بقلم علي أبوزيد

الغالبية من التيار المُنادي بالدولة المدنية والمدّعي للدفاع عن الحريات والحقوق ضدّ ما يسميه التسلّط الديني المتمثل في الإسلاميين، يلاحظ المتابع للحالة الليبية تسويق هؤلاء لمشروع الكرامة وطموح قائدها في السلطة على أنه مشروع وطني هدفه إرساء الأمن وتحقيق الاستقرار في البلاد.

وقد ازدادت هذه النبرة حدة وارتفاعاً بعد وصول حزب العدالة والبناء ذو المرجعية الإسلامية إلى رئاسة المجلس الأعلى للدولة مما يضمن له دوراً فاعلاً في أي تسوية سياسية، الأمر الذي يجعل من خيارات تيار أدعياء المدنية محدودة وضئيلة، وربما محصورة في الاستقواء بالعسكر وتأييدهم ومباركتهم، ساعين بذلك لإزاحة خصومهم الإسلاميين وإقصائهم عن المشهد.

إن إصرار هذا التيار على تقديم مشروع الكرامة في خطابه على أنه مشروع وطني يسعى لبناء مؤسسة عسكرية وأمنية تكون أحد أعمدة الدولة ليس إلا استمراراً في حالة الخواء السياسي في الرؤية والمشاريع والتي يعاني منها هذا التيار الذي يسمي نفسه “وطنيا”.

لقد أبان حصاد الكرامة المُرّ على مدى أربع سنوات أنه مشروعٌ للاستبداد فاشل، يحاول أن يثبت نفسه من خلال انتصارات موهومة، وإخراج ركيك لمشاهد مملّة من العروض العسكرية البالية التي تؤكد على عقلية الاستبداد الراسخة في ذهن العسكري السبعيني الذي يحاول أن يشبع في نفسه نزوة السلطة التي استبدّت به ويخشى أن تعاجله المنية قبل إدراكها.

وخطابات الرجل الأخيرة ازدادت تفلّتاً من عقال ما يدعيه من بعد عن الطمع في السلطة،

فقد وصف الانتخابات بأنها لا تمثّل إرادة الشعب الحقيقية،

ووصف عملية كرامته بالثورة، وهو قائده وزعيمها بلا شك،

كل هذا وتيار أدعياء المدنية يصفون مشروع الرجل الذي يتخذ من العسكر طريقاً للوصول إلى السلطة بالمشروع الوطني، متناسين الإخفاء القسري والجثث والتصفيات الميدانية، ومطالبة المحكمة الجنائية الدولية بتسليم الورفلي ضابط الكرامة الشهير شاهد صدق على نفاق هؤلاء فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحرياته.

وهنا لابد أن نسأل هؤلاء الذين يعلمون أن البلاد مقبلة على انتخابات كحل أخير للأزمة، نسألهم ..

لماذا لا ينشطون في مدينة بنغازي،

ولماذا نجد جسماً سياسياً كتحالف القوى الوطنية يعيد افتتاح مقرّه في العاصمة طرابلس المختطفة من المليشيات الإسلامية –حسب رأيهمولا ينشطون في بنغازي أو في أي مدن الشرق الليبي؟

لماذا نجد مؤسسات مجتمع مدني هي واجهات لشخصيات تسعى للترشح تنشط في غرب ليبيا وتتحرك كما تشاء وتقيم فعالياتها بكل حرية ولا تستطيع مثل ذلك في مناطق نفوذ الكرامة؟

الإجابة عن ذلك بسيطة، لأن مشروع الاستبداد الذي تحمله كرامة حفتر المهدرة مرتين (الأولى في تشاد، والثانية على أعتاب قصور أبوظبي)، إن هذا المشروع المستبد لا يمكن أن يسمح لأي مظهر من مظاهر المدنية أن يبرز، ولأي شكل من أشكال العمل السياسي أن يُنجز، لأنه يصادم مشروع القائد الأوحد والزعيم المفدّى، ولن تجد إلا بيانات التأييد القبلية من خيامها تتسابق لتبايع الرجل وتلتحم به في تكرار سمج لأربعينية القذافي.

لقد أثبتت تجربة 30 يونيو المصرية أن العسكر متى تدخل في الشأن السياسي وأُعطي أكبر من حجمه في كونه مؤسسة خاضعة للسلطة المدنية، فإنه لن يكون إلا ثقباً أسود من الاستبداد يبتلع الحياة المدنية بكل مظاهرها ويضفي على الوطن لوناً قاتماً من التسلَط والظلم يشيع حالةً من الخوف والتجبر بسبب ما تفرضه مؤسسة الدولة المستبدة من إرهاب على المواطن.

ومثل هذا ما بدأت ملامحه تتضح في مناطق نفوذ الكرامة، وهو ما ستثبته الأيام متى ما تقرر إجراء انتخابات ومشروع الكرامة قائم في مناطق نفوذه.

وعلى العكس من ذلك أثبتت التجربة التونسية قدرة الإرادة السياسية على العبور بالوطن إلى برّ أمانه واستقراره على اختلاف توجهات تيارات العمل السياسي فيها، لأنهم اتفقوا على تحييد العسكر ورضوا بالتنافس والتدافع السياسي في إطار الدستور والقانون ومن داخل المؤسسات حكماً عدلاً بينهم.

والانتخابات البلدية الأخيرة دليل واضح على هذا الاستقرار السياسي الرصين الذي لم تكدره يد الإرهاب الذي لم تسلم منها تونس، ولتبرهن على أن الإرهاب ليس إلا مبرراً لتسلط العسكر.

خلاصة القول:

إن الأوطان لا تبنى من خلال مؤسساتها العسكرية، وأن الاستقرار لا تحققه فوهات البنادق وقاذفات الصواريخ، إنما تبنى المؤسسات العسكرية والأمنية بعد اكتمال الوعي والإدراك لدى نخبها الفاعلة التي يعوّل عليها في تشكيل حالة مجتمعية مستقرة في سلوكها السياسي يؤمن بالاختلاف ويتقبل الآخر، ويقدر على إدارة خلافه معه ضمن دائرة المؤسسات المحكومة بالدستور والقانون، ومن ظن أن العسكر سيصل بالوطن إلى مستقر أمنه فقد أبعد الشقة وخَبَط العشواء في متاهة الاستبداد والطغيان.

***

علي أبوزيد / كاتب ليبي

__________

مواد ذات علاقة