بقلم علي بن سعد

نحلّل هنا هذا الإخفاق الدبلوماسي في برلين، بينما أطلق المشير خليفة حفتر هجومه على طرابلس بدعم متزايد من القوى الأجنبية، بما فيها فرنسا.

.الجزء الأول

ساهمت العديد من القوى الأجنبية في استمرار تدهور الوضع في ليبيا، فقد أعادت إلى الواجهة مسؤولين من النظام السابق بتفضيلها الخيارات العسكرية على حساب الحلول السياسية.

تُعتبر الفوضى التي غرقت فيها ليبيا تبريرا للتدخلات الأجنبية المختلفة، كما يُنظر إليها كنتيجة لفشل سياسي في مواجهة العنف وتفتيت البلاد. ويأتي انسداد الطريق أمام المبادرات السياسية المختلفة في سبيل ضمان انتقال سلمي وتوافقي، بالإضافة إلى الخلاف الدائم بين نُخبها، ليؤكد هذا الفشل.

ما قوّى بالنسبة لبعض القوى الدولية إغراء الحلّ العسكري والإيمان بـ “الرجل القوي”. غير أن فشل السياسي يظهر في إبعاد الحلول السياسية منذ بداية المرحلة الانتقالية. بل إن غيابه هو ما يفسر فشل العملية الانتقالية في ليبيا.

ركائز النظام القديم في المناصب الرئيسية

بدأ هذا الإبعاد مع استيلاء نخب النظام السابق بعد تحوّلهابشكل رسمي على قيادة الثورة. فمع بداية التمرد وبوادر التعبئة المحلية والمستقلة، قام منشقون عن النظام وبعض المنفيين، بالموازاة مع التمرد وعلى عجل، بإنشاء المجلس الوطني الانتقالي.

وهكذا وجدت أعمدة من النظام السابق نفسها في مناصب رئيسية: فرئيس المجلس مصطفى عبد الجليل، كان وزير القذافي للعدل حتى بدأ التمرد. وكان عبد الفتاح يونس، مسؤوله العسكري، وزير الداخلية تحت النظام السابق. أما الرئيس التنفيذي محمود جبريل، فقد شغل بدوره منصب الوزير القوي للاقتصاد زمن القذافي.

لم ينجح المجلس الوطني الانتقالي في إقامة سلطة ولا علاقات وثيقة مع مختلف الجهات الفاعلة في الانتفاضة. غير أن نشاطه الدولي للحصول على الدعم ضمن له اعترافاً سمح لهذه النُّخب القديمة بفرض نفسها كممثلة للثورة.

وقد تم ذلك بدعم كل من فرنسا وقطر وهما الفاعلان الرئيسيان في الميدانواللتان وجدتا في هذه النخب التي انضم إليها إسلاميون موالون لقطر على غرار بلحاج، وسيلة لتوسيع نفوذهما.

بفضل هذا الدعم، تحكمت هذه النخب في عملية الانتقال بمفهوم “تغيير كل شيء حتى لا يتغير أي شيء. فقد أعلن مصطفى عبد الجليل منذ أوّل تصريح له، أن “القذافي يتحمل وحده مسؤولية الجرائم التي ارتكبت”، وهي طريقة لإغلاق الباب أمام أي جرد نقدي للنظام السابق.

تعزيز المحسوبية المحلية

على خلاف مطلب نشطاء الثورة بفترة انتقالية لا تقل عن عامين من أجل السماح بتكوّن الأحزاب والجمعيات وترسّخها في المشهد السياسي، فرضت النخب القديمة خيار التوجه بسرعة إلى الانتخابات، عازمة بذلك الاستفادة من الصورة التي اكتسبتها على رأس المجلس الانتقالي، ومن الدعم الأجنبي الذي حقّقته، لكن على الخصوص من شبكات الوجهاء التي تتحكم فيها.

كما حصلت أيضاً على دعم الإسلاميين، الذين حفّزهم نجاح نظرائهم في كل من مصر وتونس. أمّا فرنسا وقطر، فقد عملتا على إضفاء الشرعية المؤسساتية على حقيقة السلطة التي اكتسبها عملاؤهم.

تم إجراء الانتخابات بنوع من التسرع، مع التراجع عن الترتيبات التي ينص عليها القانون الانتخابي كعدم احترام حصة الـ 10٪ المخصصة للنساء وحظر الأحزاب على أساس ديني أو عرقي، لكن على الخصوص من خلال تخفيض المقاعد المخصّصة للأحزاب كرد على احتجاج الناشطين بعدم وجود تقاليد حزبية.

تم تخصيص الثلثين أي الأغلبية الساحقةلـ “المستقلين” الذين يُنتخبون على أساس محلي، بهدف إعطاء الأفضلية لمحسوبية “غير مُسيَّسة”.

