بقلم عماد قدورة

تعد تركيا دولةً بحريةً، ليس من منظور جغرافي يتعلق بموقعها على سواحل طويلة فحسب، وإنما أيضًا من منظور تاريخي ممتد ارتبط بسياسات وممارسات بحرية، وبخاصة في القرنين السادس والسابع عشر، أدت إلى الهيمنة على البحار الواقعة عليها، مثل البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، وإلى وجودٍ فاعلٍ في البحر الأحمر والخليج العربي، فضلًا عن الانخراط بتأمين الطريق البحرية التجارية إلى سواحل الهند.

الجزء الخامس

مصر

تعتبر مصر، إضافة إلى حلفائها الأساسيين الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، التدخل العسكري التركي في ليبيا غير شرعي، بوصفه جاء بناء على اتفاقية لم يصدقها مجلس النواب في طبرق الذي تعده ممثلا لليبيين. وبينما تنطلق الخشية المصرية مما تعتبره القاهرة تهديدات إرهابية من ميليشيات ترعاها حكومة الوفاق وتركيا.

وكذلك التهديد المحتمل الذي يمثله هذا التدخل لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يناصب تركيا عداء صريحا ويعمل ضدها في المنطقة، فإن منطلق الإمارات والسعودية، الذي تتوافق به مع القاهرة، يرتكز على محاربة حركات الإسلام السياسي، الذي تعتقدان أن تركيا وحكومة الوفاق تنتميان إليه أو تدعمانه.

وقد ارتفع مستوى التحذير المصري إلى احتمال التدخل العسكري المباشر أو غير المباشر في ليبيا، إثر التدخل العسكري التركي الواسع ووقوف حكومة الوفاق على أبواب الشرق، عند سرت وقاعدة الجفرة, فقد وجه السيسي رسالة إلى الجيش، قال فيها: “الجيش المصري من أقوى جيوش المنطقة (..) كونوا مستعدين لتنفيذ أي مهمة داخل حدودنا، وإذا تطلب الأمر خارج حدودنا”. ووجد هذا الخطاب تأييدا من الإمارات والسعودية، حيث أكدتا دعمهما لمصر في “كل ما تتخذه من إجراءات لحماية أمنها واستقرارها من تداعياتها التطورات المقلقة في ليبيا”.

وقد نقلت صحيفة الشرق الأوسط عمن وصفتهم بـ “دبلوماسيين تضطلع بلادهم بدور أساسي في الأزمة الليبية”، إن خطاب السيسي يعتبر “حازما إزاء التدخلات التركية”، وتجاه “محاولة تركيا حصار مصر من حدودها الغربية”، ولهذا، جاء تشديد السيسي على أهمية “سرت والجفرة” واعتبارهما “خطا أحمر”. ونلاحظ أن هذا الخط هو نفسه الذي كانت روسيا قد وضعته قبل نحو أسبوعين من خطاب السيسي.

صعدت مصر في الموقف عبر سلسلة من الخطوات، مثل لقاء الرئيس السيسي رجال قبائل ليبيين، وعبر طلبهم منه التدخل في ليبيا، وذلك بعد أن دعا مجلس النواب الليبي في طبرق القاهرة إلى التدخل، لمواجهة ما سمّاه “الأحتلال التركي” وما يمثله من “تهديد مباشر” لأمن ليبيا ومصر. وقد نص بيان المجلس على أن “للقوات المسلحة المصرية التدخل لحماية الأمن القومي الليبي والمصري إذا رأت هناك خطرا داهما وشيكا يطال أمن بلدينا.

كما صعدت مصر من خلال تفويض البرلمان المصري الجيش إرسال عناصر في مهمات قتالية في الخارج للدفاع عن الأمن القومي للبلاد، ونصر قراره على أن “القوات المسلحة المصرية لديها الرخصة الدستورية والقانونية لتحديد زمان ومكان الرد على الأخطار والتهديديات”. وعلي الصعيد الإقليمي، سعت مصر إلى حشد التأييد لسياساتها، بما في ذلك السعي للحصول على مزيد من الدعم من الإتحاد الأوروبي، فوقعت مع اليونان اتفاقية بحرية ترسم الحدود بينهما وتحدد المنطقين الإقتصاديتين الخالصتين للبلدين.

في المقابل، رفضت كل من حكومة الوفاق وتركيا موقف السيسي، فاعتبر عضو المجلس الرئاسي، محمد عماري زايد، هذا الموقف استمرارا في الحرب على الشعب الليبي والتدخل في شؤونه، وتهديدا خطيرا للأمن القومي الليبي وانتهاكا صارخا للأعراف والمواثيق الدولية.

