د. محمد فراج أبو النور

تدخل ليبيا العام الجديد (2024) في ظل حالة من الجمود السياسي، والانقسام المؤسسي المسيطر على البلاد، طوال السنوات الأخيرة، والتي يضاعف من وطأتها تدهور الأوضاع الاقتصادية بسبب الفساد، وسوء الإدارة، وانعكاسات الأزمة العالمية، فضلاً عن الآثار السلبية لكارثة الإعصار «دانيال» في درنة والمناطق المحيطة بها، والأعباء الثقيلة لعملية إعادة الإعمار.

أدى كل ذلك إلى زيادة السخط الاجتماعي، وإقدام سكان المنطقة الجنوبية على إغلاق حقل «الشرارة»- أكبر حقول النفط في البلادلينخفض الإنتاج إلى أقل من مليون برميل يومياً، تعبيراً عن احتجاج سكان الجنوب «فزان» على الفساد المستشري، وسوء توزيع الموارد الاقتصادية بين أقاليم البلاد، ما أدى بالمؤسسة الوطنية للنفط إلى إعلان حالة «القوة القاهرة» في ما يتصل بإنتاج حقل الشرارة البالغ أكثر من (300 ألف برميل يومياً)، أي قرابة ربع إنتاج البلاد.

وعلاوة على ذلك هدد سكان المناطق الجنوبية بإغلاق مصفاة الزاوية لتكرير النفط، ومجمع مليتة للغاز الطبيعي، ما يهدد إمدادات الغاز الليبي إلى إيطاليا، ويطالب المتظاهرون من «حركة مقاومة الفساد» بإقالة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط «فرحات بن قدارة»، متهمين إيّاه بارتكاب مخالفات تصل إلى مستوى الجرائم، وبحرمانه من حق إبرام أي اتفاقات بشأن النفط والغاز، كما يطالبون بإتاحة فرص عمل للشباب في المناطق القريبة من المنشآت النفطية، وبحصة اكبر من إيرادات الدولة للمناطق المهمشة، وتعزيز سلطة هيئات الرقابة على الإنفاق الحكومي والمؤسسي. وتلقى هذه المطالب والاحتجاجات تعاطفاً واسعاً على النطاق الوطني.

تراجع الدبيبة

اشتعال هذه التحركات والاحتجاجات أجبر رئيس حكومة «الوحدة» عبدالحميد الدبيبة، على التراجع عن خطته المعلنة لإلغاء الدعم الحكومي للمحروقات، وهي خطوة كان من شأنها رفع أسعار المحروقات بنسبة كبيرة، وكان الدبيبة يذكر أرقاماً للدعم تصل إلى (12 مليار دولار)، فضلاً عن تهريب مشتقات النفط الرخيصة إلى البلدان المجاورة بما قيمته (750 مليون دولار)، وهي أرقام يبدو مبالغاً فيهابالنسبة للدعم خصوصاًحيث إن إنتاج البلاد من النفط إجمالاً بلغ نحو (21 مليار دولار)، عام 2023، كما أن الموازنة العامة تدور حول هذا الرقم.. وليس معقولاً أن يذهب أكثر من نصفها لدعم المحروقات.

واعتبر تراجع الدبيبة عن إلغاء الدعم انتصاراً لحركة الاحتجاجات الجماهيرية، ومعروف عموماً، أن أرقامه تفتقر إلى المصداقية، وأن الاتهامات بالفساد وإهدار المال العام تحيط به من كل اتجاه، للدرجة التي أدت بصديقه المقرب (الصديق الكبير) محافظ المصرف المركزي، إلى اتهامه بإهدار (أحد عشر مليار دولار) من المال العام في (2023) في صورة إنفاق متجاوز للموازنة العامة، وخارج أي رقابة، الأمر الذي أدى لتوجيه تهديدات بقتله من جانب الميليشيات الموالية للدبيبة، ما أجبر «الصديق الكبير» على الفرار إلى تركيا، حيث حصلفيما يبدوعلى ضمانات لحياته، قبل أن يعود إلى طرابلس.

