بقلم عبدالرزاق العرادي

في مقال سابق بعنوان ” أيها الساسة.. لا اجتهاد مع النص” ذكرتُ في مقدمته؛ ” اشنقوا الصديق ومن بعده الحبري وألحقوا بهما الشكري ولكن لا تدوسوا “الاتفاق السياسي””.

وهي إشارة واضحة إلى أنه ليست العبرة بالأشخاص؛ إذ لا مشكلة شخصية معهم، فالمبادئ تحدد العلائق، وبالتالي فإن العبرة عند التعيين والاستغناء محصورة في الكفاءة وفي التزام النص.

تحدث البعض عن “تحرير مصرف ليبيا المركزي”، وعن “تحرير الهلال النفطي”، وقبل الحديث عن التحرير في الحالتين، لابد من تحرير بعض المصطلحات لنستبين السبيل.

تحرير المصطلحات

الخيارات المتاحة للتغيير في ليبيا:

ـ إما بالتوافق كما فعل الملك أدريس السنوسي رحمه الله،

ـ وإما بالحسم العسكري كما فعل القذافي في سبتمبر 1969م،

ـ وإما بالثورة كما فعل الشعب الليبي في فبراير 2011م،

ـ وإما باحترام المسار الدستوري كما يحاول العقلاء والأحرار في هذه المرحلة.

المصطلح الأول: هل “الجيش الوطني” هو الجيش الليبي؟

تأسس الجيش الليبي رسميًّا في 9 أغسطس 1952م وكان أول من ترأس أركانه، من أصول ليبية؛ العميد عمران الجاضرة، واحتفظ رئيس الوزراء محمود المنتصر بوزارة الدفاع، وكان القائد الأعلى للجيش الليبي، بحكم الدستور هو الملك إدريس.

كان آخر رئيس للأركان، قبل الإطاحة بالنظام الملكي، هو اللواء السنوسي شمس الدين السنوسي وكان السيد حامد العبيدي هو أخر وزيرٍ للدفاع.

تولى رئاسةَ أركان الجيش الليبي بعد نجاح انقلاب سبتمبر المقدمُ أبوبكر يونس جابر، وكان أول وزير دفاع هو المقدم آدم الحواز، وكان القائد العام هو العقيد معمر القذافي ولم يكن هناك قائد أعلى للجيش.

حل معمر القذافي الجيش الليبي وأحل محله اللجنةَ العامة المؤقتة للدفاع، فألغى رئاسة الأركان ووزارة الدفاع والقائد العام، وأبقى على القائد الأعلى لنفسه، وعين أمينَ اللجنة العامة المؤقتة للدفاع وهو منصب يجمع اختصاصات وزارة الدفاع ورئاسة الأركانالمقدمَ أبوبكر يونس جابر رحمه الله.

عيّن المجلس الوطني الانتقالي اللواءَ عمر الحريري رئيسًا للأركان، ثم عين بدلاً عنه اللواء عبدالفتاح يونس رحمهما الله، ومن بعده تولى اللواء يوسف المنقوش ثم اللواء عبدالسلام جاد الله، ونتيجةً لظروفه الخاصة، سير من بعده رئاسةَ الأركان معاونُه محمد الأجطل، إلى أن كلف رئيسُ المجلس الرئاسي فايز السراج، اللوءَ عبدالرحمن الطويل برئاسة الأركان مؤقتاً.

أثناء قيام ثورة فبراير كوَّنَ مجموعةٌ من الثوار وأفراد من الجيش كتائبَ عسكرية من خلال حصولهم على تراخيص، من وزارة الدفاع التابعة للمكتب التنفيذي، فقامت كتيبة 17 فبراير بتشكيل أول كتيبة ثم تبعها كتائب أخرى في جميع أنحاء البلاد.