ورفض المتحدث باسم الخارجية التركية، هامي أقصوي، الاتهامات التي وجهتها مصر لأنقرة بشأن ليبيا، “بأن حفتر وحلفاؤه بمن فيهم الإدارة المصرية هم العقبة الحقيقية أمام السلام في ليبيا من خلال محاولاتهم إطاحة الحكومة الشرعية وإقامة نظام استبداد. أما ياسين أقطاي، مستشار أردوغان عن حزي العدالة والتنمية، فقد اعتبر أن “تدخل مصر المباشر في ليبيا سيجعل على القاهرة أن تضع في اعتبارها مواجهة تركيا وبالتالي حلف الناتو”.

في الواقع، ثمة تطوران تزامنا مع التدخل التركي في ليبيا وموقف القاهرة منه، ومن شأنهما أن يؤثرا في قرار التدخل العسكري المصري:

أولهما، إدراك القاهرة أن ليبيا أصبحت بندا رئيسا في أجندة دول كبرى مثل روسيا وفرنسا، ومن مصلحة هذه الدول مواجهة الطموحات التركية، حفاظا على مصالحها الاقتصادية في ليبيا والجيوسياسية في المتوسط وأفريقيا. وبهذا، فمسألة “الخط الأحمر” قد تتولى روسيا التفاوض بشأنه أو التدخل العسكري بالوكالة، بوصفها قد حددته من قبل.

وثانيهما، تصاعد خطر أثيوبيا مع بناء سد النهضة والسعي لملئه، إذ تعتقد الأوساط العسكرية المصرية أن هذا التهديد المتوقع هو خطر يهدد مصير الدولة المصرية، ومن ثم، فإن أي تدخل عسكري في ليبيا في هذا الوقت يفتح الطريق أمام أثيوبيا لاستكمال تنفيذ مشروعها دون مراعاة مصالح مصر الحيوية، ويشجع البلدان الأخرى في حوض النيل على تكرار تجربة أثيوبيا.

بهذا، قد لا يمثل تدخل تركيا العسكري في ليبيا خطرا محتملا على مصر فحسب، وإنما أيضا على مصالحها في شمال أفريقيا، وعلى أجندتها الإقليمية. فإذا تمكنت تركيا من تأسيس

وجود دائم في ليبيا، ومن دعم حلفائها في حكومة الوفاق لجعلهم في موقف مؤثر في مستقبل ليبيا، ومن ثم من تأمين استمرار الاتفاق البحري معها، فإنها قد تضعف قوة التحالف المضاد لتركيا في المنطقة العربية المكون من مصر والسعودية والإمارات، وتقوّض التحالف البحري في شرق المتوسط، المكوّن من مصر واليونان وقبرص وإسرائيل، الذي سعى إلى تقليص مساحتها البحرية وتهميش مشاريعها وسياستها.

لكن القوى الدولية والإقليمية المعارضة للسياسة التركية في شرق المتوسط وفي ليبيا سوف تستمر في محاولة عرقلة انقرة ومنعها من تحقيق أهدافها، إما من خلال خطوات تصعيدية أو بدعم الحل السياسي الذي يضمن مصالح جميع الأطراف. ويمكن في هذا السياق ملاحظمة المعارضة الشديدة التي يبديها الاتحاد الأوروبي إزاء سياسات تركيا، واعتبارها تؤثر سلبيا في مصالح الاتحاد ودوله.

قد عبر اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد بالإجماع عما وصفوها بـ “التطورات المقلقة التي تؤثر في مصالح الاتحاد الأوروبي، ولا سيما في شرق البحر الأبيض المتوسط وليبيا”. واتفقوا على أهمية معالجة تركيا للعديد من “القضايا الخطيرة” بشأن أنشطة الحفر التركية غير القانونية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، وأن “إجراءات تركيا من جانب واحد تتعارض مع مصالح الاتحاد الأوروبي، والحقوق السيادية للدول الأعضاء فيه، والقانون الدولي”. ودعوا تركيا إلى المساهمة في حل سياسي في ليبا، واحترام حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، ومنع التصعيد.

لكن يلاحظ أن بيانات الاتحاد الأوروبي تقتصر على دعوة تركيا للإستجابة، بينما يبدو عاجزا عن اتخاذ سياسة فعالة أو مواجهة تركيا وإرغامها على الإمتثال. ويعود ذلك إلى أن هناك اختلافات بين الأوربيين إزاء العديد من السياسات الخارجية، ومن بينها مدى الإهتما بمواجهة تركيا.

