رشيد خشانة

أن يزور نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكيروف ليبيا ثلاث مرات خلال هذا العام ليس بالأمر العادي، خصوصا في هذه الفترة التي يُلقي فيها مقتل زعيم مجموعة “فاغنر” الأمنية الروسية يفغيني بريغوجين، ظلالا كثيفة على التمدُد الروسي في ليبيا، ودول أفريقية جنوب الصحراء.

وقُتل بريغوجين في ظروف غامضة في آب/اغسطس الماضي، بعدما كان رأس جسر التوغل الروسي في القارة. وكان خلاف حاد اندلع بينه وبين بوتين في أعقاب تحريضه رجال الرئيس الروسي، على القوات المسلحة النظامية، في حزيران/يونيو الماضي، ما اعتبره الكرملين محاولة انقلابية، تم تفاديها في اللحظة الأخيرة، باتفاق توسط فيه لوكاشينكو.

ومن اللافت أن نائب وزير الدفاع الروسي يفكيروف تجاهل في لقاءاته مع الليبيين، زعماء المنطقة الغربية، بمن فيهم رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ورئيس الحكومة المعترف بها دوليا عبد الحميد الدبيبة، مكتفيا بلقاء القائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر، الحليف الثابت لموسكو منذ العام 2018.

واستطاع الروس من خلال احتضانهم القمة الروسية الأفريقية، في 28 تموز/يوليو الماضي، أن يُعززوا علاقاتهم الثنائية مع عدة دول جنوب الصحراء، وصولا إلى جمهورية أفريقيا الوسطى التي باتت تشكل مركز الثقل للوجود الروسي بالقارة. والتقطت تقارير فرنسية تطورات جديدة في تنظيم الوجود الروسي، بناء على ترتيبات مع كل من أفريقيا الوسطى وليبيا، وتشمل معاودة النظر في مستقبل مجموعة “فاغنر” في أعقاب مقتل مؤسسها

في هذا الإطار أتى وصول مسؤول روسي جديد، إلى عاصمة أفريقيا الوسطى بانغي، مؤخرا للإشراف على الأنشطة الروسية في البلد، والتي تراوح من التدريب العسكري إلى استخراج المعادن، واستغلال ثروات الغابات. ومن الواضح أن المسؤول الجديد، ويُدعى دينيس بافلوف، لا يتبع قيادة مجموعة “فاغنر” وإنما أجهزة أمنية حكومية، ما يدل على بداية سحب المجموعة، “تدريجيا” إلى قبضة موسكو، بُغية السيطرة على عملياتها.

ويُعتبر المسؤول الجديد عن المجموعة، من العارفين بأوضاع شمال أفريقيا والقارة الأفريقية عموما، إذ سبق أن تقلد مناصب أمنية في عواصم مهمة، منها باريس وجنيف وبروكسيل.

وأكد تقرير فرنسي وجود تطورات جديدة أخرى، لتنظيم الوجود الروسي في أفريقيا الوسطى، بالتزامن مع ترتيبات جارية مع ليبيا، بما قد يشمل معاودة النظر في مجموعة “فاغنر” التي باتت تُديرها بشكل غير مباشر، أجهزة الدولة الروسية.

وانكشفت نوايا “التأميم” بتكليف بافلوف، الإشراف على نشاطات المجموعة في أفريقيا الوسطى. ومن الطريف أن وسائل إعلام روسية نشرت صورا لبريغوجين وهو يرتدي اللباس العسكري الخاص بقوات حليفه اللواء خليفة حفتر، مع لحية مزيفة، وهو نوع من السخرية منه.

وقيل إن الأمن الروسي عثر على هذه المُتعلقات بعد مداهمة بيت بريغوجين في سان بطرسبورغ، أثناء محاولته التمرد على القيادة الروسية.

وتقدر الأمم المتحدة أعداد المرتزقة الأجانب حاليا في ليبيا بأكثر من 20 ألف مرتزقوتشير التقديرات إلى أن نحو 3000 من المرتزقة السودانيين يقاتلون في ليبيا، ويتمركزون في أم الأرانب والقطرون وسبها ومحيط الكفرة، ويصلون إلى مناطق جنوب الهلال النفطي، ما يشكل تهديدا للدولة الليبية، وأيضا للسكان المدنيين، في المناطق المجاورة.

بلد عبور

في السياق رجحت وكالة الأنباء الإيطالية “نوفا” أن حوالي 500 عنصر من عناصر “فاغنر” غادروا أفريقيا الوسطى إلى ليبيا، موضحة أن ليبيا هي مجرد بلد عبور، قبل الوصول إلى بيلاروسيا.

أكثر من ذلك تتولى قوات “فاغنر” وقوات الدعم السريع حماية مناجم ذهب في السودان، حسب مركز الأبحاث “يوروبيان كاونسيل أون فورين ريلايشن” (المجلس الأوروبي حول العلاقات الخارجية).

ويضم باطن الأرض في السودان ثروات كبيرة، فهو ثاني أكبر منتج للمعادن الثمينة في القارة الأفريقية، والتي يُباع معظمها في الأسواق الموازية. كما تُسيطر قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، على عدد لم تُحدده المصادر، من مناجم الذهب والمعادن الثمينة في السودان.

ألف مقاتل

في هذا الإطار يُتوقع أن نحو ألف مقاتل من المجموعة الروسية، ما زالوا في أفريقيا الوسطى، حيث احتلت المجموعة، حسب صحيفة “لوموند” الفرنسية، ما لا يقل عن 47 موقعا عسكريا في الأشهر الأخيرةومن هنا أتى حرصُ الرئيس بوتين على الاجتماع مع رئيس أفريقيا الوسطى، خلال القمة الروسية الأفريقية، في الثامن والعشرين من تموز/يوليو الماضي. لكن لم يرشح شيء عن رؤيتيهما لمستقبل العلاقات بين الطرفين، بعد رحيل بريغوجين.

