بقلم كريم ميزران وإيرن نيل

يطغى الارتباك والفوضى على الوضع في ليبيا، وهو ما يدفع الكثيرين للخوف من أن يكون مصيربلادهم مماثلا للصومال.

وفي كل مستوى، يمكن تبين وجود انقسامات دائمة وعداوات متغيرة، التي تتسبب بدورها في إنشاء اقتصاد غير مشروع راسخ ومتوسع، فضلا عن زيادة عدد الجماعات المتطرفة والصدامات المطلقة مع الفصائل المسلحة في جميع مناطق البلاد تقريبا.

الجزء الثاني

واقع تطبيق اللامركزية منذ سنة 2011

قبل انتهاء عهد نظام القذافي وانهيار مؤسسات الدولة الهشة سنة 2011، كانت جودة العيش بين مختلف فئات الشعب الليبي متفاوتة بسبب سياسة التفضيل التي كان يمارسها القذافي وتحكمه في الأقاليم والقبائل.

أثرت البيئة التي تشكلت مباشرة خلال فترة ما بعد الثورة سلبا حتى على الفئات التي كانت مقربة من النظام، حيث كان جميع الليبيين شاهدين على انهيار دولتهم وتخبط بلادهم في الفوضى والحرب، وهو ما ألقى بظلاله على التعليم والمستشفيات والوصول إلى الموارد الأساسية.

وعلى المستوى الوطني، كان أداء الكيانات التابعة للحكومة شرقا وغربا خلال فترة ما بعد الثورة دون المستوى، حيث عجزت عن تقديم الخدمات للمواطنين وتوفير الأمن.

ومنذ سنة 2011، اضطر الشعب الليبي للتعويل على الجماعات المحلية المسلحة والمجالس المحلية لتوفير الأمن والخدمات. وفي ذلك الوقت، كان أداء بعض المجالس البلدية أفضل من أداء الحكومة المركزية.

منذ انعقاد الانتخابات المحلية سنة 2014، أخذت العديد من المجالس البلدية بزمام المبادرة في مجتمعاتها المحلية وأخذت على عاتقها مهمة التنسيق مع المجالس البلدية الأخرى لحل المشاكل، حيث اجتمع ممثلو البلديات في عدة مناسبات لمناقشة قضايا الهجرة وأدفاق النفط ومحدودية المداخيل، كما اتفقوا على وقف إطلاق النار، وحماية المواقع الأثرية، وتقديم بيانات موحدة يدينون فيها بصوت واحد الإرهاب ويرفعون فيها مظالمأخرى.

وقد تراوحت الاجتماعات بين الجمع بين مجالس مدينتين لحل قضايا خاصة واجتماع أكثر من 107 ممثلا، الذين دعوا في آذار/ مارس من سنة 2018 إلى توحيد ليبيا وتكوين لجنة لتيسير الحوار بين فصائل الحكومتين المتناحرتين.

وفي بعض الحالات التي كانت فيها المجتمعات المحلية غير راضية عن أداء قادتها،كان أفراد المجتمع يلجؤون لعملية التصويت السلمي أو ينصبون قائدا مؤقا لحل النزاع.

لقد تم التوصل إلى مصالحة بين الزنتان ومصراتة في نيسان/ أبريل من سنة 2018، بعد أن كانت المدينتان متخاصمتين منذ وقت طويل، لذلك كان الاتفاق الذي عقد بينهما بمثابة مفاجأة سارة لمعظم الليبيين.

كما أنشأت المجالس البلدية قوات أمن مشتركة للتعامل مع خصوم معينين، وتم تكوين لجان وجمعيات تعنى بمسائل محددة، على غرارالدمار الذي خلفته الاشتباكات المسلحة ومحاسبة المجرمين وتحقيق العدالة.

لقد واجهت المجالس البلدية في ليبيا العديد من العوائق التي أثرت على أدائها بدرجات متفاوتة. وفي حين حافظت بعض البلديات على إدارتها للخدمات الأساسية والإشراف على مجالها، حتى في إطار قانوني تشوبه النقائص، كافحت بلديات أخرى من أجل استكمال عملها بسبب افتقراها للتمويل الكافي من الحكومة المركزية.

فضلا عن ذلك، أدت هيمنة القبائل والميليشيات التي برزت في أعقاب سنة 2011 إلى خلق عثرات في طريق بعض مجالس البلديات للانخراط في العمل السياسي على الصعيد المحلي، وهو ما ينطبق خاصة في الشرق، حيث تم استبدال العديد من رؤساء البلديات بعناصر من الجيش الموالين لخليفة حفتر.