قام خليفة بلقاسم حفتر بتقديم طلب إلى وزير الدفاع جلال الدغيلي، لتشكيل كتيبة باسم “الجيش الوطني”، شأنه شأن باقي الكتائب العسكرية التي أُسِّست عقب الثورة، ومنح الترخيص من قبل وزير الدفاع، وهي كتيبة لا علاقة بالقوات المسلحة الليبية والتي تم تغيير اسمها بعد ثورة فبراير ليصبح “الجيش الليبي” بدلا من “القوات المسلحة.

قام المؤتمر الوطني العام بإحالة أكثرَ من 400 ضابط عسكري للتقاعد لوصولهم السنَّ القانونيةَ ومن ضمنهم كان الضابط خليفة حفتر. استمر حفتر في تجنيد الثوار وأفراد الجيش في كتيبته، إلى أن قرر الانقلابَ على السلطة في فبراير 2014م بعد أن تحصَّل على دعم أقليمي من جمهورية مصر ودولة الإمارات.

فمن الذي أرجع اللوء المتقاعد خليفة بلقاسم حفتر إلى الخدمة؟

ومن عينه ليرأس عملية عسكرية باسم الكرامة؟

ومن ولاه ليكون القائد العام؟ وهو منصب لا وجود له بعد أن ألغي قبل الثورة،

ومن ولى عبدالرزاق الناظوري رئيساً للأركان؟

المصطلح الثاني: الإعلان الدستوري أم “الاتفاق السياسي”؟

لمن لا يعترف ب”الاتفاق السياسي” ألزمناه بالإعلان الدستوري بشرط أن يعترف بأحكام القضاء وتحديدًا المحكمة العليا وهي أعلى سلطة قضائية ليبية.

تم انتخاب مجلس النواب وقبل استلامه للسلطة بشكل دستوريا سليماً، أصدرت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا حكمين مهمين للغاية.

الحكم الأول أبطل مقترح فبراير وكل الأثار المترتبة عليها، ومنها قانون انتخاب مجلس النواب، وانتخابات مجلس النواب، وبالتالي أصبح مجلس النواب منعدما من الناحية الدستورية، استنادا إلى هذا الحكم.

ثم عززت المحكمة العليا حكمها الأول بإبطال الجلسة الأولى وما بعدها من جلسات لمجلس النواب، وهذا الحكم الخطير يجعل كل ما صدر من مجلس النواب والعدم سواء.

وهذا يؤكد أن تعيين حفتر والناظوري باطل من الأساس.

وإذا قيل لنا إن “الاتفاق السياسي” أوجد مجلس النواب من جديد، قلنا لهم إن “الاتفاق السياسي” ينص على ضرورة عقد جلسة، بعد التحاق المقاطعين للنظر في كل ما صدر عن مجلس النواب من قرارات وتشريعات.

ويا ليتهم فعلوا، وبما أنهم لم يفعلوا فإن أحكام القضاء ماتزال ساريةً؛

لذلك فإن كل ما صدر عن مجلس النواب والعدم سواء. ومن ذلك القرارات؛ إرجاع حفتر للخدمة وتعيينه قائدًا عامًّا للجيش، وكذلك تعيين الناظوري رئيسًا للأركان.

حتى اللحظة فإن قوات حفتر لا علاقة لها بالشرعية القائمة ولكنها قوات أمر واقع.

المصطلح الثالث: “تحرير الهلال النفطي”

لا ريب أننا على اتفاق، إن كان المقصود ب”تحرير الهلال النفطي”، هو إبعاد كل المجموعات المسلحة غير الشرعية عن منطقة الهلال النفطي، وتسليمها إلى المؤسسة الوطنية للنفط ولتكون تحت الرعاية والرقابة الوحيدة للحكومة الشرعية والمعترف بها دوليا، طبقا لنصوص “الاتفاق السياسي”، ألا وهي “حكومة الوفاق الوطني”.

وإن كان المقصود من “تحرير الهلال النفطي” أن يستلم الجيش مسؤولية حمايته، اتفقنا معكم؛ إن كان الجيش المقصود هو القوات المسلحة والتي سميت لاحقا الجيشَ الليبي وليست كتيبة “الجيش الوطني” التي أسسها حفتر كما أسست باقي المليشيات، وإلا فإن الهلال النفطي لم يتحرر بعد، ومعرض لمزيد من المغامرات العبثية الكارثية.

