إعداد المفكرة القانونية

من الأدوار الرئيسية التي يجب أن تضطلع بها الدولة المدنية هو توفير مناخ إيجابي للفكر والإبداع يُسمح فيه للمبدعين بإطلاق العنان لإبداعهم وتوفر لهم مساحة كافية لإصدارتهم، وذلك عبر توفير الحماية لهم ولأعمالهم وتخصيص جزء من ميزانيتها لدعم الطباعة والإصدار والنشر وأيضا لدعم المبدعين.

وسنسعى في هذا المقال إلى رصد أعمال القمع لهذه الحرية في فترة حكم القذافي لنتناول من ثم مآل هذه الحرية في فترة ما بعد سقوط هذا الحكم.

***

قمع الحريات في عهد القذافي

بالطبع، لم تكن الأمور على هذا النحو في عهد نظام القذافي، حيث فرضت الدولة رقابتها المشددة على الكتب والإصدارات ووضعت قيودا متعددة على حرية التعبير والإبداع. فلم يكن ممكنا نشر رواية أو طبع قصة قصيرة مثلا إلا بعد أن تمرعلى الرقابة، مرة قبل طباعتها، ومرة أخرى قبل إصدارها، وفق أحكام قانون المطبوعات رقم 76 لسنة 1972م.

وفي حين تزين القانون المذكور في مادته الأولى بالتأكيد على حرية الصحافة والطباعة وحق كل شخص في التعبير عن رأيه وفى إذاعة الآراء والأنباء بمختلف الوسائل، فإنه سرعان ما أخضع هذه الحرية لشرط احترام قيم وأهداف المجتمع، وهي مفاهيم مرنة وفضفاضة وقابلة للتأويل.

كما ناقضت المادة 21 من هذا القانون التي تحظر فرض الرقابة على المطبوعات، أحكامه الأخرى والتي عادت أخضعت ما ينشر لرقابة إدارة المطبوعات المسبقة. وفيما خوّل القانون القطاع الخاصّ امتلاك مؤسسات للطباعة وإصدار المطبوعات، إلا أنه قصر الأمر على الجهات المخولة قانوناً التعبير عن آراء منتسبيها، وهي تمثل غالبا الصحف الصادرة عن الدولة بما في ذلك المنظمات والجمعيات الرسمية.

وهذا القانون يعرفه الكتاب والمبدعون أكثر من سواهم، لأنه بمثابة السيف المصلت على رقابهم. فكم من مبدع سُجن ونكل به وأحيانا نفي بسبب هذا القانون؟ كما قدم بعض المبدعين لمحاكمات ثورية وقد استخدم المدعي العام بعض ما ورد في هذا القانون لدعم مرافعته ضدهم والمطالبة بإنزال عقوبة الإعدام بهم.

وفي ذات الاتجاه، صدر قرار اللجنة الشعبية العامة (مجلس الوزراء) رقم 17 لسنة 1993 بإنشاء المؤسسة العامة للصحافة والتي جعل منها الجهة الوحيدة المختصة بـإصدار وتملك الصحف والمجلات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

وبعد عام 2004 وبداية انتشار الإنترنت وتنامي حضور سيف القذافي في المشهد السياسي، حدثت انفراجة نسبية بصدور صحيفتي أويا و قورينا وكلاهما لا تتبعان المؤسسة العامة للصحافة.

وهناك أمثلة عديدة نعرض منها عينات ومن أبرز الأمثلة على سجن المبدعين ما تعرض له الشاعر الليبي محمد الشلطامي الذي كان ضيفا دائما في سجون القذافي، فسجن أكثر من مرة نتيجة لقصائده الثورية الداعية لسقوط أنظمة الاستبداد والطغيان والممجدة لثورات الشعوب.

كما سجن الكاتب منصور بوشناف” 14 عام بسبب كتابته لمسرحية عندما تحكم الجرذان، ومنعت روايته «سراب الليل» عام 2008 والتي حملت اسم «العلكة» بعد ترجمتها إلى الإنجليزية العام 2014.

أما القاصّ «أحمد يوسف عقيلة» فقد طال الحظر قصة من مجموعته القصصية الخيول البيضالعام 1999 وهي بعنوان نظريات“. ويقول عقيلة عن سبب المنع هو العنوان «نظريات»، لم يكن هناك في ذلك الوقت سوى نظرية واحدة، في إشارة إلى ما يسمى بـ النظرية العالمية الثالثةللقذافي.

وحتى الروايات التي تشهد نجاحا عالميا وتكتب باللغة الانجليزية كلغة أولى للكاتب وتكتسب جوائز رفيعة طالها المنع والإقصاء. فرواية (في بلاد الرجال) للكاتب هشام مطر التي ترشحت ضمن ست روايات للقائمة النهائية لجائزة «بوكر» الأدبية  لعام 2006 وترجمت ل29 لغة، كانت  محظورة من التداول في بلاده كونها تتحدث عن اختطاف والده من قبل مخابرات القذافي.

أما الكاتبة الليبية «نجوي بن شتوان» فتسببت قصتها «فخامة الفراغ» في استدعائها للتحقيق معها في نيابة الصحافة. ولم تنج الكاتبة «رزان المغربي» أيضا من التحقيق حيث كان العام 1998 هو تجربتها الأولى مع الرقابة بسبب قصتها الساخرة «فئران التجارب».

ولم تمنح الرقابة موافقتها أيضًا على كتاب «سجنيات» للقاص والمترجم «عمر الككلي» العام 2010، وهو عبارة عن نصوص سردية حول تجربة الحياة بداخل السجن، وقضى الككلي ما يقارب عشر سنوات في سجون الرأي في عهد القذافي.

وأيضا منع مجلة عراجين الثقافية من التداول في ليبيا.

والجدير بالذكر أن القيود المفروضة على حرية التعبير والفكر ليست دائما من الدولة. فأحيانا يفرض المجتمع قيوده ويعكس تقاليده المحافظة أو خلفيته الدينية على ما ينشر من إبداع. وأبرز مثال ما حدث مع الكاتبة «وفاء البوعيسي» صاحبة أكبر عدد من الأعمال الأدبية المحظورة.

فمثلا رواية للجوع وجوه أخرىلهذه الأخيرة طبعت ونشرت في ليبيا ووافقت عليها الرقابة، إلا أنها ورغم ذلك تحولت بسببها إلى لاجئة في هولندا بعد حملة تكفيرية من قبل بعض المساجد في بنغازي وإصدار فتوى ضدها.

و«رواية فرسان السعال» التي تسرد تفاصيل حياة المقاتلين العرب الأفغان الذين تطوعوا للجهاد بأفغانستان، ورواية «توليب مانيلا» التي تتناول حكايات طالبي اللجوء هربًا من جحيم بلدانهم، والرواية الوحيدة التي يتم تداولها في ليبيا هي رواية «نعثل» التي كتبت العام 2007 ومنعت بدورها في عهد القذافي ولم تر النور إلا العام 2011.

ودفع الصحفي ضيف الغزال حياته ثمنا لمواقفه التي يعبر عنها بمقالاته الصحفية التي يدعو فيها لمحاربة الفساد في حركة اللجان الثورية في ذلك الوقت وكشف المفسدين. وفي مايو 2005، قبض عليه من قبل شخصين يعتقد أنهم من الأمن الداخلي. وبعد ذلك بأسبوع، عثر على جثته مرمية على قارعة الطريق.

***

البقية في الجزء الثاني

_____________

مواد ذات علاقة