تكثف موسكو تدخلها غير المعلن في ليبيا لإنشاء خط دفاع متقدم في المتوسط لكن احتمالات نجاحها مرهونة بطبيعة الإجراءات المضادة التي قد يتخذها الحلف الأطلسي والشرعية السياسية التي سيكتسبها شركاؤها الليبيون.

الجزء الأول

أعلنت القيادة الأميركية في إفريقيا، 26 مايو/أيار 2020، بصورة رسمية عن نشر الروس لعدد من الطائرات العسكرية في المنطقة الليبية الواقعة تحت سيطرة اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، سيما قاعدة الجفرة.

وقال الجنرال تاونسند، قائد القيادة الأميركية في إفريقيا: إن روسيا تحاول إخفاء تدخلها في ليبيا، وإن الطائرات يفترض أن توفر الدعم للمرتزقة الروس من شركة فاغنر، العاملين إلى جانب قوات الجنرال حفتر؛ مؤكدًا على أن الطائرات انطلقت من قاعدة عسكرية جنوب الاتحاد الروسي، وأنها توقفت في قاعدة إيرانية، ثم في سوريا؛ حيث أعيد طلاؤها، وهبطت من ثم في قاعدة الجفرة، جنوب شرقي ليبيا، الواقعة تحت سيطرة قوات حفتر.

خلال ساعات، كذَّب نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الاتحاد الروسي، الغرفة العليا للبرلمان، التقارير الأميركية، مشيرًا إلى أن قوات روسية لا يمكن أن تُرسل إلى ليبيا بدون موافقة الرئيس بوتين وتقديم طلب بذلك إلى مجلس الاتحاد، الذي لم يتلقَّ مثل هذا الطلب.

ولكن الواضح أن تكذيب إرسال قوات نظامية روسية إلى ليبيا لا يعني بالضرورة نفي إرسال طائرات. وكانت تقارير في صحف روسية ألمحت إلى أن الطائرات، التي يعتقد بعدم وجود طيارين ليبيين لقيادتها، سيقودها طيارون مرتزقة من بيلاروسيا أو صربيا.

كما أن تصريحًا رسميًّا بنفي التقارير الأميركية لم يصدر عن أيٍّ من مسؤولي الحكومة الروسية، بما في ذلك وزارتا الدفاع والخارجية الروسيتان.

ردُّ الفعل الحكومي الوحيد جاء من وزير الخارجية الروسي، الذي أجرى اتصالًا هاتفيًّا برئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، المعروف بمعارضته حكومة الوفاق في طرابلس وانحيازه لجهة حفتر.

أكد لافروف خلال الاتصال على ضرورة استئناف التفاوض بين أطراف الصراع الليبي للتوصل إلى اتفاق يوحد البلاد ويعيد لها الاستقرار، ولكنه، كما يبدو، لم يتطرق لمسألة نشر الطائرات الروسية في الجفرة.

في اليوم التالي، 27 مايو/أيار، كشفت وزارة الدفاع الأميركية عن أن عدد الطائرات الروسية في ليبيا 14 طائرة، وأنها من طرازي سوخوي 24 وميغ 29.

كلا النوعين يتمع بمدى يمكِّنه من الطيران إلى منطقة طرابلس، البعيدة حوالي 650 كم عن قاعدة الجفرة، والقيام بعمليات فيها، فطائرات السوخوي 24 تفعل ذلك بصورة مريحة، أما الميغ 29، فبصورة أصعب قليلًا، نظرًا لأن مداها أقصر.

هذا تصعيد بالغ الأهمية من التدخل الروسي في الصراع بين الحكومة الليبية الشرعية في طرابلس، والجنرال المتقاعد، خليفة حفتر، الذي يتخذ من مدن الشرق الليبي قاعدة لقواته.

حتى الآن، كانت موسكو تنكر كلية التدخل العسكري في الصراع الليبي، وتنفي أي صلة بين الدولة الروسية وشركة فاغنر، التي توظف مرتزقة يقاتلون في صفوف قوات حفتر منذ شهور، بالرغم من أن المعروف أن فاغنر وثيقة الصلة بالكرملين وأنها لا تنشط في منطقة ما بدون موافقة رسمية روسية.

ففي أي سياق يقع هذا التصعيد الروسي؟

وما الأهداف العسكرية التي تسعى موسكو إلى تحقيقها؟

ولماذا تصر موسكو، أصلًا، على علاقتها بالجنرال حفتر، الذي لا يتمتع بأية صفة شرعية والمتهم بارتكاب جرائم حرب؟

تطورات بارزة في ساحة الصراع

أطلق حفتر محاولته للسيطرة على العاصمة الليبية وخلق أمر واقع جديد في ليبيا في أبريل/نيسان 2019، بعد عملية سريعة تقدمت فيها قواته من الشمال الشرقي إلى قاعدة الجفرة في الجنوب، التي أصبحت مركز العملية.