ويؤكد وزير الإعلام الليبي الأسبق محمود شمام أن ما يجري في السودان يُلقي بظلاله على ليبيا، وخاصة على معسكر اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بالنظر للدعم الذي لقيه الأخير طيلة سنوات، من محمد حميدتي دقلو، قائد قوات الدعم السريع.

والأرجح أن النازحين واللاجئين السودانيين سيتجهون بالآلاف إلى جنوب شرق ليبيا، هربا من الحرب. كما أن ليبيا ستكون الملاذ الآمن، نسبيا، لقوات “الجنجويد” في حال هزيمة حميدتي في الحرب.

وهذا ما حمل رئيس هيئة التنظيم والإدارة العسكرية بالجنوب الليبي، العميد عبد السلام البوسيفي (المُوالي لحفتر) على دعوة رئاسة الأركان “شرقا وغربا” إلى إغلاق الحدود مع السودان، وتكليف قوات عسكرية ضاربة بحمايتها، وإعداد طائرات استطلاع بمطار الكفرة (جنوب شرق) من أجل مراقبة ومنع أي تسلل صوب الداخل الليبي

وأبدى وزير الداخلية الليبي الأسبق اللواء صالح رجب أيضا مخاوفه من انتقال عناصر سودانية إلى الداخل الليبي، بُغية استخدامه منصة انطلاق لتنفيذ عمليات في الداخل السوداني، مُحذرا من أن “ما يحدث في السودان يرمي لتقسيمه بدعم غربي”.

شبكات إرهابية

 وتعتبر منطقة المثلث الحدودي (ليبيا، السودان، تشاد) إحدى المناطق الرئيسية التي تشغل بال الجانب الليبي، في ظل محاولة عناصر تابعة لشبكات إرهابية، إعادة التموقع في المنطقة

ومن المؤكد أن هذا السيناريو هو ما يُزعج الأمريكيين، الذين مارسوا ضغوطا على الطرفين المُتقاتلين، عبر وزير الخارجية بلينكن، لوقف الحرب، وفي الأقل الالتزام بالهدنةويمكن القول إن ليبيا تأتي في مقدم المتأثرين سلبا بتداعيات الحرب في السودان، بعدما أغلقت تشاد حدودها معها بالكامل.

ويتوقع مراقبون عدة أن ترتيبات تتم حاليا لتسمية حكومة جديدة تشرف على العملية الانتخابية، بالتنسيق مع الجهات الدولية الفاعلة في ليبيا. لكن من المستبعد أن يقبل الدبيبة بالتنحي، وهو الذي وعد بألا يُسلم السلطات إلا لحكومة منتخبة.

وقد يُعطل هذا الجدل التقدم نحو الانتخابات، ذلك أن شخصيات سياسية وقيادات قبلية عقدت أخيرا اجتماعات في مصراتة أسفرت عن جملة من التوصيات، من بينها إيجاد سلطة تنفيذية موحدة، تمهد المناخ لإجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية، ويكون لخليفة حفتر دور في تكوينها.

وهذا طريق غير مضمون النتائج، لأن هذه السلطة التنفيذية قد تتشبث بالحكم، بوسائل مختلفة، مثلما فعلت الحكومات السابقة، فيعود البلد مجددا إلى المربع الأول. مع ذلك أكدت شخصيات سياسية عدة على ضرورة تشكيل الحكومة الموحدة والمصغرة، التي ستشرف على عملية الانتخابات وتسهلها، وهو ما رأى فيه مراقبون محليون، مطلباً مشتركا داخلياً وخارجياً.

الخروج من الجمود السياسي

في خط مواز كثفت روسيا اتصالاتها مع الزعماء الليبيين، بتوجيه دعوات لهم لزيارة موسكو. ومن هؤلاء محمد تكالة رئيس المجلس الأعلى للدولة، الذي زار موسكو أواخر الشهر الماضي وأجرى محادثات مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، حول الأوضاع السياسية في ليبيا، وسبُل الخروج من الجمود الحالي.

وأفيد أن الجانبين متفقان على أنه لا وجود لحل سلمي للأزمة، إلا بإجراء الانتخابات المؤجلة منذ 2021. ولم يشر البيان الصحفي الصادر بعد الاجتماع، إلى مصير مجموعة “فاغنر” في ليبيا، وهو موضوع تم التطرق إليه بالتأكيد، في اجتماع بهذا المستوى.

ومن المؤكد أيضا أن الروس أثاروا هذه القضايا، خلال الأسابيع الأخيرة، سواء لدى زيارة رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إلى موسكو، أو بمناسبة الزيارة المماثلة التي أداها رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة إلى روسيا.

ويتركز اهتمام النخب السياسية الليبية حاليا على الاستعدادات الجارية لعقد مؤتمر المصالحة الوطنية في مدينة سبها، عاصمة اقليم فزان (جنوب). وكانت أعمال اللجنة التحضيرية للمؤتمر انطلقت في 21 يوليو/تموز الماضي، تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، في العاصمة الكونغولية برازافيل، بحضور ليبي وإقليمي واسع. وأنهت اللجنة الخميس الماضي، أعمال اجتماعها الثالث، مُعلنة أنها ستعقد اجتماعها المقبل في ليبيا لوضع ترتيبات وتجهيزات عقد المؤتمر الجامع

لكن لاشيء حتى الآن يضمن ألا يُجهض المؤتمر مثلما أجهض خليفة حفتر المؤتمر الجامع، الذي كان مقررا عقده في مدينة غدامس في ربيع العام 2019.

____________

مواد ذات علاقة