بقلم عبد المجيد العويتي

لعل أهم الأماني الكثيرة والمتنوعة والتي كان بعضها شخصياً وبعضها وطنياً التي ظهرت مع متظاهري السابع عشر من فبراير هي تكوين نظام ديمقراطي مدني.

يعتمد هذا النظام الديمقراطي المدني على آليات شفافة تنتقل بها ليبيا من حالات الركود السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى حالة كونية رافقت تطور المجتمعات المتقدمة لما توفره الديمقراطية من جو ملائم للتقدم والتطور والتغيير نحو الأفضل مع الحفاظ على خصوصية كل بلد والأخذ في الاعتبار تراثه الانساني والتاريخي وبصمته الخاصة..

مرت السنين وظلت التجربة الديمقراطية تراوح مكانها بين مثبط لأمال الجماهير وبين طامع بأن يكون على رأس نظام سياسي تختلف طرقه ولكنه سيلبسه ثوباً ديمقراطياً بعد أن يسطو على الحكم كما حدث في الجارة مصر ، وبعد هذه السنوات وكم الحروب التي خاضتها أطراف الصراع الليبي يمكن أن يتبلور للمتابع أشكال وصفات بل وأسماء ونعوت معرقلي العملية الديمقراطية والذين مثلوا عثرة أمام قيامها .

سأقوم في هذا العرض لهذه المكونات بناء على رؤية خاصة تناقلتها وبعض زملائي عل بعضها يعجب طرفاً وبعضها يزعجه والعكس صحيح ، فما هي إلا تحليلات لمشهد أمامنا وليست من نسج الخيال كما أنها ليست تشفياً من طرف على حساب آخر .

يمكن تقسيم العثرات أمام الديمقراطية لهيئات سياسية وشخصيات ومنظمات ومجموعات مسلحة ، منها من يمثل غلواً بسيطاً في طرحه ومنها من يمثل غلواً كبيراً ومنهم من وصل به الحد إلى التطرف ،

ولعلي أبدأ من الأقل تطرفاً والذين مثلت حركتهم خطراً ربما غير مقصود أمام تطبيق ديمقراطي ولكنهم بردود أفعالهم أعطوا نسقاً ميز أتباعهم عن السير نحو الاستقرار فوجهوا جماهيرهم نحو نبذ الدولة وقيام أركانها مما أربك العملية الديمقراطية ، ومنهم هيأة دار الافتاء الليبية التي كان يراد لها أن تقوم بأدوار أكثر حكمة ورصانة ، كما كان من الطبيعي أن تقوم بدور المرشد نحو التهدئة ولم الشمل ورأب الصدع بين الأطراف حتى وإن وضعت في وجه مدفع الاتهام كما حصل معها منذ البدء ،

فمثلت دار الافتاء الليبية بهذا التوجه غير المحايد أحد العثرات التي أثرت بسبب امتلاكها لأتباع من الرأي العام ، وأسس بعض المعثرين الآخرين الذين سيأتي ذكرهم في هذا المقال مواقفهم بناء على أراءها وفتاويها السياسية التي خلطت بها بين الفتوى الدينية وبين الرأي السياسي الدنياوي فأدت إلى تشنج كثير من حطب الصراع من الجماهير والرأي العام .

ومثل بقايا أعضاء المؤتمر الوطني العام من المستقيلين اعتراضاً على الاتفاق السياسي والذين يمثلون الحرس القديم من طرف الصراع في طرابلس هم الآخرون عثرة بسيطة أمام اكتمال عقد سلسلة الديمقراطية التي حاول الاتفاق السياسي خرزها تعليقاً على رقبة البلد منهية حالة الاحتقان.

ولكنهم أصروا على عدم تماهيهم الايجابي مع المنعرج في العملية السياسية المتمثل في اتفاقية الصخيرات التي كادت أن تضع المؤسسة المدنية على سكة الدولة لولا الموقف المتشنج الرافض لكل مخرجاته وتركها في أيدي غير أمينة لعبت بتفاصيل تنفيذه فيما بعد برفضهم المجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي ووصفه وحكومته بالمجلس المقترح إشارة إلى المبعوث الأممي إلى ليبيا وقتها الاسباني ليون وإصرار قيادة المؤتمر القديمة على الظهور الإعلامي متوشحين بأوصافهم القديمة كرئيس المؤتمر الوطني العام وعضو المؤتمر الوطني العام.

وكذلك ينظم إليهم في العثرة أمام الديمقراطية قوة مسلحة وهي سرايا الدفاع عن بنغازي التي فسحت المجال أمام معرقلي بناء الدولة وأعطتهم مزيداً من الحجج والوقت لينالوا من الدولة الديمقراطية بهجماتهم السابقة على بعض المواقع التي كانت تتبع حكومة الوفاق مما أدى إلى انتقالها كما في الجفرة ومطار تمنهنت إلى يد الحكومة الموازية المارقة بقيادة حفتر والي لا يزال يستغل تشنج هذه القطاعات ويوجه بها الرأي العام نحو ضرورة التخلي فترة من الزمن عن الحلم الديمقراطي والالتفاف حول حكم العسكر لما يوهمهم به من استقرار .

