بقلم فوزية بريون

من المؤسف أنه وبعد قرابة عقد من الزمان على انتفاضة فبراير نجد أن بلادنا قد صارت على شفا الإنهيار الكلي، بعد سلسلة من الإنهيارات الجزئية على الصعيد السياسي والإقتصادي والإداري والإجتماعي، بل والإخلاقي، أدت تداعياتها المعقدة إلى هذا التحارب والإشتجار بين جناحي الوطن.

الجزء الثاني

ثانيا: سؤال الهويّة

يمكن تعريف الهويّة بأنها التصور العقلي والنفسي والوجداني للذات الجماعية في تفاصيل الزمان والمكان. وهي مرجعية جامعة للفرد في إطار الجماعة، وللجماعة في تنوع سمات أفرادها. فهوية الشيء هي ماهيته، أي ما يكون به الشيء مطابقا لذاته، متميزا عن غيره.

وتشمل الهويّة عدة مستويات بعضها جوهري ثابت، وبعضها الآخر عرضي متغيّر، محكوم بتحولات الواقع وتقلبات الظروف. والهويّة بهذا المعنى “هي نسق من الموروثات الحضارية ومن الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالكون والسلوك الإنساني، ومن المعايير الأخلاقية والعقائد الدينية … وهي كذلك مجموع التراث الثقافي والحضاري الذي ترثه جماعة ما عن ماضيها مما يساهم في تشكيل كيانها”.

وهناك أنواع متداخلة من الهويّات: فردية للأشخاص، وعرقية للجماعات الإثنية، وإقليمية (مدن .. أرياف .. صحارى .. واحات)، وجهويّة (شرق .. غرب .. جنوب .. شمال)، وثقافية (حسب القيم والعادات والممارسات السلوكية).

ولكن الهويّة الجامعة الشاملة التي تنصهر في بوتقتها كل الهويات الثانوية هي الهويّة الوطنية. ولذلك تحتاج هويّة الجماعة إلى بقعة جغرافية تكون مركز انتماء، ومسرح تاريخ، وبؤرة تجارب مشتركة. وعليه فإن الهويّة تتبلور، في السياق المعاصر، على أرض الوطن الأم، ثم إطار الأمّة الأكبر، وقد تمتد تشابكاتها بدرجة أقل إلى تخوم الإنسانية الأرحب، لتثري أبعاد هويّتها فكريا وفلسفيا ووجدانيا.

ولقد طُرحت في ستينيات القرن الماضي دعوة ذات علاقة بمسألة الهويّة، إلا وهي الدعوة إلى “الشخصية الليبية” التي أطلقها آنذاك، في خطاب عام يوم 21 نوفمبر 1967، رئيس الوزاء الشاب المثقّف، عبدالحميد البكوش.

وهي دعوة على صلة وثيقة بموضوع الهويّة. إذ تهدف إلى تعزيز مستوى رئيسي من مستوياتها وهو مستوى الإنتماء الوطني، وجعله زاوية النظر الأولى للذات الفردية والجماعية، باعتباره بؤرة التراكم التاريخي لكل الليبيين.

كانت فكرة بسيطة وواضحة ومباشرة، تهدف إلى جعل الوطن يحتلّ مكانا مركزياّ في وجدان كل ليبي وضميره، وكانت مجردة من التسويق الأيديولوجي الذي كان يصبغ تلك المرحلة. ومع هذا فإن أصحاب المدّ القومي، الذي أحبطته هزيمة 67 وأفرغت من شحنة خطابه الحماسي، قد انبروا لمحاربة لمحاربة هذه الفكرة، واتهامها بأنها دعوة إنعزالية إقليمية تنكفئ بليبيا على نفسها، وأنها على أحسن الفروض “كلمة حق يراد بها باطل”.

ولهذا وجّه زملاء البكوش من المثقفين القومييّن عموما، والناصريين خصوصا، حملاتهم ضد هذه الدعوة وضد الجانب التعليمي الذي تزامن معها، ولكنّ أمد تلك الحملات لم يطُل، إذ شهدت البلاد انقلاب سبتمبر وبدأت مشاهد النكبة الليبية تترى وتتوالد.