ولا يعني هذا الخلاف بين الدبيبة و محافظ المركزي، أن الأخير بريء من تهم الفساد.. فهو الذي تولى لسنوات عدة إمداد (السراج) ثم الدبيبة برواتب المرتزقة والميليشيات، من المال العام، وهو يرفض الخضوع لرقابة البرلمان، أو الهيئات الرقابية.

وفي ظل أوضاع كهذه، وتوافر إمكانات هائلة لنهب المال العام الوفير، ولرشوة الميليشيات بالرواتب السخية ليحافظ على ولائها له من الطبيعي أن يتشبث الدبيبة بالسلطة، وأن يضع شتى العراقيل أمام أي إمكانية جدية لإجراء الانتخابات، وأن يعلن أنه لن يسلم كرسيه إلا لسلطة منتخبة، مع علمه بتعذر إجراء الانتخابات في ظل الفوضى الأمنية التي تثيرها الميليشيات الموالية له، علماً بأنه يتمتع باعتراف دولي يجعله يبقى مطمئنا في معقده وبديهيوالحال هكذاألا يهتم بالمصالحة الوطنية، ولا بتوحيد المؤسسات السيادية، ولا حتى بتوحيد الصف السياسي في طرابلس، والمنطقة الغربية، وأن يلجأ إلى الحلول الأمنية والعسكرية في معالجة أي خلاف بينه وبين أية قوة سياسية في «الغرب»، كما حدث مع «مجلس الدولة» في ظل رئاسة خالد المشري، حينما بدأ يتقارب مع مجلس النواب، وكما حدث مع الصديق الكبير «محافظ المركزي» ومع ميليشيات مصراتة، الموالية لفتحي الباشاغا، وكما يحدث مع أية قوة مناوئة له. والحقيقة أن الدبيبة سيظل العقبة الكبرى أمام المصالحة الوطنية والانتخابات طالما ظلت تركيا والدول الغربية الكبرى راضية عنه.

أما في الشرق الليبي فإن «النخبة السياسية»، وفي مقدمتها مجلس النواب «تستثمر هي الأخرى في الوقت» لتحافظ على مناصبها وامتيازاتها ووجاهتها الاجتماعية والسياسية، وتتوصل من وقت لآخر لاتفاقات قانونية ودستورية مع «مجلس الدولة»، لكنها كلها اتفاقات تتضمن ثغرات واضحة تكون سبيلاً لإجهاضها، بخاصة من جانب المتشددين في مجلس الدولة «الإخوان تحديداً»، ما يجعل الأمور تعود إلى المربع الأول باستمرار، لاسيما وأن «الإخوان» يتّسمون بصفة المناورة والمراوغة واللعب على الحبال بين «النواب» والدبيبة، ويتراجعون عن اتفاقاتهم في اللحظات الأخيرة.

لجنة باتيلي

باتيلي المبعوث الأممي عبدالله باتيلي، بدوره، يعرف أن الدول الغربية الكبرى أكثر ما يهمها في ليبيا هي ثرواتها من النفط والغاز، وأنها غير مهتمة، جدياً، بحل الأزمة الليبية، طالما أن النفط والغاز يتدفقان إلى الغرب.

ولذلك فإنه «يستثمر في الوقت» هو الآخر ولكن بطريقته، إذ يسعى إلى تشكيل «لجنة توجيهية» غير منتخبة، من أنصار الغرب، والموالين له، على غرار لجنة ملتقى الحوار الوطني التي شكلتها ستيفاني ويليامز، في حينه، وتمخضت عن تشكيل حكومة الدبيبة.

لكن «لجنة باتيلي» لا تلقى حماساً من جانب الغرب، بسبب انشغال عواصمه بالأزمة الأوكرانية، والحرب في غزة، وفي السودان، والبحر الأحمر، مؤخراً، ولأن الدبيبة يقوم بالمهمة على أية حال، ولهذا نجد المبعوث الأممي يطرح مبادرته بصيغ مختلفة، ويلتقي بالسفراء الغربيين الذين يعلنون دعمهم له.. لكن شيئاً لا يحدث.

وهكذا تظل التسوية الليبية ضائعة بين (الاستثمار في الوقت)، و(بيع الأوهام)، إلى أن يحين وقت تقرر فيه الدول الغربية الكبرىخاصة أمريكاحلها، وليس الاكتفاء بإداراتها.

_________________

مواد ذات علاقة