محمد العجمي

مع جمود الوضع السياسي في ليبيا، في ظل وجود حكومتين واحدة مقالة من قبل البرلمان يرأسها عبد الحميد الدبيبة، وأخرى يعترف بها البرلمان برئاسة أسامة حماد، واقتراحات بتشكيل حكومة ثالثة، يتخوف البعض من توجه البلاد مجدداً نحو التصعيد العسكري، خصوصاً مع وجود مؤشرات توتر على الأرض.

وتجلت آخر فصول التوتر من خلال إقدام محتجين على إغلاق حقول نفطية في عدة مناطق، مهددين بإغلاق مزيد من الحقول النفطية، احتجاجاً على ما وصفوه بـخطف وزير مالية سابقفي طرابلس، في وقت لمحت وزارة النفط في حكومة الدبيبة، إلى إمكانية إعلان القوة القاهرة“.

وجاءت عمليات الإغلاق احتجاجاً على احتجاز وزير المالية السابق فرج بومطاري الثلاثاء، في مطار معيتيقة في طرابلس واقتياده إلى مكان مجهول، على يد جهاز الأمن الداخلي في حكومة الدبيبة، والذي يرأسه لطفي الحراري.

وكشفت مصادر لـالشرقآنذاك، أن احتجاز بومطاري، جاء بعد انتشار نبأ ترشيحه لمنصب محافظ مصرف ليبيا المركزي خلفاً للصديق الكبير، في المحادثات الجارية بين مجلسي النواب والأعلى للدولةالذي يرأسه خالد المشري.

وكان ظاهراً أن حادثة بومطاري ليست وحيدة من نوعها، إذ أوقفت السلطات الأمنية التابعة لحكومة الدبيبة الخميس، عدداً من أعضاء المجلس الأعلى للدولة، ومنعتهم من السفر وصادرت جوازات سفرهم، وفقاً لتصريحات من مسؤولين في الأعلى للدولة“. 

هذه العمليات أثارت قلقاً وتنديداً محلياً ودولياً، إذ أعربت البعثة الأممية في ليبيا عن انزعاجها الشديد من استمرار عمليات الخطف والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري للمواطنين والشخصيات العامة من قبل مختلف الجهات الأمنية في ليبياحسب بيان لها الخميس.

وفي ذات السياق أكدت سفارة الولايات المتحدة دعمها لبيان البعثة، وحذرت من أي أعمال من شأنها أن تقود إلى مزيد من التوتر وتقوّض تطلعات الشعب الليبي“.

من جهته، أدان رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح اختطافبومطاري، واقتياده لجهة غير معلومة عقب وصوله إلى مطار معيتيقة، محملاً حكومة الدبيبة كامل المسؤولية عن سلامة الوزير السابق.

ورداً على القضية، اتهم رئيس الأعلى للدولةخالد المشري في كلمة بثها المكتب الإعلامي، حكومة الدبيبة بـالتضييق على المجلس لقبوله تشكيل حكومة موحدة قبل إجراء الانتخابات، وهو أمر قد يشكل أزمة جديدة في ليبيا، وفقاً لتصريحات المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي في يونيو الماضي.

فرض أمر واقع

وفي هذا السياق، قال محمد الأسمر، مدير مركز الأمة الليبي للدراسات الاستراتيجيةفي تصريح لـالشرق، إن تنفيذ عمليات قبض من دون إجراءات قانونية، يهدف إلى فرض واقع جديد، يرسخ وجود حكومة الدبيبة، ويشكل رفضاً لتشكيل حكومة بالتوافق بين مجلسي النواب والأعلى للدولة“.

من جهته، حذر عضو الأعلى للدولةعبد السلام الصفراني، في تصريح لوكالة أنباء العالم العربي، من أن مثل هذه التصرفات والاستفزازات ستقود البلاد إلى ما لا تحمد عقباه، مشيراً إلى أنه كلما تعثرت التوافقات والحوارات السياسية، تتحرك القوى الخشنة (العسكرية) وتسيطر على المشهد في ليبيا، وهذا ما لا نريده“.

