أدالكوني علي اعبودة

كفل الإعلان الدستوري الحق في التقاضي لكل إنسان بتنصيصه في المادة الثالثة والثلاثين على أن: “التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة (…)”. 

وردت المادة المذكورة في الباب الرابع المعنونالضمانات القضائيةورغم قلة عدد مواده (ثلاث مواد)، فإنه يمثل ركيزة هامة من ركائز دولة القانونوجود قضاء مستقل ونزيه، إضافة لمبدأ سيادة القانون.

والاستقلال الذي أراده واضعو الإعلان الدستوري لا يقف عند استقلال القضاء، بوصفه سلطة “الاستقلال المؤسسي“، أي في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية بحسب الوظائف المنوطة بكل منها، بل يتعدى إلى استقلال القاضي عندما يجلس للحكم، وهو ما عبرت عنه المادة 32: “السلطة القضائية مستقلةوتتولاها المحاكم (…) والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون والضمير (…)”.

ولما كان هذا الاستقلال، ولو تحقق على الصعيدين المؤسسي والعضوي، قد لا يكون كافيا بدون تكريس ما أسماه المشرع “الضمانات القضائية“، أو ـ بحسب رأينا ـ معايير المحاكمة العادلة عموما، فإن المواد 31-32-33 أكدت أيضا:

1. مبدأ الشرعية، لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نصوالمتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة عادلة.

2. كفالة حق المتهم في الدفاعوالعبارة قاصرة لأن أي محاكمة – ولو لم تكن جزائية – تقتضي هكذا ضمانة.

3. حق كل مواطن في اللجوء إلى القضاء وفقا للقانون، والعبارة أيضا ليست دقيقة لأن هذا حق لكل إنسان بحسب المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ما حاولت المادة 33 تلافيه بتكريسها هذا الحق للناس كافة، ولكنها عادت لتتحدث عن المواطن(..) ولكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي (..)”!

4. مبدأ المشروعية من خلال حظر المحاكم الاستثنائية (مادة 23-2)، وحظر تحصين القرارات من الرقابة القضائية (مادة 33-2).

5. مبدأ الاحتكام إلى القاضي الطبيعي (أو القاضي غير الاستثنائي)، وهو أمر ذو دلالة في ليبيا بالنظر إلى تجربة المحاكم الاستثنائية بعد انقلاب 1069.

6. مبدأ تقريب العدالة من طالبيها وسرعة الفصل في القضايا (مادة 33-1). ولا شك أن كفالة الحق في الوصول إلى العدالة لا يقف عند إقرار المبدأ في الوثيقة الحاكمة حاليا (أي الإعلان الدستوري)، بل يتطلب التزام الدولة بصون حقوق الإنسان وحرياته كما وردت في الإعلانات والمواثيق الدولية

وهو ما كرسته المادة السابعة من الإعلان ذاته، وهو ما ينسجم مع الأهداف العامة الواردة في ديباجة الإعلان: “تحقيق الديمقراطية والتعددية ودولة المؤسسات ومجتمع المواطنة والعدالة (..) الذي لا مكان فيه للظلم والاستبداد والطغيان (..)”.

وعلى الرغم من اكتفاء الإعلان الدستوري بالإشارة إلى القضاء دون أي وصف، فإن المسلّم به في مجال التفسير أن المطلق يؤخذ على إطلاقه، وهو ما يعني أن المشرّع حافظ على البنية القضائية باستثناء ما هو استثنائي.

هذا التحليل تؤكده المادة 35 التي تنص “يستمر العمل بجميع الأحكام المقررة في التشريعات القائمة، فيما لا يتعارض مع أحكام هذا الإعلان إلى أن يصدر ما يعدلها أو يلغيها (..)”. ولما كان النظام القضائي وقت صدور الاعلان –ولا يزال – يعطي لكل ذي شأن أن يلجأ إلى المحاكم بما فيها المحكمة العليا (مادة 20 من قانون نظام القضاء رقم 2006-6)، وإن من صور اختصاص المحكمة العليا الفصل في الطعون الدستورية، وهو ما يعني حتما أن كفالة الحق في الوصول إلى العدالة يعتمد، أيضا، على ضمان آلية التصدي للمخالفات الدستورية كما نظمها القانون.

