ الحقيقة أن تركيا شأنها شأن غيرها تمتلك أيضًا دافعًا اقتصاديًا أقوى من الأيديولوجيا للتحالف مع حكومة الوفاق؛ وهي ملفات تتعلق بـ«الطاقة، والملاحة، والعقود التجارية».

يقول الأكاديمي الفرنسي جلال حرشاوي في حوار مع معهد «كارنيغي» للشرق الأوسط: «تبلغ نسبة المغتربين الاتراك في الوطن العربي والذين يعملون في ليبيا نحو 25%، كما تتجاوز قيمة العقود التجارية التركية العالقة في ليبيا 18 مليار دولار، ما يعني أن ثمة العديد من مشاريع البناء والبنى التحتية لن تُنفّذ في حال أسقط حفتر حكومة الوفاق الوطني».

أما الملف البحري، فتركيا تحتاج ترسيم الحدود مع ليبيا بحثًا عن حصة في غاز شرق المتوسط مدفوع من حاجتها الداخلية لمصدر طاقة، وتعتمد أنقرة رسميًا على استيراد نحو 75% من احتياجاتها من الطاقة من الخارج، ويتحمل ميزان مدفوعاتها نحو 40 مليار دولار سنويًا، والرقم يزداد كلما مرت أزمة انخفاض يواجهها سعر الليرة.

 لذا ومن وجهة نظر مِلاحية، فالتوافق الجيوسياسي لم تكن تركيا لتحصل عليه، إلا بدعم حكومة الوفاق وتوقيع اتفاقية لإنشاء ممر بحري يصل بين غرب تركيا وشرق ليبيا، بهدف إقامة منطقة اقتصادية خالصة.

على جانب آخر أيضًا انخراط مصر في الأزمة الليبية له أهداف اقتصادية كبيرة بجوار الأهداف الأخرى التي تعلنها، واللافت أن الجنرال الليبي سبق وهاجم القاهرة عقب سقوط القذافي، ووصفها بالدولة الفقيرة التي تمتلك أطماعًا في ليبيا، لذا وصفها حينها بـ«الدولة العدو».

لكنّ رأي حفتر تغير بتغير الحال بعدما أصبح مدعومًا بمدرعات وأسلحة مصرية، إضافة إلى الدعم الجوي، وسبق لرئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، أن اتهم حفتر بعقد اتفاقيات مع شركات مصرية وإماراتية لبيع النفط الليبي بسعر 55 دولارًا للبرميل بطرق غير مشروعة.

وتقدر احتياطات النفط الليبية بحوالي 48 مليار برميل، كما أن احتياطات النفط الصخري تقدر بحوالي 26 مليار برميل، وهي الثروة التي تتسبب في تأزم الصراع الليبي ودخوله مرحلة الحرب بالوكالة بين الأطراف المتناحرة بحثًا عن حصة من نفط ليبيا.

___________

مواد ذات علاقة