ويأتي مثال آخر في الغلو البسيط والذي يمثل كما أسلفنا تعصباً للرأي وليس معنى حرفياً للغلو ، تأتي شخصية عبدالباسط اقطيط الحالم بالسلطة بطرق غير ديمقراطية فقد مثل دعاية بروباجاندا غير تقليدية للوصول للحكم وتعطيل مسار الديمقراطية في أكثر من مناسبة عبر طلبه من المواطنين تفويضه للحكم عبر النزول للشارع لتحكيمه في أمرهم مبدياً لهم بريق علاقاته الدولية وتواصلاته مع البيت الأبيض والتي سرعان ما انقشع غبارها ليتضح ضعفه وضعف مسعاه فكون هو الآخر تعطيلاً للمسار الديمقراطي بسبب الزخم العام الذي اكتسبه من خلال طلاته الإعلامية البراقة التي يحسبها الضمآن ماء .

وتأتي بعض الشخصيات الأخرى منافية لسلامة المسار الديمقراطي كما حدث في بداية تأسيس المؤتمر الوطني العام بما فعله حزب تحالف القوى الوطنية الذي ضلل الرأي العام بتوجيه الناخبين لشخص رئيسه محمود جبريل دون إظهار بقية المرشحين مما مثل تضليلاً للرأي العام ، وقد تفاجئ الليبيون بأعضاء في المؤتمر غير معروفي المشروع ولا الهوية السياسية عرفوا لاحقاً بأعضاء كتلة تحالف القوى الوطنية ،

الذين قادوا فيما بعد حملة تشويه للديمقراطية وناصروا الأعمال التي ساعدت في وأد العملية السياسية على رأسها تأييدهم لإقدام ابراهيم الجضران على إقفال الموانئ النفطية بحجة بيعها بدون عدادات ، وكذلك مباركة قادة الحزب وعلى رأسهم الدكتور جبريل للعملية الانقلابية بقيادة حفتر وتماهيهم مع دول إقليمية لا يستتر فعلها السيء ضد الدولة الليبية بل وممارسة العمل الحزبي من عاصمتها وبمشاركة شخصية عارضت العملية الديمقراطية كالعارف النايض الذي ابتعد مسافات بمهمته من سفير لطرابلس لدى أبوظبي إلى منفذ لرغبات خارجية تعارض المسار الديمقراطي.

كما أدى هذا الدور الذراع الإعلامي لهذا التيار مجتمعاً ممثلاً في المعارض السابق لنظام القذافي محمود شمام عبر أذرع إعلامية تناولت نيلاً من الخيار السياسي الديمقراطي ورفعاً لمقام ومكانة الانقلاب وقيادييه .

وبالانتقال إلى من مثلوا عرقلة للعملية الديمقراطية بسقف أعلى وبغلو أكبر ممن ذكروا أعلاه والذي يأتي على رأسهم تنظيم المداخلة الذي يحرم العملية الديمقراطية من خلال اعتلاء رموزه منابر الجمعة والوعظ والارشاد في كثير من مناطق غرب ليبيا وجنوبه ويتولى الفتوى الدينية الرسمية في شرقها بمساعدته لقوى الانقلاب العسكري بقيادة حفتر في إلباسه ثوب العفة الشرعية والنزاهة الخلقية وإعطائه صفة مغلوطة تعرف عندهم بولي الأمر المطاع الذي يأمر فتنفذ حتى لو تجاوز المستطاع.

وبسبب القاعدة الشعبية العريضة لهؤلاء وتحكمهم بمساجد كثيرة حول البلاد وتحديداً في طرابلس، استطاعوا أن يوجهوا الرأي العام من قاعدتهم الشعبية نحو التنفير من الديمقراطية وإكراهاتها كما يدعون بل وتكفير من يقومون عليها وعلى ألياتها وأنها بدعة على الشرع ومنافية لما أنزله الله تعالى على رسله .

ويأتي موازياً لخطرهم على العملية الديمقراطية في الغلو ابراهيم الجضران لص النفط والذي مع اقطيط سالف الذكر يمثلان الشخصنة في الحلم والتحرك ، فالجضران أقدم على فعلة تعطيل العملية الديمقراطية عندما أدخل البلاد في متاهة اقتصادية أثقلت كاهل المواطن والدولة معاً/\..

