محمود عبد الهادي

اختارت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ليبيا لتكون الدولة الثانية بعد هايتي من بين الدول التسع الذي اشتملت عليها إستراتيجية بايدن التنفيذية لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار في العالم في السنوات العشر القادمة.

  • فلماذا ليبيا وليس اليمن أو سوريا أو الصومال أو العراق، أو غيرها من الدول العربية الهشة التي أنهكتها الصراعات والأزمات، وغاب عنها الاستقرار لسنوات طويلة؟
  • لماذا عملت الولايات المتحدة على إسقاط القذافي ونظامه بعد أن سدد الفاتورة التي طلبوها منه كاملة؟
  • ولماذا لم تفعل شيئاً وتستغل سلطاتها في مجلس الأمن والناتو من أجل إيقاف الصراع وتحقيق الاستقرار في ليبيا كما فعلت لإسقاط القذافي؟
  • ما الدوافع والأهداف التي تقف وراء إدراج ليبيا في هذه القائمة؟
  • وما الذي ستحققه منها في غضون السنوات العشر القادمة؟

أسئلة كثيرة تفرض نفسها على الليبيين قبل غيرهم، من أجل البحث عن إجاباتها والاقتراب من فهم حقيقة ما يجري. ومن أجل ذلك نتناول في هذا المقال الأهمية الإستراتيجية لليبيا وتاريخ علاقاتها مع الولايات المتحدة.

تتمتع ليبيا بمزايا إستراتيجية بالغة الأهمية بسبب موقعها على بوابات أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، وقلة سكانها، فهي رابع أكبر دولة عربية، ورابع أكبر دولة أفريقية، والدولة رقم 17 على مستوى العالم

أهمية ليبيا الإستراتيجية

تتمتع ليبيا بمزايا إستراتيجية بالغة الأهمية على المستويين الجيوسياسي والاقتصادي، فهي تقع على بوابات أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط. ورغم قلة سكانها الذين يقدّر عددهم حاليا بحوالي 7.2 ملايين نسمة، فإن مساحتها الجغرافية تبلغ 1.7 مليون كيلومتر مربع، لتكون رابع أكبر دولة عربية، ورابع أكبر دولة أفريقية، والدولة رقم 17 على مستوى العالم، حيث تعادل مساحتها تقريبا مساحة كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليونان وإسبانيا والبرتغال مجتمعة.

ولكن هذه المساحة مع قلة عدد السكان تصبح عبئاً على الدولة في مواجهات التحديات الإدارية والتنموية والأمنية والعسكرية الداخلية والإقليمية والدولية، حيث يصل معدل الكثافة السكانية العامة إلى 4 أشخاص لكل كيلومتر مربع.

وتتضح لنا هذه التحديات بصورة جليّة عندما نعرف أن عدد سكان الدول الأوروبية الآنفة الذكر، والتي تعادل مساحتها مساحة ليبيا، يسكنها حوالي 290 مليون نسمة.

يزيد من الأهمية الإستراتيجية الجيوسياسية لليبيا اشتراكها في الحدود البرية مع ست دول عربية وأفريقية، هي: مصر والسودان وتشاد والنيجر وتونس والجزائر، كما تشترك حدودها البحرية مع ست دول كذلك، هي: مصر وتونس ومالطا وتركيا واليونان وإيطاليا، بساحل يمتد حوالي 1770 كيلومتر جنوب البحر المتوسط.

وترتبط جميع هذه الدول بمصالح مباشرة مع ليبيا، وتؤثر فيها تأثيراً بالغاً؛ سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً، يزيد من تعقيداته المكانة الاقتصادية التي تحتلها ليبيا بسبب مخزونها الضخم من النفط والغاز.

يشير البنك الدولي في تقريره بشأن ليبيا إلى أن استقرار وأمن ليبيا ستكون له تداعيات إقليمية إيجابية على قارتي أوروبا وأفريقيا، فقد احتلت ليبيا نهاية عام 2021 المرتبة الأولى بين الدول العشر الأعلى من حيث احتياطيات النفط والغاز الطبيعي المؤكدة عالميًا، والتي تصل إلى حوالي 3% من هذه الاحتياطيات.