رغم الصعوبات، تمكن العديد من رؤساء البلديات من كسب ثقة المجتمعات المحلية التي يخدمونها. وقد شعر ثلث الليبيين أن المجلس البلدي أكثر شرعية من قادة القبائل والمجتمع المدني ونواب البرلمان على مستوى التمثيل الشعبي، وذلك وفقا لمسح أجري من قبل المعهد الجمهوري الدولي في أواخر سنة 2016.

علاوة على ذلك، تمثل الحكومات المحلية الجهة السياسية الموثوق فيها التي كانت منظمات الإغاثة الدولية تتفاعل عبرها مع الشعب لتقديم المؤن والخدمات.

بعبارة أخرى، لقد تجاوزت المنظمات الدولية الانقسامات السياسية من خلال العمل مباشرة مع المجتمعات الصغرى حرصا على عدم إعاقة تدفق المساعدات بسبب كثرة الخلافات السياسية.وستنتهي ولايات العديد من القادة المحليين المنتخبين سنة 2018 لتعقد المجالس المحلية انتخابات جديدة مثلما حدث مع مدينة الزاوية في شهر أيار/ مايو سنة 2018.

بينما تحتم على البلديات التأقلم مع حالة الفوضى التي عمت البلاد، بدت تظهر عليها إلى حد ما مع بعض السمات التي تميز الدولة اللامركزية.ومع ذلك، لم يتم الانخراط في تطبيق اللامركزية رسميا وهو ما يحيل على افتقار عمل البلديات للثبات في شتى أنحاء ليبيا.

فقد عملت كل بلدية حسب معرفتها بالأمور والمصادر المتاحة لديها، مع القليل من القوانين والغياب شبه التام للإرشاد. وعلى المستوى الوطني، لم يتم التطرق إلى مفهوم اللامركزية سواء رسميا أو بشكل شامل.

قانون رقم 59

تضمن القانون رقم 59 التلميح الوحيد المتعلق بموضوع اللامركزية، الذي تم اعتماده رسميا سنة 2012. ومع ذلك، أدى تصاعد العنف سنة 2014 واستمرار الترهيب الذي تمارسه الجماعات المسلحة التي تسيطر على العديد من الأراضي في ليبيا إلى إعاقة التطبيق المنتظم لمبدأ اللامركزية الوارد في نص هذا القانون، وإن كانت تشوبه بعض الثغرات.

بالاستناد إلى القانون رقم 59، أنشأت أكثر من 100 بلدية تتكون من مجالس بلدية منتخبة ومنتشرة في كامل الأقاليم الثلاث في البلاد. ويضطلع الحاكم الذي يشرف على بلدية المقاطعة بمهمة الإشراف على البلديات الموجودة في كل محافظة، في حين يسهر “النائب” على الإشراف على الوحدات الإدارية.

ويتولى العمدة رئاسة كل مجلس بلدي، المنصب الذي يحصل عليه عن طريق الانتخاب. وفي أعلى مستوى حكومي في ليبيا، عادة ما سيكون لدى الدولة وزير للحكومة المحلية.

يركز القانون رقم 59 بصورة مكثفة على تفويض الواجبات الإدارية مثل تخطيط المناطق الحضرية ووضع الميزانية وإنشاء مناطق الترفيه الموجهة للعموم وتوفير المياه إلى البلديات. وتجدر الإشارة إلى أن هذا القانون فشل في تحديد طرق عمل قوى الشرطة في كل بلدية.

ويمكن القول إن تقاسم السلطات السياسية أو السلطة القضائية يعد مصطلحا غامضا أو غير موجود في المعجم المعتمد في صياغة هذا القانون، كما لم يذكر القوى السياسية بشكل كبير ولم يتطرق إلى مهام جمع الضرائب.

نظرا لكونه ثمرة المجهود الوحيد الذي يرمي لترسيخ اللامركزية في ليبيا، لا يتضمن القانون رقم 59 أي آليات لتفويض أي جوانب من السلطة السياسية من أجل إنشاء نظام لامركزي فعال.

اللامركزية في دولة ريعية

غالبا، سيبدو تصميم اللامركزية في ليبيا مختلفا عن نظيره في تونس وسوريا والعراق، بسبب هوية البلد وتاريخها وطبيعة الصراع القائم والاقتصاد في هذه الدولة الريعية. ويود الكثيرون أن يتضمن الدستور ضمانة تنص على منح كل مواطن ليبي حصة عادلة من عائدات النفط.

ومع ذلك، قد يقوض التوزيع البسيط للثروة اللامركزية نظرا لاستمرار الدولة المركزية في ممارسة سلطتها على السكان. وستكون البلديات قادرة على ممارسة سلطتها السياسية بشكل حقيقي واتخاذ قراراتها بصفة مستقلة في حالة واحدة فقط، عند تمكينها من الحصول على ميزانية خاصة بها لتكون قادرة على البناء والقيادة والحكم.

