كرم سعيد

أعلنت النخب والفعاليات السياسية والاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني في فزان، في 10 يناير الجاري، عن إنشاء الإدارة الذاتية للجنوب الليبي، وهو ما أثار الكثير من الجدل وردود الفعل حول أسباب وتداعيات ذلك.

ورغم التأكيد على أن هذه الإدارة الذاتية ستكون وسيلة للوحدة والبناء، ولن تكون بديلاً عن المؤسسات السيادية في الدولة، فإن ذلك لم يمنع اتجاهات عديدة من ترجيح تعرض هذه التجربة لاختبارات صعبة خلال المرحلة القادمة في ظل المعطيات التي تفرضها تطورات المشهد السياسي، فضلاً عن غياب الإمكانيات التي يمكن أن تساعد تلك القوى في تحقيق أهدافها من تلك الخطوة.

سياقات معقدة

جاء الإعلان عن تأسيس الإدارة الذاتية في فزان في ضوء سياقات معقدة تشهدها الساحة الليبية، في الصدارة منها إغلاق حقل “الشرارة” النفطي، في 3 يناير الجاري، على خلفية احتجاجات شعبية اندلعت بسبب نقص الطاقة في مناطق الجنوب، حيث يشكو عدد من أهالي سبها والمنطقة الجنوبية من نقص الوقود والغاز وضعف الخدمات العامة والأساسية، فضلاً عن تراجع الأوضاع المعيشية في مدن الجنوب.

وتجدر الإشارة إلى مطالبة المحتجين بتفعيل قرار إنشاء مصفاة الجنوب، وصيانة الطرق المتهالكة، وتعيين أبناء الجنوب في الشركات النفطية. ومع الارتدادات العكسية التي فرضتها الاحتجاجات في نطاق حقل “الشرارة”، وتأثيرها على معدلات إنتاجه، اضطرت مؤسسة النفط، في 7 يناير الجاري، إلى إعلان حالة القوة القاهرة في الحقل.

وبالتوازي مع ذلك، جاء إعلان إنشاء الإدارة الذاتية متزامناً مع تصاعد الجدل بين طرفي السلطة في ليبيا، والذي وصل للذروة، في 11 يناير الجاري، بعد قرار حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة رفع الدعم عن المحروقات، الأمر الذي أثار غضب الحكومة المكلفة من مجلس النواب في شرق البلاد، ودفعها إلى التحذير من تبعات رفع الدعم عن المحروقات. كما اتهم مجلس النواب حكومة الدبيبة بـ”إهدار مئات المليارات دون أن تشيد مرفقاً حيوياً واحداً يجعل ليبيا تستغني عن استيراد المحروقات”.

في المقابل، فإن الإعلان عن تأسيس الإدارة الذاتية في الجنوب لا ينفصل عن حالة التوتر بين الكيانات السياسية المختلفة بسبب تعثر إجراء العملية الانتخابية، وعدم وجود بيئة مواتية لتنفيذ الاستحقاقين البرلماني والرئاسي، في ظل الصراع بين القوى السياسية المحلية، وإصرار طرفي المعادلة في شرق البلاد وغربها على إعادة صياغة الترتيبات السياسية بما يتوافق مع حساباتهما، بالإضافة إلى تشكيك بعض الأطراف الخارجية المنخرطة في الأزمة الليبية في قدرة البلاد وجاهزيتها على تنفيذ الاستحقاقين الانتخابيين في ظل الانقسام السياسي والمؤسسي بين المكونات المختلفة.

على صعيد متصل، تزامن الإعلان عن إنشاء الإدارة الذاتية في الجنوب مع تراجع الصورة الذهنية للقوى السياسية التي تتصدر المشهد في الوعي الجمعي لأبناء الجنوب، فضلاً عن تصاعد الدعوات في إقليم فزان وبرقة جنوبي البلاد لجهة ضرورة تغيير النخبة السياسية الحالية بعدما فشلت في تحقيق أى مردود إيجابي في المناطق الجنوبية. ويُشار في هذا الصدد إلى أنّ منطقة فزان تعاني منذ سقوط نظام الرئيس الأسبق معمر القذافي في فبراير 2011 حالة من التهميش والاستقطاب بين الفرقاء السياسيين.