وقد تم تقليص حجم الإسلاميين إلى أقلية لكن كافية ليكونوا مصدر إزعاجومكنّت هذه الانتخابات من عودة النخب القديمة، التي نجحت في تعبئة شبكات محسوبية تمثل المصالح المتباينة للمناطق والقبائل والعائلات الكبرى.

كانت النتيجة برلمانًا مجزّأً للغاية وضع البلاد على سكّة المُتعذّرة حكمها، ما سمح للإسلاميين وقادة الحرب المتطرفين بالنجاح، في ظل غياب مؤسسات قادرة على مواجهتهم.

لإضفاء المزيد من التعقيد على المشهد، قامت النخب الثورية الجديدة التي همّشتها الانتخابات بفرض قانون إقصاء سياسي يهدف إلى قطع الطريق أمام نخب النظام السّابق.

غير أن تقييد هذا القانون وتوسيع نطاقه ليشمل كل من تولى المسؤولية على مختلف المستويات منذ عام 1969، أدى إلى إقصاء جزء كبير من النخبة، بما فيها تلك التي التحقت بالثورة.

نتيجة لذلك، أطلق عنان الصّراعات الداخلية التي فتحت الطريق أمام الانقسامات والعسكرة. ورأى الإسلاميون الراديكاليون في هذا الوضع فرصة لاستعمال الترهيب ضد المجتمع المدني وما تبقى من مراكز الدولة النادرة أصلاً.

في خضم هذا المشهد المتباين، برزت فجأة من جديد هذه الشخصية المثيرة للجدل أي المشير خليفة حفترليقوم بمحاولة الاستيلاء على السلطة في طرابلس، تحت ذريعة التصدي للإسلاميين.

وصل فشل السياسي إلى حده الأقصى، بعد تقليص دوره إلى منافسة شكلية أدّت إلى إذكاء الأطماع دون إرساء أسس إعادة بناء الدولة، وهو ما مهّد الطريق أمام الحرب الأهلية الثانية.

ثقل مصر

وفّرت الحرب الأهلية الثانية أرضية خصبة لمضاعفة التدخلات الأجنبية التي يلخصها رئيس وزراء قطر السابق بعبارة: “كان هناك الكثير من الطباخين.

عرفت هذه التدخلات المتمحورة بشكل رسمي حول مسألة الإسلام السياسي تواجُه كل من قطر وتركيا اللتين روّجتا لهذا النموذج من جهة، ومحور مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى.

تطور ميزان القوى تدريجياً لصالح المحور الأخير بفضل استفادته من تغير السياسة الإقليمية القطرية مع الانسحاب النسبي من ليبيا والمحاولة الانقلابية في يوليو 2016 التي أجبرت أردوغان على الانكباب على إعادة التحكم في الشأن الداخلي التركي.

منح التجاور الحدودي بين مصر وليبيا امتيازاً إقليمياً كبيراً لهذا المحور، وهو ما يفسر تحول الازدواجية المؤسسية (حكومتان وبرلمانان) إلى تقسيم ترابي شرق/غرب، والتي غالبًا ما يتم تحليلها من زاوية جهوية قورينائية متكررة (نسبة إلى قورينا .. الإقليم التاريخي الذي يسمى اليوم برقة)، في حين أن وحدة هذا البلد الشّاسع رغم خصائصه الإقليمية البارزةمكسبٌ لا يناقشه أي طرف.

اتجه حفتر نحو الشّرق حيث وجد دعماً من جزءٍ من القبائل غير الراضية على التوزيع غير المتكافئ للموارد مع منطقة الغرب. عرف أيضاً كيف يستغل مطلباً قوياً للأمن في هذه المنطقة ذات التواجد الجهادي التاريخي، وكونها أرضا خصبة لتجنيد قدماء العسكر، على اعتبار عدم تعرض المنشآت العسكرية لبنغازي لقصف حلف شمال الأطلسي (الناتو).

غير أن السبب الرئيسي لتموقع حفتر في الشرق هو تمكنه من الحصول هناك على حماية الجار المصري القوي الذي سيطر على هذه المنطقة بشكل مطلق، والذي يتمتع فيها بتأثير تاريخي، من بين أسبابها هجرة قوية وقديمة للكفاءات.

لم تكتف مصر بتعبئة جيشها وخدماتها لهيكلة مجموعة “حفتر” ميدانياً، بل حاصرت كل مجتمع إقليم برقة، إذ نجد العديد من مستشاريها في جميع القطاعات، حتى أنهم عملوا على تصدير النموذج المصري لعسكرة الاقتصاد. هكذا سيطر جيش حفتر على الاقتصاد ليصبح “أول شركة خاصة.

يتبع في الجزء الثاني

***

علي بن سعد ـ أستاذ جامعة، المعهد الفرنسي للجغرافية السياسية، جامعة باريس 8

_____________

مواد ذات علاقة