في ظل غياب الاستقرار الأمني واستمرار النزاع السياسي

عبدالرحمن أميني

«لا أحد بإمكانه استئصال الآخر مهما كان تصنيفه معارضا أو مواليا».. بهذه القناعة يسعى مهندسو مشروع المصالحة في ليبيا إلى بناء أرضية مناسبة تُقنع الأطراف السياسية والاجتماعية بالتوافق، تمهيدا لإجراء انتخابات نزيهة يقبل بنتائجها الجميع. لكن ما جرى في بنغازي قبل أيام ينسف فكرة «العيش المشترك»، ويقدّم إشارات سلبية على حالة التصالح الممكنة.

فالمفارقة أن الاشتباكات مع وزير الدفاع بحكومة الوفاق الوطني السابقة، المهدي البرغثي، في بنغازي 6 أكتوبر الجاري، تزامنت مع وصول قائد «القيادة العامة» المشير خليفة حفتر إلى عاصمة الكونغو برازافيل، ولقائه رئيس الكونغو دينيس ساسو نغيسو، المكلف من الاتحاد الأفريقي بملف المصالحة في ليبيا، وهو اللقاء الثاني من نوعه منذ العام 2017، مما يعد مؤشرا قويا على اتخاذ ترتيبات، لتسريع وتيرة المفاوضات المباشرة وغير المباشرة التي يقودها نغيسو مع الشخصيات الرئيسية في الصراع الليبي.

احتمالات التفاوض لتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة تتضاءل
لكن للأسف ـ وفق متابعين للشأن الليبي ـ تراجعت هذه الفكرة مع اندلاع اشتباكات واسعة في بنغازي بين الجيش الوطني الليبي ومرافقي البرغثي، الذي تولى حقيبة الدفاع في حكومة فائز السراج السابقة بالعاصمة طرابلس، وأمضى سنوات بعيدا عن ليبيا.

وبعد نحو أسبوع من اختفاء البرغثي، وتأكيد أسرته أنه معتقل لدى الجيش الوطني، أوضح المدعي العام العسكري فرج الصوصاع أنه أصيب بجروح خطيرة إثر دخوله في مواجهات مع قوات أمنية، بعد أن رفض تسليم نفسه لها.

وتطرح الأزمة المستجدة، مثلها مثل قضية المحتجين على المستببين في كارثة درنة، استفهامات كثيرة حول انعكاسها على مشروع المصالحة الوطنية الذي يعمل عليه المجلس الرئاسي منذ العام 2021 بدفع أفريقي دون أن يرى النور.

كما أن هناك قضية أخرى لا تزال تثير الجدل على خلفية استمرار احتجاز عضو المجلس الوطني الانتقالي سابقا فتحي البعجة وزميليه الناشطين السياسيين طارق البشاري وسراج دغمان لدى جهاز الأمن الداخلي في بنغازي للأسبوع الثالث على التوالي، حيث لم تتمكن عائلاتهم من زيارتهم، ولم يبلغوا بالتهم المنسوبة إليهم.

وقد جاء اعتقالهم عقب نقاش جرى خلال ندوة حول تداعيات كارثة انهيار سدي درنة، نظمها مركز الدراسات الإستراتيجية والمستقبلية في بنغازي.

انتقاد باتيلي لاستمرار عمليات الاعتقال والاحتجاز التعسفي
وخلال جلسة في مجلس الأمن الدولي، تطرق الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، عبدالله باتيلي، إلى الاشتباكات المسلحة التي وقعت في مناطق ذات كثافة سكانية عالية ببنغازي مطلع هذا الشهر، داعيا الجميع إلى اختيار وقف التصعيد من خلال الحوار، ووضع مبادئ حماية المدنيين في قلب العمليات.

باتيلي عبر عن القلق كذلك من «استمرار الهجمات على الحيز المدني وسيادة القانون، مما يسهم في تدهور الوضع العام». وقال إنه جرى تسجيل عمليات اعتقال واحتجاز تعسفي في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك لأعضاء الأحزاب السياسية ومراكز الفكر.

أيضا، ومع الانتقادات الحقوقية والأممية، فإنه لا يمكن القفز على المرونة السابقة التي أظهرتها السلطات في شرق ليبيا الصيف الماضي تجاه عدد من المعارضين الذين استعادوا ممتلكاتهم، وعادوا إلى مساكنهم بعد سنوات قضوها في الغربة، فما الذي تغيّر حتى انقلب الوضع ضد آخرين؟.

ففي 10 سبتمبر الماضي، دافع الصديق حفتر، الابن الأكبر لخليفة حفتر، عما تقوم به السلطات في شرق البلاد. وقال في باريس عشية كارثة درنة: «أعتقد أن عندنا المقدرة بشكل إيجابي على رأب الصدع بين الليبيين، وترسيخ مبدأ المصالحة الوطنية بين كل أفراد الشعب الليبي، وهذا الدور من صميم ما تقوم به العائلة في الدفاع عن الوطن في الجانب المدني»، وفق تعبيره. كما دافع الصديق، في مقابلة مع وسائل إعلام فرنسية، عن دور عائلته في البلاد، وسعى إلى تقديم نفسه على أنه يمثل جيل الشباب الليبي.