ويبلغ الاحتياطي النفطي الليبي 41.5 مليار برميل، واحتياطي الغاز 52.7 ترليون قدم مكعب. ويذكر التقرير أن أوروبا استوردت عام 2021 ما يقرب من 71% من صادرات النفط الخام والمكثفات الليبية، وخاصة دول إيطاليا وألمانيا وإسبانيا. وقد بلغ عام 2022 إنتاجها من النفط 1.2 مليون برميل، لتصل عائداتها إلى 22 مليار دولار.

هذه الأهمية الإستراتيجية الجيوسياسية والاقتصادية التي تتمتع بها ليبيا جعلتاها ملتقى الأطماع الإقليمية والدولية منذ اكتشاف النفط أواخر خمسينيات القرن الماضي، حيث كان سكان ليبيا حينها أقل من 1.5 مليون نسمة، وقد استمرت هذه الأطماع والتدخلات حتى اليوم، بصورة أعاقت عملية التنمية والتطوير التي يقتضيها ارتفاع حجم العائدات وانخفاض عدد السكان، وشغلت القيادة الليبية بمغامرات إقليمية وصراعات داخلية حالت دون تأسيس الدولة الليبية على قواعد راسخة، تأخذ بعين الاعتبار نقاط القوة والضعف التي تفرضها عليها المزايا والتحديات الداخلية والخارجية.

ويبدو تقرير البنك الدولي متفائلاً من إمكانية إعادة بناء الاقتصاد الليبي، على الرغم من التحديات العديدة التي تواجهها ليبيا، إذا تمت مراعاة الركائز الأساسية الأربع التالية:

  • التوصل إلى اتفاق سياسي مستدام،
  • وإعداد رؤية مشتركة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية،
  • وتطوير نظام إدارة مالية عامة حديث ولا مركزي،
  • ووضع سياسة اجتماعية حديثة وشاملة تمكّن من إصلاح الإدارة العامة
  • وتميّز بشكل واضح بين الدعم الاجتماعي والأجور العامة.

ما تزال السفارة الأميركية في ليبيا تزاول أعمالها الدبلوماسية والتنموية من تونس، في انتظار استقرار الأوضاع الأمنية في ليبيا

العلاقات الأميركية الليبية

مرّت العلاقات الأميركية الليبية منذ استقلال ليبيا عام 1951 بثلاث مراحل:

الأولى المرحلة الملكية التي استمرت حتى عام 1969، والثانية مرحلة القذافي الذي أطاح بالملكية وأسس الجماهيرية، التي استمرت حتى ثورة فبراير/شباط 2011 التي أطاحت بنظام القذافي، ودخلت ليبيا بعدها في حالة اضطراب سياسي وعسكري وتنازع على السلطة استمر حتى اليوم رغم توقف العمليات المسلحة.

اعترفت الولايات المتحدة باستقلال ليبيا عام 1951، وأقامت معها علاقات دبلوماسية وقنصلية أواخر العام نفسه، وتمت ترقيتها إلى سفارة عام 1954.

ساد التوتر بين الولايات المتحدة وليبيا طوال فترة حكم القذافي، بسبب ميوله اليسارية وتحالفه مع الاتحاد السوفياتي، ومغامراته غير المحسوبة في دعم الأنظمة والمنظمات اليسارية في أفريقيا وخارجها.

وقد بدأ هذا التوتر بعد قيام القذافي بتأميم صناعة النفط عام 1972، وطرد الشركات الأميركية، مما دفع بالولايات المتحدة إلى فرض قيود على صادرات الطائرات العسكرية والمدنية إلى ليبيا. وفي عام 1979، تم إغلاق السفارة الأميركية في طرابلس بعد قيام مجموعات من الشعب بمهاجمتها وإشعال النار بها.