وتعد الدول الدافعة باتجاه السياسة المتشددة إزاء تركيا فرنسا واليونان وقبرص بوصفها الأكثر تضررا، وهي تضغط باتجاه فرض عقوبات عليها. لكن موقف الإتحاد، الذي عبر عنه مسؤول السياسة الخارجية والأمنية جوزيب بوريل، يري أن فرض العقوبات “غير مطروح من حيث المبدأ على الطاولة” حاليا، وأن “العقوبات دائما أداة لتحقيق هدف، لكنها ليست سياسة في حد ذاتها”.

كما أن هذا الموقف أصبح ينطوي على قبول الحل الذي يتوصل إليه البلدان المتنازعان، تركيا واليونان، فقد دعا بوريل إلى الحوار والمفاوضات بقوله” “يجب تحديد الحدود البحرية من خلال الحوار والمفاوضات، وليس من خلال الإجراءات الأحادية الجانب وتعبئة القوات البحرية”.

ويعكس وضع أوروبا ثلاثة أمور: الأول، أن ما يمكن أن يقوم به الاتحاد الأوروبي مستقبلا هو فرض عقوبات، والثاني، أن مواجهة تركيا بالقوة جماعيا غير واردة، إذ يصعب أن تجمع دول الإتحاد على مثل هذه السياسة، والثالث، أن فرنسا وقبرص واليونان وحتى ألمانيا لا يملكون توحيد الأوربيين لاتخاذ إجراءات رادعة ضد تركيا.

وتدرك أنقرة وضع الاتحاد الأوروبي شبه المفكك سياسيا، وتدرك حدود سياساته إزاءها، وأن أي قرار أمني على هذا المستوى الاستراتيجي يحتاج إلى دعم حلف الناتو، التي تتمتع أنقرة بحق الاعتراض “الفيتو” على قراراته، فضلا عن أن الولايات المتحدة لا تشاطر الأوروبيين همومهم هذه بالدرجة نفسها، بل ترغب في أن ترى سياسة فاعلة لروسيا في ليبيا، وهو ما تتولاه تركيا. وقد شجع هذا الواقع أنقرة على المضي في سياساتها الحازمة دون اكتراث باعتراضات الاوربيين، رغم أن العقوبات في حال فُرضت عليها ستكون مؤثرة في اقتصادها.

أخيرا، يبدو أن الموقف الأوروبي الجديد الذي يقبل المفاوضات لحل الحدود البحرية يثبت لأنقرة أن تحركاتها الأخيرة والأمر الواقع الذي سعت لفرضه قد منحها مكاسب، بعد أن كان الأوروبيين يرفضون تماما أي تغيير في هذه الحدود.

أما مصر، فيصعب عليها قبول تقدم تركيا في شرق المتوسط وفي ليبيا نحو حدودها. ومع صعوبة التدخل العسكري المصري المباشر في ليبيا، نظرا إلى انعكاساته الاقتصادية والأمنية وربما القانونية، فعلى الأغلب أن تنشط مصر، في اتجاهين:

ـ إما تنسيق الأعمال العسكرية لحلفائها المحليين في شرق ليبيا لإغراق تركيا بحرب طويلة ومستنقع يصعب حسمه أو الخروج منه.

ـ وإما الدفع بتأييد الحل السياسي، بعد ترحيبها ببياني حكومة الوفاق ومجلس النواب في طبرق بشأن وقت القتال، وذلك لتأخير أي تقدم لأنقرة في ليبيا، أو لضمان خروجها من خلال تطبيق الدعوة المتعلقة بخروج كافة القوات الأجنبية من ليبيا على تركيا.

ومع أن القاهرة قد تنجح في تقليص التهديد المتصور من تركيا في ليبيا في حال استقرت الأخيرة عبر الحل السياسي، فإن رسائل التحذير إلى تركيا في شرق المتوسط قد تزيد التصعيد بدلا من التسوية والحل، لأن الأخيرة تبدو ماضية في إجراءاتها وزيادة نفوذها في شرق المتوسط، في ظل عدم معارضة شديدة من واشنطن أو الناتو حتى الآن، وفي ضوء موقف الأوربيين الذي أصبح يدعو إلى حل الخلافات سلميا، وميل توازن القوى مع اليونان لصالح أنقرة.

خاتمة

بيّنت الدراسة إدراك تركيا إرثها ونفوذها البحري تاريخيا وجغرافيا، وسعيها الحالي لتوسيع مفهوم الوطن ليشمل التركيز على مناطق بحرية واسعة تعتبرها ضمن كيانها السيادي. وتقوم بتأسيس وجود دائم في مناطق اقتصادية خالصة تسعى لتثبتها قانونيا عبر الإتفاقية البحرية مع ليبيا، وكذلك بالأمر الواقع عبر تسيير سفن الاستكشاف والتنقيب.