مما يعني استمرار سريان القانون رقم 1982-6 المعدّل في شأن تنظيم المحكمة العليا، الذي كرّس الحق في الطعن الدستوري إضافة إلى الطعن بالنقض في أحكام المحاكم الدنياغير أن الدائرة الدستورية التي خصّها المشرّع بالنظر في المسائل الدستورية جُمّدت بصدور قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا رقم 2016-7 بشأن تعليق عمل الدائرة الدستورية والذي نص: “يؤجل البت في الطعون الدستورية إلى أجل يحدد فيما بعد بقرار من الجمعية العمومية“!

هذا التجميد يذكر بسابقة أخرى حدثت في ظل النظام السابق جاءت بعد إعادة الدائرة الدستورية التي ألغاها المشرّع سنة 1982، عندما تلكأت الجمعية العمومية، بذلك الوقت أيضا، في إصدار اللائحة الداخلية التي أحال لها القانون رقم 1994-17 بتعديل القانون رقم وإعادة الدائرة الدستورية فيما يتعلق بإجراءات الطعون الدستورية.

فكأن التاريخ يعيد نفسه، وهو ما يطرح إشكالية التمييز بين السابقتين (فقرة أولى)، قبل التساؤل عن مدى شرعية ومشروعية تجميد الجمعية العمومية لعمل الدائرة المذكورة (فقرة ثانية)، وانعكاسات ذلك على حقوق المتقاضين (فقرة ثالثة).

الفقرة الأولىالتعطيل، رغم اختلاف الإرادة

رغم أن تعطيل عمل الدائرة قد لا يختلف في الظاهر عن الإلغاء الذي يشمل الفترة ما بين نفاذ القانون رقم 1982-6- الذي ألغى الدائرة الدستورية ضمنا– ونفاذ القانون رقم 94-17 بتعديله (أولا)، إلا أن الأهم هو أن الآلية قد تكون مختلفة (ثانيا).

أولااختلاف آلية تجميد عمل الدائرة

سلوك الجمعية العمومية للمحكمة العليا ليس مطابقا لسلوك المشرّع في شأن وجود الدائرة الدستورية، فهو في البداية –أي في العام 1982 – استعمل امتياز السيادة الذي يتمتع به، فألغى الرقابة على دستورية القوانين المنوطة بالدائرة الدستورية، لأن وجودها يقف أمام ما يريد تنفيذه من “إصلاحات” تطال حقوقا كثيرة أهمهاالحق في الحرية والحق في التملك وفقا “للأيديولوجية” المعبّر عنها وقتئذ في أدبيات القذافي.

أما الجمعية العمومية في السابقة الأولى، أي في السنوات ما بين 1993-2004 فعمدت – لمسايرة “القذافي” أو للتقية – إلى الوقوف موقفا سلبيا بالامتناع عن إصدار اللائحة الداخلية التي يتوقف عليها عمل الدائرة الدستورية، والتي إعيدت إلى الحياة بعد ما يقارب العقد ونصف العقد من الغيابحيث عادت الجمعية العمومية إلى الفعل فأصدرت اللائحة (قرار الجمعية العمومية للمحكمة بجلستها رقم 2004-283، بإقرار اللائحة الداخلية).

لكن الجمعية المشار إليها في سنة 2016 ذهبت مباشرة إلى تعليق عمل الدائرة الدستورية بإصدار القرار رقم 7-2016، والذي علّقت به عمل تلك الدائرةوالتعليق يقف عند تجميد عمل المعلّق دون أن يلغيهفالدائرة هنا رغم وقف نشاطها تبقى، ولكنها ساكنة دون حياة، وهو ما قد يوهم الأشخاص من غير أصحاب مهنة القانون أو رقابة دستورية القوانين قائمة لأن من يقوم بها موجود!

وقد يؤكد هذا الانطباع الاستمرار في قبول الطعون الدستورية إداريا وفقا للإجراءات المقررة، أن من خلال صحيفة ببيانات معينة وموقعة من محام مقبول للترافع أمام المحكمة العليا تقدم إلى المسجل المختص من أصل وعدد كاف من الصور (المادتان 12 و13 من اللائحة الداخلية).

ولكن ذلك يبقى مجرد آلية بدون روح لأن سلطة رئيس المحكمة تبقى هي الفيصل، فهو من يأمر بإحالة ملف الطعن بعد إعلان الخصوم وانقضاء مواعيد المذكرات المبيّنة في المادة 15 من اللائحة، إلى نيابة النقض لإبداء رأيها في الميعاد الذي يحددهوالرئيس هو من يحيل الملف إلى أحد أعضاء الدوائر المجتمعة ـ التي تختص بنظر الطعون الدستورية ـ لوضع تقرير يلخص الوقائع والمسائل القانونية محل النزاع، وبعد انتهاء المستشار المقرر من مهمته وإيداع الملف قلم التسجيل المختص، يُعرض الملف من جديد عليه ليقوم بتحديد جلسة (المادتان 16 و 17 من اللائحة)، أي أن نظر الطعون رهين إرادة رئيس المحكمة العلياوهو ما يتأكد لدى مقارنة نتائج الموقوفين.