خلال الأسابيع الأولى من بدء الهجوم، ونظرًا لعدم استعداد حكومة الوفاق، نجحت قوات حفتر في السيطرة على مدينتي غريان وترهونة، وعدد من القواعد العسكرية جنوب طرابلس، ومطار طرابلس القديم، ومعظم الشريط الساحلي الغربي.

ولكن جهود المقاومة التي سارعت حكومة الوفاق لتنظيمها، منعت حفتر من إحراز مزيد من التقدم واقتحام العاصمة، طرابلس.

خلال الشهور التالية، استمرت المواجهات في محيط العاصمة، بدون أن يستطيع أحد الطرفين إحداث تغيير ملموس في خطوط المواجهة، وبدا واضحًا أن حكومة الوفاق تعاني من ضعف بنيتها العسكرية، سواء من جهة المعدات أو التنظيم، بينما كان حفتر يحصل على إمدادات عسكرية كثيفة ومستمرة من داعميه في الإمارات ومصر، إضافة إلى دعم معلوماتي تكتيكي من فرنسا.

في المقابل، كانت تركيا المصدر الوحيد للمساعدات العسكرية التي حصلت عليها حكومة الوفاق، وإن بصورة محدودة جدًّا، وقد ساعدت هذه المساعدات على نجاح قوات الوفاق في استعادة مدينة غريان الاستراتيجية، جنوب طرابلس.

في نوفمبر/تشرين الأول 2019، وقَّعت الوفاق اتفاقيتي تفاهم مع تركيا:

الأولى: تتعلق بترسيم الحدود الاقتصادية البحرية شرق المتوسط؛

والثانية: تتعلق بالتعاون العسكري والأمني بين البلدين.

ولكن، وقبل أن يبدأ الانخراط التركي الملموس في جهد حكومة الوفاق العسكري، وفَّرت الإمارات لحفتر مزيدًا من الدعم، كما توسطت لتوقيع الاتفاق مع شركة فاغنر لإرسال ما لا يقل عن 1500 من المرتزقة الروس إلى ليبيا وتحمل تكاليف قوة المرتزقة.

وهذا ما ساعد حفتر على تحسين مواقع قواته في الأسابيع الأخيرة من العام.

بيد أن التحسن في وضع حفتر العسكري، الذي أغراه برفض التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار في موسكو وبرلين، كان مؤقتًا.

خلال الشهرين الأولين من 2020، تزايدت المؤشرات على أثر وجدوى الدعم التركي لحكومة الوفاق، عندما بدأت القوات الموالية لها في إيقاع خسائر ملموسة بقوات حفتر وجموع المرتزقة الملحقين بها، سيما من السودانيين والتشاديين.

في 13 أبريل/نيسان 2020، تقدمت قوات الوفاق بصورة مفاجئة، لتخرج قوات حفتر من عدة مدن في الساحل الغربي وتحقق سيطرة كاملة في الشمال الغربي وصولًا إلى الحدود مع تونس.

وبعد خمسة أيام فقط، أطلقت الوفاق هجومًا أوليًّا على ترهونة، مركز عمليات قوات حفتر الرئيس في الغرب، بعد خسارته غريان.

في 18 مايو/أيار، طُرد حفتر من قاعدة الوطية الاستراتيجية، وأخذت قواته في التراجع بصورة حثيثة في عدة محاور للقتال جنوب طرابلس.

كما نجحت قوات الوفاق في فرض حصار جزئي على مدينة ترهونة، مهددة بذلك بدحر قوات حفتر من المدينة بالغة الأهمية لما تبقى من وجود له في الغرب الليبي.

في 24 مايو/أيار، وفي ظل التراجعات المستمرة لقوات حفتر، بدأت قوات المرتزقة الروس في الانسحاب من جنوب طرابلس، باتجاه مدينة بني وليد، التي اتخذت موقفًا محايدًا في الصراع، مرورًا بترهونة.

وخلال ثلاثة أيام، أكد عمدة المدينة، التي لم تُظهر أي ترحيب بالمرتزقة الروس، أن أغلبهم غادر المدينة، بالفعل.

وحتى قبل انسحاب مرتزقة فاغنر، وقبل الإعلان الأميركي عن وصول طائرات روسية لليبيا، كان مصدر من حكومة الوفاق أكد على أن ما لا يقل عن 12 طائرة روسية حربية توجد بالفعل في قاعدة الجفرة، وأن هذه الطائرات بدأت الوصول إلى السماء الليبية منذ 14 مايو/أيار، أي منذ بداية انهيار قوات حفتر في غرب البلاد.

فأي هدف تسعى روسيا إلى تحقيقه من تصعيد تدخلها العسكري في الصراع الليبي؟

البقية في الجزء الثاني

______________

مواد ذات علاقة