رشيد خشانة

ما زال الحوار الليبي ـ الليبي، الذي ترعاه الأمم المتحدة، يصطدم بخلافات وانقسامات في أروقة كل من السلطتين الشرقية والغربية، بالإضافة لضغوط داخلية وخارجية، ربما تقود إلى إعادة الوساطة الأممية إلى نقطة البداية

ومن الواضح أن بعثة الأمم المتحدة تخوض سباقا مع الزمن من أجل التوصل إلى اتفاق يقود إلى انتخابات حرة ونزيهة وشفافة.

 وكان تصديق مجلس النواب على مسودة مشروعي قانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إنقاذا للحوار، على أمل أن يُفضي إلى التوقيع على اتفاق سلام، والبدء في تطبيقه.
غير أن الأجواء المُلبدة السائدة حاليا، والتي يسيطر عليها صراع الإخوة الأعداء، وامتداداته الخارجية، لا يمكن أن يسير بالبلد إلى الحل السياسي المقبول من الجميع.

ومن القضايا التي ساهمت في تسميم المناخ السياسي، قضية السماح لسيف القذافي بالترشح للانتخابات الرئاسية أو منعه من الترشح.
وفي أيار/مايو الماضي، أسقطت المحكمة العليا في ليبيا حكم الإعدام الصادر بحق سيف الإسلام في 28 تموز/يوليو 2015 لكنه ما زال مطلوبا للقضاء الدولي لعلاقته المُفترضة بحادث تفجير طائرة شركة «بان أم» الأمريكية، فوق قرية لوكربي الاسكتلندية، العام 1988.

تُساهم الاعتقالات والاشتباكات المسلحة والتصفيات الجسدية في تعفين الأجواء السياسية.

وفي المنطقة الشرقية تحديدا، يُحكم الضابط المتقاعد خليفة حفتر قبضته على المعارضين والمستقلين والحقوقيين والإعلاميين، وبات يُسيطر على وسائل الإعلام الخاصة، ما تسبب باحتجابها الواحدة تلو الأخرى، وصولا إلى تصحُر المشهد الإعلامي.

ومن مظاهر فرض الصمت على النخب بجميع تياراتها وألوانها، إلقاءُ القبض مطلع الشهر الماضي على رئيس المكتب السياسي لحزب «ليبيا للجميع» الدكتور فتحي البعجة (كان سفيرا لدى كندا) وعضو الحزب طارق البشاري والكاتب والناشط السياسي سراج دغمان، من قبل جهاز الأمن الداخلي في مدينة بنغازي، من دون توجيه تهم محددة لهم، بالرغم مما تردد عن قرب إطلاقهم.

وتثير الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في ليبيا، شرقا وغربا، قلق المنظمات الإنسانية الدولية، بينما يتلقى حاكم المنطقة الشرقية حفتر دعما غير محدود من روسيا وفرنسا والإمارات ومصر، بما في ذلك تلقي شحنات كبيرة وغير معلنة من الأسلحة

وفي السياق رفعت مؤخرا مجلة «بوليتيكو» الأوروبية، النقاب عن مساعي عدد لم تُحدده من أعضاء البرلمان الأوروبي، لإرسال 41 مدرعة إلى ليبيا، لكن تم احتجاز الشحنة في البحر.

وكانت المدرعات آتية من مصنع في الإمارات، قبل أن تصادرها قوات «إيريني» الأوروبية، قبالة السواحل الليبية، بينما كانت متجهة إلى ميناء بنغازي، أي لتعزيز ترسانة حفتر. وأرسل الإماراتيون تلك المدرعات، بالرغم من الحظر الدولي على تسليم أسلحة إلى ليبيا.

في المقابل لفتت المجلة إلى أن الليبيين يُمارسون ضغوطا قوية في الأمم المتحدة، لاستعادة تلك المركبات المدرعة، لكن جهودهم لم تُعط بعدُ أُكلها.

حكومة تكنوقراط؟

يتضارب مسار التسلح هذا مع المساعي الأمريكية الرامية لإقناع الدبيبة بالاستقالة، طالما أنه يعتزم الترشح للانتخابات، ومن ثم تأليف حكومة مصغرة وتكنوقراطية، تتولى الإشراف على العملية الانتخابية.