وقال: “أعتقد أن حكومة الدبيبة تحاول السيطرة على العاصمة طرابلس عبر فرض سلطة الأمر الواقع، بالاحتماء خلف بعض التشكيلات المسلحة، خاصة بعد إقرار قوانين لجنة (6+6)، والموافقة على خارطة الطريق التي تنص على تشكيل حكومة جديدة للإشراف على الانتخابات“.

وتنص خارطة الطريق على الذهاب نحو الانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال 240 يوماً من تاريخ المصادقة على القوانين الانتخابية الصادرة عن لجنة “6+6”، إضافة إلى تشكيل حكومة جديدة تقتصر مهماتها على إجراء الانتخابات فحسب.

وتتألف لجنة “6+6” من أعضاء من مجلسي النواب والأعلى للدولة، واجتمعت مرات عدة بهدف وضع خارطة طريق توصل البلاد إلى انتخابات رئاسية ونيابية، بعدما تعثر إجراؤها منذ ديسمبر 2021، إثر خلاف على حق الترشح، وذلك عندما أعلن كلّ من الدبيبة وقائد الجيش المشير خليفة حفتر، وسيف القذافي، النية في الترشح.

وكان المجلس الأعلى للدولةأبدى الثلاثاء، موافقته مبدئياً على مقترح خارطة طريق المسار التنفيذي للقوانين الانتخابية، على أن تناقش بعض الملاحظات حول المقترح.

حشود عسكرية

وفي طرابلس، بدأت معالم تحشيد عسكري وإعادة هيكلة قوات أمنية، بالظهور منذ الأسبوع الماضي

وأعلنت حكومة الدبيبة في الرابع من يوليو الجاري، تشكيل قوة من عدد من الأجهزة الأمنية التي تقع تحت إمرتها، يصل قوامها إلى 450 آلية، مدعومة بطائرات مسيرة. وتشكلت هذه القوة، من عدة فصائل، تعكس خارطة النفوذ التي نتجت عن اشتباكات طرابلس في أغسطس 2022.

وشهدت العاصمة الليبية آنذاك، مواجهات مسلحة وسط أحيائها، بين تشكيلات كانت تدعم تعيين فتحي باشاغا رئيساً للحكومة المعينة من قبل البرلمان، وأبرزها ثوار طرابلسوالنواصي، وأخرى تدعم بقاء الدبيبة على رأس حكومته رغم إقالته من قبل مجلس النواب، وأبرزها جهاز دعم الاستقراروجهاز الردعوجهاز الأمن العام والتمركزات الأمنية“.

وحصلت التشكيلات المسلحة التي دعمت الدبيبة على صفة نظامية في غالبها، ما بين فترة حكم المجلس الرئاسيبقيادة فايز السراج، وحكومة الدبيبة الحالية، وتوزعت تبعيتها بين وزارتي الداخلية والدفاع، وأحياناً كأجهزة مستقلة.

وبررت وزارة الدفاع التي يرأسها الدبيبة نفسه، هدف العملية بحسب بيان، بـإعادة حركة السير في الطريق الساحلي الذي يربط العاصمة الليبية مع تونس، وإعادة أحد المطلوبين“.

وحسب وسائل إعلام محلية، فإن التحرك الحكومي جاء نتيجة لـإغلاق الطريق الساحلي من قبل مجموعة مسلحة، ألقت السلطات القبض على أحد أفرادها أثناء محاولته مغادرة البلاد إلى تونس، واتهمته بـالقتل، والاتجار في مواد مخدرة، وتهريب محروقات“.

وتتورط مجموعات مسلحة في مناطق غرب طرابلس في عمليات تهريب المحروقات، كما تدير عمليات للهجرة غير النظامية، انطلاقاً من السواحل الليبية نحو أوروبا.

تزامناً مع ذلك، أعلن وزير الداخلية المكلّف في حكومة الدبيبة، عماد الطرابلسي، إطلاق خطة أمنية تتضمن إعادة هيكلة مديريات الأمن في منطقة الساحل الغربي، ويقصد بها المدن التي تقع غرب طرابلس، وصولاً إلى مدينة زوارة قرب الحدود التونسية.

