المتابعون للشأن الليبي عن قرب والمُلمون بتفاصيله وكواليسه وتعقيداته يعرفون جيدا أن خطة مساعدة المبعوث الأممي الأمريكية “وليامز” والمعروفة بالخطة (ب)، هي قيد التفعيل والتنزيل رغم كل العوائق والتحديات والارباكات على الأرض.

اضافة الى ذ  لك تم ارسال تحذيرات واضحة لأطراف اقليمية بعدم التدخل المباشر في الملف الليبي مستقبلا وكل ذلك تزامن مع خطوات فعالة من طرف قوى دولية فاعلة بعد ترددها في التعامل بالجدية المطلوبة خلال الأربع سنوات الماضية إضافة الى تراجع واختفاء مظاهر الخلافات السياسية الإيطالية الفرنسية المباشرة.

بل أنه تم مؤخرا الإعلان رسميا عن تغيير السفيرة الفرنسية بسفيرة جديدة وإعلان فرنسا فتح سفارتها في طرابلس خلال شهر ابريل المقبل، وكل ذلك يؤكد ويدعم أن الحل السياسي للازمة المتفاقمة منذ منتصف 2014 أصبح له أفق واضح وجلي بل يمكن الجزم أن بوادر الانفراج بدأت في توضيح مسارات ذلك الحل بعد تعقد المشهد خلال السنوات الثلاث الماضية حتى شبه المتابعون الوضع الليبي بالوضع اللبناني في آواخر السبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي.

وعمليا شهدت حوارات الضاحية الشمالية للعاصمة التونسية خلال الأسابيع الماضية تقدما ملموسا بدعم أممي ودولي وتأكدت من خلال تلك الحوارات خطوة تغيير السلطة التنفيذية مع اقتراب موعد المؤتمر الدولي في “شياكا” الإيطالية وحديث البعثة عن عقد مؤتمر وطني جامع.

ومنذ ايام أكد مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، غسان سلامة، خلال تصريحاته الأخيرة أنه من الصعب الالتزام بالموعد المحدد في الجدول الزمني الذي أقر في باريس للانتخابات الليبية في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول القادم، بسبب أعمال العنف والتأخر في العملية الانتخابية.

كما ذكر سلامة في مقابلة مع وكالة فرانس برس مؤخرا أنه ما زال هناك عمل هائل يجب القيام به، قد لا نتمكن من الالتزام بموعد العاشر من ديسمبر، معتبرا أن أي اقتراع لا يمكن أن يجرى قبل ثلاثة أو أربعة أشهر.

وتأتي تصريحات سلامة بعد عودة الحديث عن الأوضاع السياسية وسُبل الخروج من أزمة البلاد الحالية مجدداً بعد هدوء نيران الحرب في طرابلس وتجاوز العاصمة نتائجها الكارثية على الصعيد السياسي والأمني، سيما بعد أن نجح مجلس النواب في تمرير قانون الاستفتاء على الدستور الأسبوع قبل الماضي، بعد الاتهامات التي وجهت له بعرقلة المسار السياسي في خطابي رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، وغسان سلامة، خلال مداخلتهما في لقاء وزاري عقد في 25 من الشهر الماضي  على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وعمليا تظهر تصريحات البعثة الأممية التي ترعى العملية السياسية في البلاد، سيما رئيسها سلامة، اتجاه الأوضاع نحو ثلاثة مسارات:

المسار الأول ـ الاستفتاء على الدستور ومن ثم الانتخابات: حيث أكد سلامة، في حديث لقناة الجزيرة الفضائية أول أمس السبت 29 أيلول/سبتمبر الماضي، بقوله إن البعثة تنظر حاليا في “إجراء عملية الاستفتاء على مشروع الدستور ثم تنظيم انتخابات نيابية ورئاسية بعد عملية الاستفتاء”، لكنه استدرك بالقول إن العملية ستتم “إذا لم يتم الطعن قانونياً في قانون الاستفتاء الذي أقره مجلس النواب”، في إشارة إلى ذهاب مجلس النواب إلى تمرير قانون الاستفتاء على الدستور بطريقة جمع التوقيعات للنواب عن بعد، بعد عجزه عن عقد جلسة مكتملة النصاب للتصويت عليه، وهي الخطوة التي لاقت اعتراضا كبيرا من النواب المعارضين لتمرير الدستور للاستفتاء عليه، الذين أكد عدد منهم، خلال تصريحات صحافية، بأنهم في طور إعداد مذكرة للطعن على تمرير القانون بطريقة التوقيع أمام المحاكم.

المسار الثاني ـ إعادة هيكلة السلطة التنفيذية: وهذا المسار يتكرس بأحد خيارين اما اختيار سلطة تنفيذية جديدة أو إجراء تعديلات على حكومة الوفاق الحالية، وقد أشار اليه  سلامة بقوله إن البعثة تدرس “عدة قضايا ومبادرات مطروحة لمعالجة الانسداد الحالي للأزمة السياسية في ليبيا”، مؤكدا أنه التقى الأيام الماضية بأعضاء من مجلسي النواب والدولة لبحث الخطوات السياسية المقبلة، لكنه أشار إلى أن البعثة غير راغبة في العودة إلى “دوامة تونس” في إشارة إلى جلسات تعديل الاتفاق السياسي، مشيراً أيضاً إلى إمكانية تعديل السلطة التنفيذية الحالية لتتمكن من الإشراف على مرحلة الانتخابات في وقت لاحق.

