فيفيان يي

بعد أكثر من عقدٍ من الفوضى والحرب، الليبيون الذين ضاقوا ذرعًا بالعنف يطالبون بالسلام ويوضحون أنهم نالوا حظَّهم من العنف: «نريد أن نتذوق الحياة وليس الموت».

نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرًا لفيفيان يي، مديرة مكتب الصحيفة الأمريكية بالقاهرة؛ والتي تغطي السياسة والمجتمع والثقافة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حول التحول الحادث في الحياة الاجتماعية في ليبيا؛ حيث يشعر الليبيون الذين عاشوا في خضم سنواتٍ من القتال الدموي أنهم سئموا الصراع والعنف وتحول بعضهم إلى المسرح بهدف إقناع أنفسهم بالعودة إلى الحياة الطبيعية وإبعاد الشباب عن الميليشيات.

وتستهل الكاتبة مقالها بالحديث عن البسكيني الذي يؤدي عروضًا مسرحية الآن على مسرح مصراتة، وكان في السابق مقاتلًا ضمن صفوف الميليشيات، وتقول الكاتبة إن طه البسكيني عندما فاز بدور في مسرحية جديدة عن الجنود الذين اجتمعوا بعد موتهم في القتال، كان زيه في خزانة ملابسه بالفعل، وكان سرواله المموه على خشبة المسرح هو نفسه الذي كان يرتديه عندما كان مقاتلًا في ميليشيا خلال الحرب الأهلية الأخيرة في ليبيا قبل بضع سنوات، عندما أصابت غارة جوية البسكيني بجروحٍ، وقتلت عديدًا من رفاقه أثناء دفاعهم عن مدينتهم.

يقول البسكيني، البالغ من العمر 24 عامًا، والذي توفي شقيقه في الصراع نفسه، بعد بروفة أُجريت مؤخرًا على مسرحية «عندما كنا أحياء» على المسرح الوطني بمصراتة، ثالث أكبر مدينة في ليبيا: «يجلس الناس ويتحدثون إليك، وفي اللحظة التالية يتحولون إلى مجرد جثث، لا يمكن أن تنساهم أبدًا عندما كانوا يبتسمون ويتحدثون قبل ذلك بلحظاتٍ فقط».

ومضى يقول: «بصفتي ممثلًا على خشبة المسرح، أحاول أن أُظهِر الواقع للناس، ورسالة المسرحية هي: (لا لمزيد من الحرب)، لقد عِشنا ما يكفي من الحرب، ونريد أن نتذوق الحياة وليس الموت»، وفيما يخص الجمهور، لا يُعد تسويق هذه الرسالة أمرًا صعبًا.

وبعد أكثر من عقد من الفوضى العنيفة – السنوات التي شهدت اجتياح مرتزقة أجانب لبلادهم وإخضاعهم على يد الميليشيات التي جعلت قوَّتها قانونًا لها – يطالب الليبيون بالسلام، والسؤال هو: هل كان بإمكان البلاد الحفاظ على هدنة هشَّة حتى في الوقت الذي تتصارع فيه حكومتان متنافستان وداعموهما الأجانب على السلطة، مما يثير مخاوف من أن ليبيا قد تنزلق، مرةً أخرى، في هوة الصراع.

ولتحقيق سلامٍ دائمٍ، لا تحتاج ليبيا إلى إيجاد طريقها للخروج من الأزمة السياسية الحالية فحسب، بل تحتاج أيضًا إلى تسريح جيل من الشباب الذين نشؤوا، ولا يعرفون سوى قليل عن أي شيء باستثناء الحرب.

الترفيه ومظاهر الحياة الطبيعية

وتوضح الكاتبة أن مصراتة، التي كانت ميليشياتها القوية هي المفتاح لإطاحة الديكتاتور الليبي منذ مدة طويلة، القذافي، خلال ثورة الربيع العربي في ليبيا عام 2011، مليئة بمثل هؤلاء الرجال. والآن يعمل أكثر من 40 منهم – معظمهم من قدامى المحاربين في الصراعات الليبية – في المسرح الوطني، وهو قاعة اجتماعات سابقة للجان الثورية أداة قمع القذافي؛ إنهم يأملون في جلب الترفيه إلى مصراتة، كما يقولون، وبعض مظاهر الحياة الطبيعية.

لكن لا سبيل لإخفاء الضرر الذي لحق بالمدينة، ماديًّا ونفسيًّا على حدٍّ سواء، على خشبة المسرح؛ يقول أنور الطير، البالغ من العمر 49 عامًا، وهو ممثل ومقاتل سابق جمَعَ الأموال وأنفق أرباحه الخاصة في تحويل المكان، الذي كان مسؤولو المدينة يؤجِّرونه قاعةً للزفاف، إلى المسرح الوطني الذي يسع 330 مقعدًا: «من الأفضل أن أقدِّم شيئًا مضحكًا لتخفيف الحالة المزاجية للناس، بدلًا من تذكيرهم بالأصدقاء والإخوة الذين فُقِدوا».