دوافع مختلفة

ثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء تحرك الجماعات المحلية في فزان للإعلان عن إنشاء الإدارة الذاتية، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- تعزيز الانخراط في المشهد السياسي:

سعت القوى المحلية والقبلية في فزان طوال الفترة الماضية إلى تسوية خلافاتها البينية، والتوافق على رؤية مشتركة حول مشروع سياسي يضمن مصالح الجنوب. ومن هنا، فإن إعلان فزانالتي تمثل منطقة استراتيجية في ليبيا بسبب مواردها النفطيةعن مشروع الإدارة الذاتية، جاء في سياق مساعي القوى المحلية في الجنوب، وخاصة التّبو والطوارق، لمعالجة الانقسامات القبلية والسياسية، والتوحد خلف مشروع سياسي يستهدف تحسين موقعها في المعادلة السياسية، والتحول إلى طرف فاعل قادر على التأثير في التحولات الجارية، خاصة بعد تجاهل السلطات الحاكمة لمطالبها طوال الفترة الماضية.

2- مواجهة سياسة التهميش والإقصاء:

يمكن القول إن الإعلان عن تأسيس الإدارة الذاتية جاء نتاجاً طبيعياً للوضع الذي شهدته مناطق الجنوب بعد سقوط نظام القذافي، على نحو يوحي بأن الخطوة الجديدة التي أقدمت عليها الفعاليات السياسية والمجتمعية في فزان كانت نتيجة تراكمات عديدة فرضتها السياسات الحكومية التي اتبعت خلال مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق، خاصة أن ذلك توازى مع تفاقم الأزمات المعيشية، رغم أن الجنوب يضم معظم حقول النفط الرئيسية في البلاد.

3- دعم القدرات الأمنية لاحتواء التهديدات:

لا تنفصل هذه الخطوة عن الجهود التي تبذلها الأطراف المحلية في الجنوب من أجل تعزيز القدرات الأمنية في المدن الجنوبية، خاصة مع تصاعد حدة التهديدات التي يفرضها استمرار أنشطة التنظيمات الإرهابية، التي تتخذ من هذه المنطقة المتاخمة للحدود مع دولتى تشاد والنيجر، اللتين تشهدان أزمات سياسية واقتصادية، نقطة انطلاق لتوسيع نطاق نفوذها وتنفيذ عمليات إرهابية عديدة في مناطق مختلفة.

4- بناء عقد اجتماعي جديد:

أعلن مؤسسو الإدارة الذاتية في فزان أن الهدف الرئيسي يتعلق بالحفاظ على موارد الجنوب وحسن إدارتها، بما يمكن أن يساعد في مواجهة المشكلات المعيشية التي يعاني منها القاطنون في مناطق الجنوب. بل إن اتجاهات عديدة مؤيدة لهذا التوجه اعتبرت أنه يمثل تحركاً نحو بناء عقد اجتماعي جديد يمكن من خلاله معالجة الخلل القائم على المستويات المختلفة المعيشية والسياسية والأمنية.

ختاماً، يمكن القول إنه بغض النظر عن التساؤلات المطروحة بشأن مشروعية الإدارة الذاتية في فزان، فإن هذه التجربة تواجه تحديات كثيرة، لعل أهمها عدم توافر المقومات اللازمة حالياً لاستمرار هذا المشروع مستقبلاً ما لم تحدث تطورات تغير من المعطيات، فضلاً عن ضعف الإمكانات السياسية والعسكرية التي تمتلكها القوى المحلية في الجنوب، بالإضافة إلى استمرار مخاطر التنظيمات الإرهابية والمسلحة التي تشكل نقطة ضعف في تلك المناطق. بيد أن ذلك لا ينفي أن الإعلان عن الإدارة الذاتية قد يسرع من وتيرة تعامل الحكومتين في طرابلس وبنغازي مع مشكلات الجنوب وعدم الانتظار لحين حسم المرحلة الانتقالية الراهنة.

_________________

مواد ذات علاقة