والملاحظ أن هذا المطلب بات جزءا من خطة الموفد الأممي باتيلي للوصول إلى الانتخابات. وتتضمن الخطة جمع الفرقاء الرئيسيين الخمسة حول مائدة واحدة، وهم رئيس مجلس النواب صالح ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الدبيبة ورئيس المجلس الأعلى للدولة تكالا والقائد العسكري للمنطقة الشرقية حفتر ورئيس المجلس الرئاسي المنفي.

وفيما يقترح البعض إضافة اسم آخر إلى المشاركين في المائدة، وهو رئيس الحكومة الموازية أسامة حماد، يُلوح الدبيبة بأنه لن يجلس حول مائدة الحوار إذا ما دُعي إليها غريمه حماد.

من هنا يتأكد أن ملف الانتخابات ليس بالسهولة التي يتصورها البعض. لا بل إن الموفد الأممي السابق إلى ليبيا الدكتور غسان سلامة، قلل من أهمية المسألة، مُحذرا من أن هذا الملف «يمكن أن يُصبح مصدرا لانقسامات جديدة» و»هم (الليبيون) ليسوا بحاجة إليه في الوضع الحالي» على ما قال سلامة في تصريح لمجلة فرنسية.

ورأى سلامة أن ليبيا تمكنت من حل اثنتين من المشاكل الرئيسية التي تُعطلها، أولهما ضمان التدفق المنتظم لإنتاج النفط، وثانيهما تأكيد ليبيا لمكانتها، كمنتج رئيس للطاقة الرخيصة ذات الجودة العالية، «وهذا أمر ضروري لنظام الدخل الأساسي الشامل» على حد تعبيرهوأوضح سلامة أن هناك توازنا دائما للقوى في ليبيا ولا تستطيع أي قوة خارجية أن تفرض وجودها.

أما الدبيبة، فيتحرك طوال هذه الفترة، في ما يشبه حملة انتخابية، من خلال الزيارات الميدانية التي يؤديها إلى عدة مشاريع، من بينها تجديد مطار طرابلس الدولي وتأمين الانارة على طول الطريق الساحليوهذا ما جعله يتردد في رفع الدعم عن المحروقات، باعتباره إجراء غير شعبي، خاصة في أجواء التمهيد لانتخابات عامة.

بالمقابل يُلح الأمريكيون على ضرورة استقالة رئيس الحكومة المؤقتة، ويكونوا أبلغوا هذا الموقف إلى الزعماء الذين اجتمعوا معهم.

وشملت جولات الوفد الأمريكي وزياراته رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة. وفي هذا المضمار، برز مُتغير مهم تمثل بعودة مجموعة «سوناتراك» النفطية الجزائرية إلى ليبيا بقوة، بعد ثماني سنوات من الغياب

وكان الرئيس التنفيذي للمجموعة رشيد حشيشي أعلن عن هذه العودة، في لقاء بطرابلس في تشرين الثاني/نوفمبر مع نظيره فرحات بن قدارة. وتعلقت المشاورات بترسيم عملية استئناف الالتزامات التعاقدية لمجموعة سوناتراك، في مجال الاستكشاف في حوض غدامس، إلى جانب إعادة النظر في شروط استغلال الآبار الحدودية في كلا الجانبين

ومن المقرر أن تتفاوض سوناتراك والمؤسسة الوطنية للنفط حول المشروعات المقرر إطلاقها قريباوفي الإطار نفسه دعا الليبيون الشركات الجزائرية إلى المشاركة في إعادة إعمار ليبيا. وأتت الدعوة على لسان وزير الإسكان والتعمير في حكومة الوحدة الوطنية أبوبكر الغاوي، خلال اجتماعه في الجزائر مع نظيره محمد طارق بلعريبي، على هامش مشاركة الأخير في أعمال «الملتقى الدولي حول الوقاية من مخاطر الزلازل: حوكمة واستشراف» بالعاصمة الجزائر.