كما كشف الطرابلسي عن إكمال إعادة هيكلة مديريات الجبل الغربي وفق تقسيم جغرافي، يختلف عن التقسيم المناطقي الذي كان معتمداً سابقاً.

وقال وزير الداخلية المكلّف، إن الوزارة بصدد إعادة افتتاح أبراج المراقبة الحدودية مع تونس، لضبط الحدود بين البلدين. وأضاف الطرابلسي، أن الوزارة تسعى للتعاون مع دول الجوار والاتحاد الأوروبي لمكافحة الهجرة غير النظامية والتهريب.

خلاف عائدات النفط

وتوازياً، يفاقم الخلاف على توزيع العائدات النفطية التوتر في البلاد، خصوصاً بعد نشوب حرب تصريحاتبين الأفرقاء، وبينهم وبين السفير الأميركي في ليبيا ريتشارد نورلاند.

وأبدت واشنطن، قلقاً من تأثير الخلافات حول توزيع الموارد، على قطاع النفط. ودعت في أواخر يونيو الماضي الأطراف الليبية إلى تبني آلية شاملة لمعالجة المشاكل المتعلقة بتوزيع إيرادات النفط، وترسيخ الشفافية، من دون تقويض سلامة الاقتصاد الليبي أو حيادية المؤسسة الوطنية للنفط“.

هذه التصريحات أثارت ردود فعل ليبية غاضبة، اتهمت واشنطن بـالتدخل في شؤون البلاد“.

البقاء على أهبة الاستعداد

من جهته، أكد قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر بداية يوليو الجاري، أن الحل الوحيد في البلاد هو إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وذلك في كلمة ألقاها بحضور عشرات من القيادات العسكرية والأمنية، في مقر القيادة العامة للجيش قرب بنغازي.

وطالب حفتر في كلمته بتشكيل لجنة لمراجعة المالية العامة في البلاد، مستنكراً ما وصفه بـ الفساد الذي ضرب جميع الجهات العامة“.

وثمن في المقابل جهود ديوان المحاسبة الذي يرأسه خالد شكشك، الذي وصفه بـ أحد رجال الوطن“.

ولفت إلى أنَّ الحاجة أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضىلاتخاذ خطوات عملية لتوزيع عائدات النفط بشكل عادل على جميع مناطق البلاد.

وأضاف حفتر أن هناك كارثة مالية واقتصادية ونهب للمال العام لم يحدث في تاريخ البلاد، ولا يمكن للشعب السكوت عن هذه التصرفات، مؤكداً ضرورة تشكيل لجنة للترتيبات المالية لإدارة المال العام بطريقة عادلة“.

وحذَّر قائد الجيش من أنه إذا لم تشكل لجنة لإدارة المال العام خلال المدة القليلة القادمة، فإن أبناء الشعب الليبي من جميع المناطق والمدن سيكونون في الموعد للمطالبة بحقوقهم في ثروات النفط“.

وقال حفتر إن لجنة إدارة المال العام ستُمنح مهلة أقصاها نهاية أغسطس القادم لإنجاز أعمالها، مشدداً على ضرورة أن تكون القوات المسلحة على أهبة الاستعداد للقيام بالمهام المنوطة بها في الوقت المحدد“.

لجنتان لمراقبة الإنفاق

وفي هذا السياق، أعلن المجلس الرئاسيالليبي الجمعة الماضية، تشكيل لجنة يقودها رئيسه محمد المنفي، تختص بتنظيم ومتابعة الإنفاق العام وتعزيز الشفافية، بحسب نص القرار الصادر عن المجلس.

وضمت اللجنة 17 عضواً، أبرزهم رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة، الذي شغل منصب نائب رئيس اللجنة، إضافة إلى عدد من الشخصيات المحسوبة على الأطراف المختلفة في البلاد.

وستختص اللجنة بإقرار أوجه الإنفاق العام للدولة، ومتابعتها للتحقق من سلامة وكفاءة تحصيلها، وكذلك الاستعانة بالمؤسسات الدولية والمحلية ذات الاختصاص، للتطوير المالي ورسم السياسات وتعزيز الشفافية، وفقاً للقرار.