الانتخابات الرئاسية تغير قناعات البعض بحثًا عن مكاسب 
وفي إطار  سياسة «اليد الممدودة» ولحسابات سياسية قد تكون لها علاقة بالانتخابات الرئاسية المقبلة، عاد كثير من المهجّرين المناوئين لحفتر على غرار نائب الآمر العسكري للشرق الليبي سابقا العقيد سعيد بوغليظة، الذي كان مهجرا في تركيا لعدة سنوات.

وتزامنا مع ذلك، أخلى اللواء «106 مجحفل»، التابع لقوات «القيادة العامة» برئاسة خالد حفتر، 77 عقارا جرى الاستيلاء عليها من قِبل قوات الجيش الليبي، وتسليم بعضها لأصحابها من الأسر التي غادرت مدينة بنغازي، ومطالبة كل من له عقار استولى عليه عسكريون أو مدنيون بالعودة لتسلمه.

واجتمع آمر اللواء «106 مجحفل»، ووكيل وزارة الداخلية في الحكومة المكلفة من مجلس النواب فرج قعيم، ووكيل وزارة الداخلية، وعدد من وكلاء النيابة العامة في 28 فبراير الماضي. وناقش الاجتماع إرجاع عقارات المواطنين والممتلكات المنهوبة من الخارجين عن القانون. كما أعلن بعده فرج قعيم أن الوزارة بدأت فعليا في هدم المبنى الرئيسي لسجن «الكويفية» بضواحي بنغازي سيئ السمعة.

هذه الاجراءات بعثت في حينها برسائل طمأنة للخصوم السياسيين والعسكريين بتجديد ثقة أهل برقة في سلطات الشرق الليبي، إدراكا من جهة المتعطشين لانتخابات الرئاسة بأن فرص نجاحهم في كسب مختلف الأطياف تبدأ بجبر الضرر.

غير أن مسائل أخرى بالنسبة لهؤلاء المتمركزين في برقة أكدت عدم قدرتهم على طي صفحة الخلافات الجذرية مع أنصار «الخضر» أو «سيف القذافي»، ومن جهة أخرى رئيس حكومة «الوحدة الوطنية الموقتة»، عبدالحميد الدبيبة، الذي يرفض التنازل عن كرسي السلطة، ويرغب في رئاسة ليبيا.

وبالنسبة لخصوم «سيف »، فإن المحكمة الجنائية الدولية قالت كلمتها، والقوانين الانتخابية المعلنة بشكل أحادي الجانب من مجلس النواب فتحت الأبواب له. أما الاتحاد الأفريقي فيقدم فرصة له من خلال مشروع المصالحة واللجان التحضيرية عبر مشاركة ممثلين عن النظام السابق في أشغال التحضير للمؤتمر الجامع للمصالحة الوطنية.

بينما تعارض الولايات المتحدة الأميركية الرغبة الروسية بشأن حق «سيف الإسلام» في العودة للحياة السياسية، الأمر الذي يضعف أي فرص لإيجاد إطار قانوني وتشريعي لموضوع المصالحة، يطوي سنوات الصراع بين أتباع القذافي وأنصار ثورة 17 فبراير.

وأجلت هذه الخلافات عقد المؤتمر الجامع للمصالحة الذي يأمل المجلس الرئاسي أن يشارك فيه الجميع قبيل التوجه إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المنتظرة.

المبعوث الأممي بدوره أبدى في عدة مناسبات ترحيبه بالمساعي الأفريقية لتفعيل المصالحة الوطنية. وقال في اجتماع الكونغو: «الأمم المتحدة تؤيد بشكل كامل جميع المبادرات الهادفة لدعم المصالحة في ليبيا».

مشروع المصالحة محلك سر
وفي 9 سبتمبر 2021، أطلق المجلس الرئاسي مشروع المصالحة الوطنية الشاملة، وهي المهمة التي كلفه بها ملتقى الحوار السياسي الذي رعته الأمم المتحدة بين أطراف النزاع الليبي في جنيف.

وقبل أيام، شدد وزير العدل بالحكومة المكلفة من مجلس النواب المستشار خالد مسعود، خلال لقائه نوابا ووفد من مجلس حكماء مدينة بنغازي، على «ضرورة السعي في ملف المصالحة الوطنية، ولمّ الشمل، وتناسي خلافات الماضي بين الأشقاء الليبيين».

وبحث النائبان بالمجلس الرئاسي موسى الكوني وعبد الله اللافي، في طرابلس مع مبعوث واشنطن الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند، ومديرة مكتب الصراع وتحقيق الاستقرار في الحكومة الأميركية آن فيتكوفسكي، سبل التعاون في مجالات الانتخابات والمصالحة والتنمية.

وأوضح بيان للمجلس أن «الجانب الأميركي استعرض إستراتيجية التعاون بين البلدين، لتحقيق الأمن والاستقرار، والمصالحة الوطنية، وإعمار مدينة مرزق المتضررة جراء العاصفة».

ونقل البيان عن النائبين بالمجلس الرئاسي تأكيدهما «أهمية التعاون المشترك مع الجانب الأميركي في مجالات التنمية، وتأمين الحدود الجنوبية، وتأكيد أهمية إنجاح مشروع المصالحة الوطنية من أجل عودة الاستقرار لليبيا، وإجراء الانتخابات، وإنهاء المراحل الانتقالية».

_____________

مواد ذات علاقة