حينما أوقف استخراج وتصدير النفط الليبي مما تسبب في خسائر اقتصادية ضخمة هي الأكبر في عصر ليبيا الحديث برمته مؤيدأً في الوقت ذاته لعملية انقلابية كالكرامة بقيادة حفتر والتي رجع فيما بعد وحاربها لا لوطنية ظهرت فجأة ولكن لعدائه الحديث مع حفتر حول مصالح شخصية ،

فأثرت مغامرات هذا الرجل على مقدرات البلد وأثقلت كاهل الدولة المكهل بمشاكل لا حصر لها أصلاً فأدى هذا إلى تعطيل مسار بناء الدولة وتجسير العملية الديمقراطية لتأديته ومشاكل أخرى إلى إذكاء الصراع الدموي المسلح .

كما لا يخفى على أحد دور البرلمان السلبي المعاكس للرغبة الديمقراطية من تأييده للعملية الانقلابية بقيادة خليفة حفتر والذي وفر له مجلس النواب بطبرق كل السبل واللوائح والقوانين والقرارات التشريعية ووفر له المناخ السياسي محلياً ودولياً ،

كما لم يمارس مجلس النواب الدور الديمقراطي المنوط به بل وقع لعبة في يد الانقلابيين وبعض أصحاب المصالح الضيقة للجالسين على كراسيه النيابية فكرس الانقسام والتشظي وأبعد الحلم الديمقراطي بتلاعبه بمصائر الليبيين سياسيا واقتصاديا وأمنيا واجتماعيا.

هذا بالإضافة إلى الدور السلبي الذي لعبه الفيدراليون المنادون بالتقسيم الإداري لدولة ليبيا والذين تجاوزا المطالب المستحقة إلى مطالب غير مفهومة تثير الفتنة وتزيد حالة الاحتقان فمثلوا أحد سكاكين الإجرام في حق الديمقراطية وأصبحوا ألعوبة بيد الانقلابين يحركونهم كيفما شاءوا فضاعت مطالبهم وفقدوا بوصلتهم .

وإلى جانب المذكورين يأتي دور مجالس الشورى الجهادي في بنغازي ودرنة وما ألحقت بالدولة المدنية من ضرر من منحيين:

الأول بتحالفها مع منظمات إرهابية كأنصار الشريعة المصنفة حسب الاتفاق السياسي كمنظمة إرهابية

والثاني هو عدم تعاونها مع الدولة السياسية قبل دخولها في حرب مع قوات حفتر حيث أدارت المناطق الجغرافية التي بسطت سيطرتها عليها بمنأى عن حكومة شرعية وبتصرف كامل .

ونأتي الآن إلى قمة التطرف في العداء للديمقراطية واللذان مثلا رأس الحربة في وأد الحلم الديمقراطي ونقض أمل ثوار فبراير وهما تنظيم داعش الإرهابي والمنقلب على الحكم خليفة حفتر .

فقد مثل تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بداعش الرغبة الأوضح من بين كل الرغبات المباشرة وغير المباشرة في ايقاف العملية الديمقراطية بتكفيرها أولاً والنيل فعلاً من رموزها وأخرها الهجوم الارهابي على مقر المفوضية العليا للانتخابات في طرابلس والتي تمثل الأداة التنفيذية الأكبر للآلية الديمقراطية ، وإذكائها لنيران الصراع المسلح ثانياً في محاولة سيطرتها على أجزاء من التراب الليبي الذي أوقفته عملية البنيان المرصوص عند حده ، ويظهر أيضاً في توعده الدائم حتى بعد اندحاره للدولة المدنية بالويل والثبور ولمواطنيها بالقتل والتفجير .

أما خليفة حفتر الحالم بالسلطة لا سواها مثل مع داعش ثنائياً غاية في الإثخان في جسد الدولة وقيامها وعثرة كبرى في طريق الديمقراطية بترأسه عملية انقلابية حاولت النيل من السلطات الشرعية التشريعية والتنفيذية والانقلاب على المسار الدستوري الراسم لمستقبل الدولة الليبية الموعودة ، وأدخل البلد في دوامة صراع دموي يتحمل وزرها الأكبر وأدخل ليبيا في حسابات الصراع الاقليمي والدولي بعد أن نالت بعد الثورة ميزة الالتفاف حولها ،

فلم تحظى ليبيا باختلاف على مستوى المجتمع الدولي كما أحدثته عملية الكرامة فيما بعد ، فعد حفتر أكبر المناوئين للحلم الديمقراطي وأكبر عثرة في وجه قيام الدولة المدنية .

وأخيراً فإنني في هذا التحليل لا أسوي بين الأطراف من حيث الرغبة الأكيدة ، بل أن تأثيرهم على الحياة الديمقراطية اختلف بينهم حسب الظروف والأحداث ، ولكنهم وبسبب قواعدهم الشعبية وتحريك الرأي العام مكنوا لمن أراد لهذا البلد التقهقر والتراجع والدمار واليأس والعودة إلى نقطة الصفر حيث اللادولة .

***

 عبد المجيد العويتي ـ كاتب ليبي

_____________

مواد ذات علاقة