وتعليقاً على القرار، قال الباحث السياسي فرج زيدان في مقابلة مع الشرقإن المجلس الرئاسيمن الناحية القانونية، لا يمتلك حق تشكيل لجنة مشابهة، وفق الاختصاصات المقررة له في الاتفاق السياسي المضمن في الإعلان الدستوري“.

واعتبر أن ما قام به المجلس الرئاسي يعتبر باطلاً ومخالفاً لاختصاصاته المنصوص عليها في التعديل الدستوري، فيما رأى أن لجنة البرلمان التي تشكلت قبل شهر بهدف دراسة التوزيع العادل للثروة وإيرادات النفط، أكثر قانونية، نظراً إلى أن البرلمان صاحب الاختصاص الأصيل بإصدار الميزانيةحسب قوله.

أما أستاذ القانون العام بالأكاديمية الليبية مجدي الشبعاني، فرجح أن يكون تشكيل اللجنة استجابة لمتطلبات دولية، وأنها تدفع بدور جديد لـالمجلس الرئاسي“.

وأضاف الشبعاني في تصريحات لـالشرق، أن اللجنة ستهمشمجلسي النواب والدولة، فمن يملك المال والإنفاق، يملك كل شيء بسلطة الأمر الواقع، حسب تعبيره.

استبعاد المواجهة

واستبعد زيدان في المقابلة التي أجريت قبل إغلاق حقول النفط، أن تتطور هذه الخلافات إلى مواجهات عسكرية، لكنه أشار إلى أن الأمر سيصل إلى إغلاق الحقول والموانئ النفطية، وهو ما حصل فعلاً

وتعليقاً على هذه الضغوط الدولية، رأى زيدان أن الولايات المتحدة والدول التي تفرض ضغوطات على الأطراف الليبية، لم تقدم أي ضمانات في مسألة التوزيع العادل لعائدات النفط“.

وتساءل الباحث السياسي فرج زيدان إن كان الموعد الذي أعلنه الجيش في نهاية أغسطس، كافياً لحلحلة الخلافات بشأن اللجان المالية، مشيراً إلى الحاجة لمزيد من الوقت لمراقبة الوضع والتطور في هذه النقطة، لتحليل المشهد بمزيد من التفاصيل“.

من جهته، رأى أستاذ القانون مجدي الشبعاني، أن المشهد يتجه نحو إحياء المجلس الرئاسي وتهميش البرلمان والأعلى للدولة، متسائلاً إن كانت هذه الخطوات ستساهم في تحقيق دور رقابي حيادي كاف وصحيح“.

تحقيقات واعتقالات

وإلى جانب الملفات السياسية، تزامنت التحشيدات العسكرية مع توقيف شخصيات بارزة في البلاد، وانتشار تسريبات عبر الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي عن قضايا فساد ومخالفات مالية وإدارية، يُعتقد أنَّ وزراء ومسؤولين متورطون فيها.

ومنذ سنوات تذكر تقارير ديوان المحاسبة الليبي مخالفات وتجاوزات مالية في مختلف القطاعات في البلاد، وصلت في بعض الأحيان إلى ملايين الدولارات.

وأعلن النائب العام في 22 يونيو الماضي، فتح تحقيقات بشأن أحدث تقارير الفساد، المتعلقة بابتعاث أشخاص للدراسة خارج ليبيا، من دون تلبية الشروط الموضوعة من الدولة.

كما شهدت ليبيا في الفترة السابقة، أحكاماً ضد مسؤولين سابقين، أبرزهم نائب رئيس الحكومة الأسبق، صديق عبد الكريم الذي شغل أيضاً منصب وزير الداخلية.

ونتيجة بلاغات النائب العام، سجن كذلك وزراء حاليون ضمن حكومة الدبيبة، احتياطياً، قبل إطلاق سراحهم مجدداً وإعادتهم إلى مناصبهم، أبرزهم وزيرة الثقافة مبروكة توغي، التي عادت لمهامها، ووزير الصحة، علي الزناتي، الذي أعلن استقالته بعد تبرئته.

__________

مواد ذات علاقة