ولكن صاحب الدعوة، لم يفقد إيمانه بجدوى فكرته، خاصة وهو يتابع من منفاه تفاصيل إنهيار الوطن الذي وُلد من رحم جهاد الأجداد ومكابداتهم، فأراد أن يستدعيها علّها تضيف بُعدا مهما إلى رؤى المعارضة، التي ازدهرت في الخارج في في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

فكتب في عام 1996 مقالا أرسله إلى مجلة شؤون ليبية الصادرة في المنفى، بعنوان “الشخصية الليبية”، لخص فيه الفكرة الأساسية، التي هي عبارة عن تعزيز الإنتماء الحق لليبيا البشر وليبيا الوطن. فلقد لمس في السينيات عدم وعي الليبيين بتاريخهم، وعدم انشغالهم بقضايا وطنهم، والإنخراط في تطوير مستقبلها ومستقبلهم.

فقام آنذاك بطرح هذه الدعوة إنطلاقا من حقيقة “أن الليبي لن يستطيع المساهمة في بناء أمة عربية أفضل إلا بعد أن يفرغ من إنجاز وطن ليبي أفضل وأقدر”. رادا على معارضيه القدامى بقوله “إن حصر الإنتماء إلى الأمة لفكرة الإنتماء ذاتها، وهو يشبه التركيز على الإهتمام بالوطن والدولة، وإغفال المنطقة والمدينة والأسرة. مؤكدا على “أن الإنتماء للأمة أمر أوسع من أن تتحرك فيه إرادات الأفراد، بل الطريق إلى الأمة يمرّ بالوطن. إذا لم تفعل كل شيء من أجل أجزائها”.

ولكن هجمة الإستبداد الشرسة التي بدأت في 69 كانت قد تسلّمت المشهد، فكان أول ما عبثت به وفرّغته من محتواه هو الهويّة الوطنية والشخصية الليبية، وجماع الخيوط التي ينتسج بها الكيان الليبي الهش. وسيكون من باب الإطناب والتزيّد في الكلام والتعرّض لتفاصيل ذلك، فلنكتف بالإشارة إلى العوامل التالية:

ـ القطيعة شبه الكاملة بين الشعب وتاريخه الحقيقي، حيث تعرّض ذلك التاريخ إما إلى إهماله والتقليل من قيمة رموزه وأحداثه، أو إلى التجزئة والتشويه والتزوير.

ـ النيل من مقدسات الليبيين العقدية، بتجرؤه على الطعن في الدين، وتحريف القرآن، وتفسيره على هواه، من إنكار السنة النبوية، وتغيير التقويم الهجري، وتكذيب المعراج، وإنكار سنة ريارة المسجد النبوي، بل أنه قد وصف الكعبة بأنها “آخر صنم ما زال قائما من الأصنام” … والقائمة طويلة.

ـ التبشير بالعروبة والوحدة العربية ورفع شعاراتها والبذل في تسويقها، ثم الردة عنها والتعريض بالعرب، ونعتهم بأحقر الأوصاف، وإهانة الرؤساء العرب، والجامعة العربية، وتحقير كل ما هو عربي، والتحول بعدها نحو الإفريقية ثم العالمية، عن طريق توسيع منظمات “أصدقاء الكتاب الأخضر” المزروعة في العالم.

ـ الإدعاء بأن “القرآن شريعة المجتمع” في حين أنه قد تبنّى شريعة الغوغاء، بفرضه “الكتاب الأخضر” وتسخير الأموال والأقلام والعقول للدعاية لذلك.

ـ جعل المجتمع الليبي حقل تجارب، وذلك بتدخله في كل أمر، وفرض آرائه التجريبية في التعليم والثقافة والسياسة والإقتصاد والإعلام، وجميع مناحي الحياة .. وهي تجارب متغيرة لشخصية سيكوباثية متسلطة. ومما لا شك فيه أن أكثر تلك التجارب ضررا بالهويّة هي المتعلقة بالتعليم، الذي وسمت مخرجاته بالضعف الشديد في المستويات الدنيا والعليا على السواء.