في العام نفسه تم تصنيف ليبيا ضمن الدول الراعية للإرهاب، وفي عام 1982 حظرت الولايات المتحدة استيراد النفط الليبي، كما شددت الضوابط والقيود على الصادرات الأميركية إلى ليبيا. وفي عام 1986، فرضت حظراً شاملاً على التجارة وجمدت أصول الحكومة الليبية في البنوك الأميركية.

وفي العام نفسه وقع انفجار في ملهى ليلي بمدينة برلين في ألمانيا الشرقية آنذاك، قتل فيه جنديان أميركيان، واتهمت ليبيا بالضلوع في هذا التفجير، مما دفع الولايات المتحدة إلى القيام بغارات جوية على طرابلس وبنغازي راح ضحيتها 15 شخصاً، وأصيب فيها العشرات.

في عام 1991، اتهمت الولايات المتحدة ليبيا بالوقوف وراء حادث تفجير طائرة بان إمالأميركية فوق لوكربي الأسكتلندية عام 1988، والطائرة التابعة لشركة الخطوط الفرنسية يو تي إيهالتي أسقطت فوق صحراء تينيري في الكونغو عام 1989، مما ضاعف الضغوط والقيود والحظر على ليبيا.

استمرت الاتصالات السرية بين الولايات المتحدة وليبيا من أجل رفع الحظر عن ليبيا ورفعها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إلى أن تم الاتفاق على ذلك عام 2004 مقابل قيام ليبيا بدفع التعويضات المقررة لأسر الضحايا والكشف عن برنامج ليبيا لأسلحة الدمار الشامل وتسليم كامل وثائقه ومستنداته.

وفي مايو/أيار 2006، استأنفت الولايات المتحدة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع ليبيا.

مع انطلاق أحداث ما يعرف بـالربيع العربيعام 2011، علّقت الولايات المتحدة أعمال سفارتها في طرابلس في مارس/آذار 2011، وطلبت من السفارة الليبية في واشنطن تعليق أعمالها، لتعاود السفارتان استئناف أعمالهما في سبتمبر/أيلول بعد سقوط نظام القذافي واعتراف الولايات المتحدة بالمجلس الوطني الانتقالي.

في سبتمبر/أيلول 2012، تعرضت القنصلية الأميركية في بنغازي إلى هجوم على أيدي مجموعات ليبية متطرفة، أدى إلى مقتل أربعة من أفراد البعثة من بينهم السفير الأميركي. وفي يوليو/تموز 2014، علّقت السفارة الأميركية أعمالها، وانتقلت إلى تونس في مارس/آذار 2015، بسبب الصراعات المسلحة بين الفصائل الموالية للسلطة الشرعية وقوات اللواء خليفة حفتر.

ما تزال السفارة الأميركية في ليبيا تعمل من تونس، في انتظار استقرار الأوضاع الأمنية في ليبيا، وتزاول أعمالها الدبلوماسية والتنموية من هناك، وتقدر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ما تم تقديمه إلى ليبيا من مساعدات بحوالي مليار دولار منذ سقوط نظام القذافي.

العلاقات الأميركية الليبية لم تقف عند هذا الحد، فالاتصالات الخاصة ما زالت قائمة على قدم وساق، وكان من أهمها هذا العام: الزيارة المفاجئة والغامضة التي قام بها وليام بيرنز مدير جهاز المخابرات الأميركية (سي آي إيه) إلى ليبيا في يناير/كانون الثاني الماضي، والتقى فيها بكل من رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة واللواء خليفة حفتر.

وكذلك الزيارة التي قام بها وفد عسكري من وزارة الدفاع الأميركية الشهر الماضي، ليبحث مع الحكومة الليبية تطوير العلاقات العسكرية الثنائية، بالتزامن مع الضغوط التي تمارسها واشنطن لدعم تشكيل قوة عسكرية ليبية مشتركة بين الجيش الليبي في غرب البلاد، وقوات الشرق التي يقودها خليفة حفتر. وهذه الزيارات تعمل على تهيئة الأجواء لتنفيذ خطة الإدارة الأميركية الخاصة بليبيا.

يتبع: خطة ليبيا

______________

مواد ذات علاقة