 أبعادٌ سياسية

ولهذه الخطوة الاقتصادية الجزائرية أبعادٌ سياسية لا تخطئها العين، فالجزائريون غير راضين عن المنحدر الذي تردت فيه الأزمة الليبية. وهم يُحملون الزعماء السياسيين، وخاصة اللواء المتقاعد حفتر، مسؤولية فتح أبواب البلد على مصراعيه شرقا وغربا، ليصبح ساحة لحروب بالوكالة، ما أحدث شرخا في البلد، بين الموالين للشرق والتابعين للغرب.

من هنا فإن استئناف التعاون النفطي بين ليبيا والجزائر سيجعل العلاقات أكثر تقاربا ودفئا، حسب السفير الجزائري لدى ليبياوما زال الليبيون يذكرون التصريح الشهير للرئيس عبد المجيد تبون، الذي حذر فيه قوات خليفة حفتر من الهجوم على طرابلس، مُعتبرا ذلك خطا أحمر، ما شكل أحد العناصر الحاسمة، التي وضعت حدا للحرب التي شنها حفتر للاستيلاء على طرابلس، في العام 2019.

وبالإضافة لقطاع المحروقات، هناك مجال آخر للتعاون الثلاثي لا يقل أهمية عن مصادر الطاقة، ويتمثل في بحيرات المياه الجوفية العميقة، في كل من الجزائر وتونس وليبيا، والتي يُقدر الخبراء أنها تمتد على مساحة مليون كيلومتر مربع، بينها 700 ألف في الأراضي الجزائرية و250 ألفا في أراضي ليبيا و80 ألفا في الأراضي التونسية.

والمُلاحظ أن المبعوث الخاص للولايات المتحدة لدى ليبيا وسفيرها ريتشارد نورلاند، الذي قاد الوفد الأمريكي إلى طرابلس، أكد لبن قدارة دعم واشنطن لاستراتيجية زيادة إنتاج المؤسسة من النفط، بالنظر إلى أن «مستقبل ليبيا الاقتصادي يعتمد على قطاع الطاقة» وأن قيادة المؤسسة الوطنية للنفط «أمرٌ حيوي ويجب حماية نزاهتها التكنوقراطية» حسب تغريدة له على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي «إكس». 

وزار نورلاند والوفد المرافق له الدبيبة، في مقر رئاسة الوزراء، وكان أحد محاور الزيارة تشجيع الليبيين على زيادة إنتاج النفط، مُبديا استعداد واشنطن للتعاون مع المؤسسة الوطنية للنفط، من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، التي من بينها مجال التغيُر المناخي

لكن وسائل الإعلام الرسمية في الجانبين لم تُشر من قريب أو بعيد، إلى موضوع استقالة الحكومة، الذي لا يمكن للمرء أن يتصور أن المجتمعين لم يخوضوا فيه.

الصينيون على الخط

وفي تطوُر آخر دخل الصينيون على خط إعادة الإعمار في ليبيا، إذ تعكف مجموعة «سي دي جي» الصينية القابضة، على الإعداد لملتقى استثماري لإعمار ليبيا، يعتزم الصينيون إقامته ورعايته، بالتعاون مع الحكومة الموازية برئاسة حماد.

وباشر وزير الاستثمار في الحكومة الموازية علي السعيدي، مع وفد من المجموعة الصينية، بحث المشروعات المطروحة في جدول أعمال الملتقى، الذي لم يُعرف بعدُ ميقات عقده. وأكد السعيدي أن هناك نقصاً في إمدادات الوقود إلى مختلف أنحاء البلد.

وبالمقارنة بين الكميات المستوردة وحجم التحصيل النقدي من مبيعات البنزين والديزل، يتضح أن تلك العائدات لا تتعدى 450 مليون دينار (نحو 94 مليون دولار). وتدلُ تلك العائدات الزهيدة على وجود مشكلة في تحصيل الأموال من شركات توزيع المشتقات النفطية، التي تبيعها بسعر مدعوم

ومن شأن هذا الوضع أن يُضيف شاغلا آخر إلى شواغل الحكومة الكثيرة، والتي لا يمكن حلها إلا في إطار حزمة من الإجراءات والتوافقات السياسية، إضافة إلى حلول وإن كانت مؤقتة، للمعضلات الاقتصادية، التي لا يمكن مجابهتها من دون وحدة في الأهداف، لأنها تتطلب في الأساس إرساء الثقة بين جميع الفرقاء.

______________

مواد ذات علاقة