وأضاف: «لكن المسرح يتأثر بالواقع الليبي، حتى عندما لا تقصد كذلك، والمسرحية مثل المرآة التي تعكس وعي مجتمعنا، ومجتمعنا مريض».

العمل مع الميليشيات ومكاسبه

تلفت الكاتبة إلى أن ثورة 2011 في ليبيا جعلت المعارضين أبطالًا، وفي السنوات التي تلَت ذلك، ومع انقسام البلاد إلى فصائل سياسية متناحرة ومناطق متحاربة، انضم عديد من المعارضين السابقين والمقاتلين الجدد إلى الميليشيات المسلحة، على أمل الدفاع عن مسقط رأسهم أو ببساطة لكسب العيش الكريم، ويمكن أن تدفع الميليشيات ثلاثة أضعاف متوسط ​​الراتب أو أكثر.

ولم تكن الأموال وحدها هي التي جذبت الناس، إذ في الوقت الذي كانت فيه الأسلحة تتكلم بصوتٍ عالٍ وكان ارتداء زي الميليشيا يبعث على الاحترام، أخذ الشباب يقلدون أسلوب المقاتلين، حتى لو لم يطلقوا رصاصةً مطلقًا: قيادة شاحنات ذات نوافذ قاتمة، وإطالة لحاهم وارتداء الزي المموَّه.

 يقول محمد بن ناصر (27 عامًا)، نجم صاعد في صناعة التلفزة الليبية الصغيرة، ولكنها متنامية والذي يؤدي دورًا في مسرحية «عندما كنا على قيد الحياة»: «كان يُنظر إليهم على أنهم أبطال، وكانت هذه هي الطريقة التي تحصل بها على المال والسلطة والسيارات».

واستخدم الطير، صاحب المسرح، الطابع الاجتماعي لتوجيه الشباب نحو التمثيل بدلًا من ذلك، ضَعْهم على خشبة المسرح، كما يقول، وسوف يكثر عدد المعجبين بهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وبحسب ملاحظة الكاتبة فكانت النساء ضمن الحضور، وقليل منهن يمثِّلن، ولكن في بلدٍ لا يزال محافظًا بشدة، يجب أن يكون معظم الممثِّلين من الرجال.

رسالة المسرح هي مناهضة الحرب

 وقال: «الأمر يشبه (تيك توك)، والكل يريد أن يصبح مشهورًا»، وعلى مدى أربعة عقود من حكم القذافي، لم يُسمَح لأحدٍ بأن يكون أكثر شهرة من الديكتاتور، ولم تكن قمصان لاعبي كرة القدم تحمل أسماءً، بل أرقامًا فقط، خشية أن يكتسبوا أتباعًا، وبسبب إصابته بجنون العظمة مما رآه تلويثًا للأفكار الأجنبية، حظر النظام الأفلام الأجنبية، وإذا شاهد الليبيون أي شيء آخر خلال تلك الفترة، فذلك بفضل أشرطة الفيديو المهربة، ثم الإنترنت.

لذلك، يعلِّم الطير عديدًا من سكان مصراتة كيف يكونون من مشاهدي المسرح، بل متى يجب أن يصفقوا، ويعرض أعمالًا كوميدية ومآسٍ وتاريخ من ليبيا ومن الخارج، ويخطط لإضافة عروض أفلام، والذي يعتزم أن يعرضها في أول سينما في مصراتة منذ إغلاق عددٍ قليلٍ من دُور السينما، التي سُمِح بها في عهد القذافي أثناء الثورة، وأخبره أب من مصراتة مؤخرًا أنه عند افتتاحها، ستكون أول سينما يزورها أولاده على الإطلاق.

ويحمل عديد من المسرحيات رسالة مناهضة للحرب، ومسرحية «عندما كنا على قيد الحياة» عبارة عن كوميديا ​​سوداء يعود فيها الجنود القتلى لمواجهة قائدهم، الذي نجى وارتقى سلم المجد، وانضمت إحدى الشخصيات للقتال من أجل المال، وأخرى من أجل الشهرة، وثالثة لأنها أرادت القتال، وانتهي بهم الحال جميعهم إلى المآل نفسه: موتى.

يقول البسكيني: «أشعر أن الجمهور يعرف ما نتحدث عنه، والجنرالات يبرمون صفقاتٍ سياسيةً مع العدو، بينما نقاتل نحن ونضحي بأرواحنا»؛ ولا يزال البسكيني يحمل ندوبًا على راحة يده اليسرى وركبته اليسرى من الحرب الأهلية الأخيرة في ليبيا، من أبريل (نيسان) 2019 إلى يونيو (حزيران) 2020، عندما هاجمت قوات حفتر من شرق البلاد العاصمة طرابلس.