المصطلح الرابع: “تحرير مصرف ليبيا المركزي”

استنادًا على ما سبق، فإن كان المقصود هو إعفاء محافظ مصرف ليبيا المركزي وتعيين بديلٍ عنه بالطريقة التي نص عليها “الاتفاق السياسي” اتفقنا معكم.

وإن كان المقصود هو ما سأذكرها لاحقاً، فيجب على أقل تقدير أن يعلم الشعب حقيقة التحرير المقصود.

ليست لدي مشكلة في إيجاد طرق لتسوية هذا الإرث العبثي، بالنظر إلى عدم وجود إمكانية لمحاسبة المسؤولين عنه في الوقت الحالي، وترك حسابهم إلى الله ثم التاريخ، ولكن قبل أن أقترح بعض معالم التسوية، لابد أن يعي الشعب هذا العبث: هناك ديون داخلية، خارج الميزانيات، رتبت على الشعب الليبي من خلال المصارف التجارية في الشرق الليبي، ديون تتجاوز الـ 25 مليار دينار،

فقط في الأسابيع الأربع الماضية استلمت قوات حفتر وحدها دعماً يزيد عن المليار ومائتين وخمسين مليون دينار، استعدادًا للحرب على درنة.

الصكوك التي طرحتها حكومة الثني وتم بيعها بنسبة تخفيض تصل إلى 40%، أي يرتب الصك دين على الشعب الليبي بقيمة (100 مليون) بمئة مليون، مقابل أن تستلم قوات حفتر أو حكومة الثني (60 مليون) ستين مليون. هذا كله يحتاج إلى “تحرير مصرف ليبيا المركزي” لتسويته بعيدًا عن أعين الشعب الليبي.

هناك مصارف كبيرة وصل التلاعب فيها إلى درجة الانهيار وقد تعلن إفلاسها، وهي التي ساهمت في المضاربة على الدولار، ومزيد من الضنك للمواطن الليبي، من خلال الصكوك المصدقة، هذه المصارف بحاجة إلى “تحرير مصرف ليبيا المركزي” من أجل إنقاذها من الإنهيار والإفلاس والمسائلة.

هناك ديون خارجية ترتبت على الدولة الليبية من قبل قوات حفتر، وحكومة الثني ومجلس النواب، يحتاج أصحابها إلى تغطية رسمية، من جهة معترف بها محليا ودوليا، تحسبا لأي معارك قانونية قد تُذهب بهذه الديون هباء، هذا بحاجة إلى “تحرير مصرف ليبيا المركزي” من أجل هذه التغطية التي يحتاجها الدائنون الخارجيون (دول، وشركات تضمنها دول).

هناك أرصدة من العملات، بالدينار والعملة الصعبة والذهب، صرفت عبر المجاري، كل ذلك يحتاج إلى “تحرير مصرف ليبيا المركزي” من أجل تغطية قانونية للمجاري التي بلعتها.

هناك أصدرات روسية فوق الأربع مليارات دخلت البنوك التجارية والسوق ومازالت تُطبع دون حسيب ولا رقيب، وهي أكبر وأعظم سرقة في تاريخ ليبيا، سيتكبد المواطن والاقتصاد الليبي مساوئَها لسنين قادمة، هذا بحاجة إلى تحرير المصرف المركزي لتسويتها أيضاً.

هناك صناديق الاستثمار التي تبخرت وتحتاج المزيد من الأموال ويحتاج أصحابها إلى تحريرهم من المسؤولية ومن سرقتها.

هناك ودائع وأموال وأملاك لصالح ليبيا، تمت سرقتها من خلال الصرف على الحرب والرشاوي والفساد، تحتاج تحريرها من خلال توقيع المصرف المركزي عليها وليذهب الشعب إلى الجحيم.