وكان مجلس النواب، قد دعا خلال جلسته الاثنين الماضي، مجلس الدولة إلى بدء التشاور معه في إعادة تشكيل السلطة التنفيذية والدعوة إلى انتخابات رئاسية، دون الإشارة إلى انتخابات برلمانية، وهي الدعوة التي لقيت قبولا من مجلس الدولة بعقد لقاءات بين ممثليها وممثلي مجلس النواب انتهت إلى اجتماع بين نائب رئيس مجلس الدولة فوزي العقاب، ورئيس لجنة الحوار بمجلس النواب، عبد السلام نصية، مع غسان سلامة لمناقشة المقترح الذي “سيمهد إلى حكومة توافقية تتمكن من الإشراف على الانتخابات في وقت لاحق”، دون تحديد موعدها.

المسار الثالث ـ عقد ملتقى وطني (المؤتمر الوطني الجامع): وهو الذي أشار له سلامة في عدة مناسبات، حيث يمثل البند الثاني من الخطة الأممية المعلنة من قبل سلامة في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، ويجمع كل الأطياف والشرائح الليبية، حتى تلك التي لا تمتلك تمثيلا في الأجسام السياسية الحالية، للتوصل إلى اتفاق شامل يمثل عقدا وطنيا يمهد لمصالحة اجتماعية تفضي إلى تمكين كل الشرائح من المشاركة في الانتخابات العامة.

لكن عديد المراقبين اعتبروا الملتقى بمثابة خطوة من البعثة لتجاوز الأجسام السياسية الحالية في حال رفضها لتعديل الاتفاق السياسي الذي يمثل البند الأول من الخطة الأممية، ليكون الملتقى جسر العبور إلى الانتخابات.

وقد لقيت الدعوة لعقد الملتقى معارضة من قبل مجلسي “الأعلى الدولة” و”النواب”، والذين يرغبان في معاودة الجلسات التي توقفت عند آلية اختيار حكومة وفاق جديدة والأكيد أنهما يعتبران الاتفاق السياسي هو “الخيار المتاح والأوسع والأقرب” وأن الملتقى (المؤتمر الوطني الجامع) مدخلاته مجهولة وبالتالي ستكون مخرجاته مجهولة أيضا.

قد يقول البعض ان الحوارات لست جديدة حيث دارت حوارات عدة منذ 2015 ولكنها تترنح دائما لنعود في آخر كل حوار الى النقطة صفر ويعود اثرها فرقاء الصراع الى أجنداتهم القديمة على غرار مواصلة اللواء حفتر العمل على خطة الالتفاف عبر هوامش مناورة ودعم من طرف حلفائه الإقليميين.

ولكن الأمر مختلف هذه المرة بناء على طبيعة الحراك الدولي وجدية بعثة الدعم الأممية إضافة الى مطامح الشركات العابرة للقارات في الاستثمار في ليبيا ورغبة عديد العواصم الغربية الكبرى في إعادة النشاط لسفاراتها في طرابلس خلال الأشهر القادمة من أجل الظفر بعقود لكبرى شركاتها في بلد يمتلك أهم ثروات العالم بل وقد يصبح لاحقا وبسرعة كبيرة جالب للاستثمار.

اضافة الى تغييرات إقليمية ودولية ستُملي على الأمريكيين وبعض القوى الدولية على المضي في إيجاد مخرج سياسي مرحلي على الأقل للقدرة على التعامل مع بلد يعتبر مدخلا رئيسيا للعمق الافريقي.

ويمكن التأكيد بناء على ذلك أن مستقبل ليبيا في أفق الأشهر القادمة قابلا على عودة الوئام بين فرقاء الوطن حتى يتمكن الليبيون فعليا من توقَي الصعاب وأولها تشكيل حكومة وحدة وطنية تُنهي المرحلة الانتقالية بإجراء انتخابات ديمقراطية وشفافة تُقنع الجميع في الداخل والخارج وتكون مُنطلقاً لإعادة بناء المؤسسات الدستورية.

ومن الطبيعي أن الأشهر القادمة وان قد تأتي بالحل والوفاق وذلك لا يعني البتة عدم تنامي الصعوبات والعراقيل لأن وُكلاء الصراع المشتغلين لدى الأّذرع إقليمية لقوى دولية سيعمدون إلى تغذية الأجندات لمراكمة العراقيل في وجوه الليبيين.

ولكنَ الليبيين سينجحون في الأخير لأن عدم نجاحهم يعني الانزلاق العملي الى ما هو غير متوقع ليس في ليبيا فقط بل في كل دول الجوار، كما أن النجاح الأولي والمرحلي لا يعني عدم تجدد الخلافات لاحقاً وان بشكل جزئي ولكن المهم هو النجاح المرحلي لأن الخلافات والصراعات بعدها ستكون بيد سلطة منتخبة وشرعية بل في يد صاحب السلطة الاصلية وهو الشعب الليبي، وهو شعب يدل تاريخه الطويل أنه شعب وطني وصبور وفريد من نوعه .

______________

المصدر: افتتاحية صحيفة رؤية ليبية، العدد 16 بتاريخ 1 اكتوبر 2018

مواد ذات علاقة