لقد أدى توقيع الاتفاقيتين البحرية والعسكرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبي إلى تلازم مساري التحرك التركي الخارجي:

الأول، رسم خريطة بحرية جديدة بدأت معها سياسة المواجهة مع اليونان تحديدا، ومن ثم مع الإتحاد الأوروبي.

والثاني، تثبيت هذه الخريطة وخلق امتداد جغرافي وسياسي لمصالحها يصل إلى جنوب المتوسط، أي إلى ليبيا.

خلق هذا الواقع الجديد احتمالات عسكريا في شرق المتوسط، لكنه خلق أيضا احتمالات للتفاوض على تقسيم جديد للمناطق البحرية مختلف عن السابق الذي كان يحصر تركيا في شريط ضيق بجانب سواحلها. وتجلي التحول الأهم في موقف الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح يدعو إلى حل الخلافات سلميا بين اليونان وتركيا، بدلا من الاقتصار على إدانة تركيا فقط وقد يظهر هذا التحول لتركيا جدوى سياستها الجديدة، إذ ربما تحصل على مكاسب لم تكن واردة قبل سنة واحدة فقط.

ومع ذلك، فإن إرث العداء التركي ـ اليوناني قد يمنع اليونان من التنازل مطلقا عما تعتبرها مناطقها الاقتصادية الخالصة. كما يفتح اتفاق الحدود الجديد مع مصر بابا جديد للنزاع، وبخاصة أن هذه الحدود تتقاطع مع الحدود التي رسمتها تركيا وحكومة الوفاق الليبية، فضلا عن أن مصر تخوض معركة نفوذ ضد تركيا في المنطقة العربية وشرق المتوسط.

وفي ضوء التقدم المعزّز بالقوة في شرق المتوسط، وفي ليبيا، وتحديه لدول إقليمية ودولية، فإن هذه الدول على الأغلب لن تسلم بالمكاسب التركية، بل سوف تسعى إلى تقليص هذه المكاسب بالتصعيد أو التسوية. لكن مساعيها حتى الآن لم تؤد إلى تقليص الإصرار التركي على المضي في السياسة الجديدة.

ومن الصعب، مثلا، أن تنجح أي سياسة مواجهة أوروبية ضد تركيا إلا بانضمام الولايات المتحدة إليها. بينما لا ترغب واشنطن حتى الآن في مواجهة حليفتها أنقرة التي توازن النفوذ الروسي في ليبيا. أما روسيا، فقد تحاول منع تقدم أنقرة وحكومة الوفاق، لكنها تسعى للتواصل المستمر مع الأتراك لإيجاد حل سياسي يمنح حلفاءها في شرق ليبيا تأثيرا أكبر ويضمن مصالحها، وهو ما يبدو أنه يقف خلف موقفها المؤيد لوقف القتال في ليبيا وتأييد الحل السياسي الذي أعلنه مجلس الدولة الليبي الوفاق الوطني ومجلس النواب في طبرق وفي آب/ أغسطس 2020.

أما القاهرة، التي تدرك مخاطر تقدم تركيا نحو حدودها، فيبقى الاحتمال قائما أن تزيد دعمها لحلفائها المحليين في لييبا من أجل استنزاف تركيا، ولكن الأغلب أن تقوم بدعم الحل السياسي أعلاه، الذي رحبت به، لأنه يضمن مصالحها في استقرار ليبيا وتبعد أي تهديد متصور من اقتراب تركيا من حدودها الغربية.

أما مواجهة تركيا في شرق المتوسط، فقد تتركز على تعزيز تحالف مصر مع اليونان وقبرص وإسرائيل لخلق واقع مضطرب وصراع قانوني يجعل وجود تركيا في المنطقة عبئا وعنصر استنزاف بدلا من استقرار وقوة لها، وبخاصة إن استطاعت هذه الدول دفع الأوروبيين إلى فرض مزيد من العقوبات على أنقرة.

أخيرا، لا يستبعد أن تمهّد إعادة تشكيل الخرائط في شرق المتوسط لبداية صراع طويل ينطوي على جميع الاحتمالات، من بينها التوترات المسحلة أو التفاوض على واقع جديد.

***

عماد قدورة ـ مدير قسم التحرير في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. عمل باحثًا ومحرر أول في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، وباحثًا في مركز دراسات الشرق الأوسط، والمركز العلمي للدراسات السياسية . تتركز اهتماماته البحثية حول العلاقات الدولية، والدراسات التركية.
____________

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

مواد ذات علاقة