وعلى بعد ثلاث ساعات بالسيارة على طول الساحل الغربي لمصراتة، تتبدى مظاهر العنف في طرابلس أيضًا، حيث المنازل نصف المدمرة لا تزال متناثرة في ضواحي طرابلس، ولا تزال العائلات تتدافع أحيانًا لإعادة الأطفال إلى المنزل من المدرسة عند اندلاع اشتباكاتٍ بين الميليشيات المتناحرة.

سندوتشات برجر بأسماء الأسلحة الفتاكة

وبحسب الكاتبة، قد يبدو العمل التجاري الذي يسلِّط الضوء على مثل هذا العنف غير مرحَّبٍ به، ومع ذلك، يوجد في قلب المدينة مطعم برجر يسمى (Guns & Buns)، حيث جرت تسمية معظم العناصر الموجودة في قائمة الأطعمة باسم الأسلحة، ويأتي برجر الكلاشينكوف مع المايونيز، ويُباع برجر القنبلة مع شرائح البصل، وتضاف الطماطم إلى مدفع رشاش بي كيه.

وتوجد لافتة على الحائط الخلفي مكتوب عليها: «لا تتصل برقم 911، نحن فقط نصنع البرجر»؛ على الرغم من أن بعض الحروف في الكلمة الأولى كانت مطموسة، وافتتح المالك، علي محمد الرمح، البالغ من العمر 40 عامًا، مطعم «  Guns and Buns» في عام 2016، عندما كان الليبيون يقاتلون لطرد تنظيم الدولة الإسلامية، وقال إن المفهوم مثير للجدل، لكنه ساعد عمله على التميّز، لقد أصبح ناجحًا للغاية، وهو على وشك افتتاح فرع آخر.

وقال: «الآن لدينا أطفال ومراهقون وحتى فتيات؛ عندما يسمعون أصوات الأسلحة، يمكنهم أن يقولوا ما إذا كان الرصاص ينطلق من بندقية كلاشينكوف أو مسدس عيار 9 ملم أو قنبلة يدوية، وهذا هو الواقع الليبي؛ لكن فكرتي كانت أنه عندما تقول «كلاشينكوف» أو «رشاش بي كيه»، فإن هذه الأشياء لا يجب أن تخيف الناس، الآن أنت تكتفي بالضحك».

ولم يكن الليبيون بحاجة إلى أسماء برجر أو مسرحيات لتذكيرهم بالعنف الذي انتشر حتى غطَّى جميع مناحي الحياة، وبعد أكثر من عقد من الزمان، يقول الليبيون إنهم سئِموا الفوضى والإفلات من العقاب والعنف الذي أصبحت الميليشيات تمثِّله، وفي هذه الأيام، من المرجَّح أن يؤدي ارتداء الملابس مثل المقاتلين إلى إثارة الاستهزاء وهزِّ الرأس يمنة ويسرة رفضًا لهم على نحو أكبر من إثارة الرغبة في تقليدهم.

التخلص من ثقافة الميليشيات

يقول الممثل التلفزيوني بن ناصر، إن لديه عديدًا من الأصدقاء الذين اعتنقوا ثقافة الميليشيات في سن المراهقة، بما في ذلك بعض الذين تركوا الدراسة للانضمام إليها؛ والآن، يتراجع هذا الاتجاه، وعاد معظمهم إلى الجامعة أو إلى العمل؛ وهناك قلة، بسبب نجاحه، انضموا إليه في مجال الأعمال الاستعراضية.

يقول بن ناصر: «لقد أدركوا حقيقة أننا «مقاتلون، لكن ليس لدينا شيء»، لقد بدؤوا يشعرون بالخجل من كونهم مقاتلين، لأنه من العار الآن على عائلتك أن تكون مقاتلًا، وعندما نظروا إلى الآخرين، رأوا أنه يمكنك النجاح دون أن تكون مقاتلًا».

والحافز المالي للقتال يتلاشى أيضًا، إذ كانت ليبيا مستقرة إلى حدٍّ كبيرٍ خلال العامين الماضيين، على الرغم من أن السياسيين يواصلون دفع الأموال للميليشيات مقابل حمايتهم، وأحد هؤلاء السياسيين، عبد الحميد الدبيبة، رئيس وزراء الحكومة الليبية المعترف بها دوليًّا ومقرها طرابلس، والذي قلَّل من الطلب على وظائف الميليشيات (وحقق شعبيةً كبيرةً) من خلال توزيع الإعانات على العائلات والمتزوجين حديثًا.

لكن الاشتباكات الأخيرة بين الميليشيات الموالية لدبيبة وآخرين متحالفين مع رئيس الوزراء المنافس في سرت، فتحي باشاغا، هي تذكير بأن العنف ليس ببعيدٍ.

واختتمت الكاتبة مقالها مع علاء أبو غاسة، البالغ من العمر 32 سنة، وهو طبيب أسنان كان يطلب البرجر من مطعم جنز آند بنز في ظهيرة أحد الأيام: «الناس معتادون على هذه الأشياء؛ لقد أصبح جزءًا من واقعهم، إنه الوضع الطبيعي الجديد».

_____________

مواد ذات علاقة