ـ إلغاء إسم ليبيا العريق، المحفور في وجدان أجيال ممتدة، واستبداله باسم مركب ثقيل هو “الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الإشتراكية العظمى” والذي يتم اختزاله بعد ذلك في إضعاف الهوية الموحدة لليبيين لدرجة لم يعد الشباب فيها يشعرون بأنهم ليبيون.

ـ تصفية الطبقة المتوسطة بقرارات مثل (البيت لساكنه، لا أجراء، تأميم التجارة ..) ومنع التمثيل النيابي والنشاطات السياسية الأخرى (من تحزب خان، التمثيل تدجيل، اللجان في كل مكان) وإلغاء القوانين، وإعلان “الثورة الثقافية” التي أدت إلى تأميم الصحافة الخاصة، ومهاجمة المكتبات وحرق الكتب التراثية في الميدان، ثم منع تعلّم اللغات الأجنبية. ثم إعلان “الثورة الإدارية” التي قضت على مرتكزات الدولة.

ـ منع الأقليات العرقيّة من ممارسة عاداتها وتقاليدها الخاصة، وحرمانها من التسمي بأسمائها، وتدريس لغتها، وإقامة احتفالاتها التراثية، وذلك عملاً على صهرهم في “المجتمع الجماهيري”.

ـ تجفيف منابع الثقافة والفكر والتوعية والإبتكار، بإلغاء الأنشطة المدنية الحديثة، كالمكتبات العامة ودور المسرح والسينما، والفنون الراقية التي من شأنها تنمية الذوق وشحذ الطاقات وإطلاق المواهب، وكذلك منع دخول الصحف والمجلات، وقصر استيراد الكتب على مؤسسة واحدة تابعة للنظام. هذا كله أدّى إلى أن تحرم الأجيال من تلقّي دروس في الأدب الليبي، أو الفنون الليبية، أو التراث، أو معرفة أبطال التاريخ والأدباء والشعراء، وغير ذلك من وسائل تغذية الهويّة.

ـ إنتشار الفساد السياسي والإداري، وتمكين وتفضيل أفراد “اللجان الثورية” وإظهارهم بمظهر الصفوة في المجتمع، وجعلهم قدوة للشباب المحروم من فرص تنمية الذات والمزايا المادية والمعنوية، وذلك بغية استقطابهم وتجنيدهم لخدمة أغراض النظام، وتوريطهم في ارتكاب ما لا يُرضي الضمير الحي.

كل هذه الوقائع، وغيرها كثير، قد أضر حتما بالعناصر الفاعلة في الهويّة الليبية، مما جعل الليبيين مشوشي التفكير، موزعي التوجهات، متناقضي الإنتماءات. وصارت صورة ذاتهم الجماعية ملتبسة عليهم وعلى غيرهم.

وقد استمر الحال خلال العقد الأخير، بل إن الممارسات السيئة التي تؤتي جهارا نهارا، مما ينكره الدّين والعرف والأخلاق، دون أن يكون هناك رادع يوقفها، أو قانون يعاقب عليها، لتوحي للشباب والصغار بضعف المجتمع الذي تستمد منه الهويّة.

البقية في الجزء التالي بدءً بـ “القبيلة

***

د. فوزية بريون ـ شاعرة وأديبة وناقدة ليبية. كانت لها عدة كتابات في عدد من الصحف اليومية في الستينيات، مثل جريدة طرابلس الغرب، والرائد، والبلاغ، والمرأة، وليبيا الحديثة، بالإضافة لكتبها عن مالك بن نبي، ولها أبحاث أكاديمية منشورة في دوريات محكمة.

_______________

المصدر: الفصول الأربعة ـ العدد 126 ـ صيف 2020

مواد ذات علاقة