ثانياالإلغاء والتجميد وجهان لعملة واحدة

من عايش مرحلتي الإلغاء والتجميد يجد أنه رغم اختلاف طرق تحقيق الغرض المستهدف، فإن النتيجة واحدة عمليا وهي عدم وجود الرقابة على دستورية القوانين واقعيا.

ومما يؤكد ذلك أنه بعد صدور قانون إعادة تنظيم المحكمة العليا (من خلال إصدار القانون رقم 6-1982) مباشرة تم الطعن في قضية تمس الحرية، بتطبيق نص عقابي قبل نشر القانون، وكان جواب المحكمة العليا صادما عندما حكمت بعدم اختصاصها برقابة دستورية القوانين

وهو ما قاد الفقه إلى الحديث عن غسل المحكمة يديها من هذه الرقابة، ذلك لأنه رغم إلغاء المشرّع لرقابة الإلغاء التي تتطلب وجود نص يجيزها، فإن ذلك لا يمنع القضاء من ممارسة رقابة الامتناع.

ووجد المواطن نفسه في وضع مشابه عندما أعاد المشرّع الاختصاص برقابة القوانين الدستورية إلى المحكمة العليا، لكن الجمعية لم تعدل لائحتها الداخلية لتحدد إجراءات رفع الطعون الدستورية، واستمر الحال على ما كان عليه أكثر من عقد من الزمان تقريبا إلى أن تم إصدار اللائحة عام 2004.

وبصدور قرار تعليق عمل الدائرة الدستورية سنة 2016 عدنا إلى وضع مماثلعدم فعالية الرقابة على دستورية القوانين رغم تكريسها قانونا، مما يؤكد أن العبرة ليست بالنصوص الواردة في قوانين نشرت في الجريدة الرسمية، بل العبرة بإمكانية تطبيقها وقطف ثمارها.

وتأكد ذلك من خلال الواقع الذي نتج عن القرار رقم 7-2016 حيث حُرم الأشخاص من حقهم في الطعن بعدم الدستورية رغم أنه متاح نظريا، وهو ما دفع البعض لاستعمال آلية الطعن الإداري لحمل الجمعية العمومية على تغيير موقفها، أن من خلال رفع الطعن إلى محكمة استئناف طرابلس وموضوعه إلغاء قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا رقم 7-2016. 

حيث استجابت الدائرة الإدارية الثالثة للطاعن وقضت بإلغاء القرار بتاريخ 24 فبراير 2020 (حكم غير منشور)، أي بعد ما يقارب الأربع سنوات.

غير أن الإلغاء قد لا يكون نهاية تجميد نظام الرقابة على دستورية القوانين على الصعيد العملي، لأن رئيس المحكمة العليا، كما سبقت الإشارة، يملك سبل تأخير عودة عمل الدائرة الدستورية دون أن يخشى الوقوع تحت طائلة إنكار العدالة التي وجدت دعوى المخاصمة للوقاية منها.

هكذا يتبين أن الاختلاف بين إلغاء وتجميد عمل الدائرة الدستورية هو مجرد اختلاف في الدرجة، لأن النتيجة من الناحية العملية تكاد تكون واحدة إلى حد يسمح بالقول إنهما وجهان لعملة واحدة، لأن ما يهم طالبي العدالة هو الوصول إلى القضاء وحماية حقوقهم أو مراكزهم القانونية، وقد يحتاجون في دفاعهم إلى استعمال رقابة دستورية القوانين سواء في صورة دفع أو دعوى ترفع مباشرة إلى الدائرة الدستورية (مادة 23 من القانون رقم 6-82 بشأن إعادة تنظيم المحكمة العليا).

يتبع في الجزء التالي بدءً بـ فقرة ثانيةمدى شرعية ومشروعية تجميد الدائرة الدستورية من قبل الجمعية”

***

أدالكوني علي اعبودة ـ كلية القانون طرابلس

______________

مجلة “الميزان” ـ عدد تمهيدي رقم (0) ـ عدد متخصص حول الحق في الوصول إلى العدالة في ليبيا ـ مايو 2022.

مواد ذات علاقة