وهناك عقود إبرمت لعلها تحتاج إلى ضمانات من المصرف المركزي، ولذا وجب تحريره.

حرروا مصرف ليبيا المركزي بعد أن تبينُوا للشعب الليبي الكوارث والطوام التي ارتكبت في حقهم، ثم اختاروا الكفاءة القادرة على معالجة هذا الأرث الكارثي وفق القانون.

والحل؟

لهذه الأسباب يستمر الصراع، وأمامنا خيارات؛ إما المسار الدستوري وإما الحسم العسكري، الذي يحاول من خلاله البعض فرض حكم الفرد من جديد.

ولإن بقى نظام القذافي، عشرة سنين يبحث عن قطع سلاح مفقودة لا تتجاوز العشرين قطعة، و لم يشعر بالأمن لفقدانها.

ولإن سنين الاستبداد تركت إرثًا يجعل الإنسان يحن إلى عودة حكم الفرد، طمعًا في الاستقرار والأمان، مضحياً بحقه في الحرية وفي اختيار حكّامه وعزلهم.

فإن موجات الربيع قد حسمت الأمر وقررت استحالة رجوعه، ولو أنه نجح ورجع فلن يستقرَّ له الأمر؛ ذلك أن الربيع قد أرسى قواعدَ جديدةً وأنجب أجيالًا لن ترضى بالضيم ومستعدة للتضحية، جيلًا بعد جيل، من أجل ضمان عدم عودة الاستبداد.

فإن كان هناك رغبة صادقة في إنهاء الوضع الكارثي الذي تعيشه ليبيا، ورفض الحسم بقوة السلاح ورفض لعودة حكم الفرد والاستبداد، فلابد من الاعتراف بـ”الاتفاق السياسي” كمظلة وحيدة لإنهاء الانقسام وحل كل المشاكل القائمة. وذلك بتطبيق المادة (16) من “الاتفاق السياسي”، ومراجعة كل ما صدر عن المؤتمر ومجلس النواب وإعادة إصداره بطريقة دستورية سليمة.

كما إن التعامل مع قوات حفتر يكون على أساس أنها قوات أمر واقع وإنخراطها في الجيش الليبي لا يكون إلا عبر بوابة توحيده.

وإن كانت هناك رغبة في “تحرير الهلال النفطي” فلا مجال لتجنيبه المزيد من الدمار إلا من خلال إخضاعه للمؤسسة الوطنية للنفط، تحت سلطة ورقابة حكومة الوفاق الوطني، وإبعاد كل من هو مطلوب لمكتب النائب العام عن هذه المنطقة، بل الأصل أن يمتثل المطلوب لأوامر النائب العام، بدلا من الهروب إلى الأمام وتدمير المزيد من قوت ومقدرات الشعب الليبي.

وإن كان هناك رغبة في “تحرير مصرف ليبيا المركزي” فلا يكون ذلك بالاستيلاء عليه وطمس أرقامه، ولكنه يكون بإجراء مراجعة مالية دقيقة، من قبل بيت خبرة مستقل، للوقوف على هذه الطوام، ووضع الإجراءات اللازمة لمعالجتها.

ويكون كذلك بتطبيق المادة (62) من الاتفاق السياسي للنظر في القوانيين والقرارات، التي صدرت عن كل الجهات، ورتبت التزمات قانونية ومالية وإدارية على الدولة الليبية، وهي كثيرة للأسف،

ثم بعد ذلك يكون بإلتزام النصوص الدستورية والقانونية في الإعفاء والتعيين، كل ذلك بحاجة إلى التوافق على خارطة طريق تُذهب بكل من في المشهد عن المشهد، ثم انتخابات نزيهةٌ، يمهد لها الطريق، وتكون على أساس دستور دائم للبلاد، علها تأتي بأُناس قادرين على تحرير الوطن من الفسدة والظالمين.

***

عبدالرزاق العرادي ـ كاتب ومحلل ليبي وعضو في المجلس الوطني الانتقالي السابق

_______________

مواد ذات علاقة