وفقا للقانون رقم 59، تعتبر التحويلات التي توفرها الحكومة المركزية مصدر دخل البلديات الوحيد، وتهدف بالأساس إلى تغطية تكاليف التشغيل فقط. ويجب أن تُمنح البلديات أموالا تتجاوز الحد الأدنى من المال اللازم لدفع نفقات المتطلبات الأساسية، كما يجب أن يكفل الدستور حق البلديات في الحصول على حصص عادلة من عائدات النفط، وذلك بالاستناد إلى عدد سكان كل بلدية.

وبذلك، ستتمكن كل بلدية من تحديد الميزانية الخاصة بها والنفقات التشغيلية والرواتب والأموال المخصصة للرعاية الاجتماعية لسكانها.

علاوة على ذلك، يجب أن ترسخ مبادئ توجيهية أساسية وإطار عمل حتى تتمكن البلديات من اتباعه.

على سبيل المثال، يجب أن يتم اعتماد سقف محدد للجزء المخصص للرواتب في الميزانية، وذلك لتفادي الفساد، كما يجدر أن تمتلك البلديات الحد الأدنى من المتطلبات للاستثمار في قطاعي التعليم والرعاية الاجتماعية الموجهة لسكانها.

في الأثناء، سيتسنى لسكان كل بلدية التصويت على اقتراحات الإنفاق الرئيسية الجديدة، في حين سيتعين على البلديات الإبلاغ عن ميزانيتها للحكومة المركزية والخضوع لمراجعة الحسابات السنوية وزيارات التدقيق التي يجريها المفتشون.

في المقام الأخير، يجدر بالحكومات المحلية أن تمتلك الحرية والشجاعة لخلق مصادر دخل أخرى. ومع ذلك، ستكون الأموال القادمة من بيع النفط، التي يتم اعتمادها لإنشاء مصادر دخل أخرى مثل تكاليف بعث أعمال تجارية، محدودة.

وفي حال عدم توفر الموارد المالية، ستكون اللامركزية السياسية ضعيفة.

وعوضا عن إعادة توزيع الثروة بشكل بسيط، يخلق هذا النظام آلية مالية تلبي حاجيات هذه الدولة الريعية في خضم سعيها لوضع أسس لامركزية حقيقية.

المكونات اللازمة لنجاح اللامركزية

عملت الحكومة على الأخذ بعين الاعتبار أشكالا أخرى للحكم في ليبيا. على سبيل المثال، شهدت سنة 2012 نشأة توجه قوي نحو تطبيق نظام الحكم الفيدرالي من قبل جماعة صغيرة وقوية في الشرق بقيادة أبو بكر مصطفى بعيرة.

ومن جهتهم، رفض المواطنون في غرب ليبيا تطبيق النظام الفيدرالي، واعتبروا أن هذا المقترح يندرج ضمن مساعي النخب الشرقية لاحتكار الثروة النفطية للبلاد، التي تتركز النسبة الأكبر منها في الشرق، والانفصال عن الجزء الغربي للبلاد.

وفقا لنتائج دراسة استقصائية أجراها المعهد الجمهوري الدولي سنة 2011، أعرب 7 بالمائة من المشاركين الذين يقطنون في شرق ليبيا عن انحيازهم لخيار إقامة نظام فيدرالي. ويرجع فقدان الفيدراليين لتأييد الكثير من الليبيين إلى حقيقة لجوئهم إلى العنف بشكل سريع. وعند العودة بالذاكرة إلى الفترة الفاصلة بين سنتي 1951 و1963، نستحضر محاولة الليبيين اعتماد نظام فيدرالي، وهو ما أدى إلى حدوث نتائج سلبية للغاية آنذاك.

ازداد حجم الخلاف الوطني حول تطبيق النظام الفيدرالي، كما شهدت الكتلة الفيدرالية عدة انقسامات. لكن هؤلاء الفيدراليين كانوا أقوياء بما فيه الكفاية للحصول على مقاعد في الانتخابات البرلمانية لسنة 2014.

واستمر الفدراليون في الضغط على حكومة طرابلس لإيلاء قدر من الاهتمام بمشاغلهم واهتماماتهم. وفي الوقت الحالي، أصبحت المراكز السكانية في ليبيا منقسمة بشكل كبير، مما لا يسمح للنظام الفيدرالي بتأدية وظيفته على اعتباره حلا يهدف لتخليص البلاد من الانقسامات.

يجب النظر إلى النظام اللامركزي على أنه نهجا من شأنه تخفيف حدة التفكك وحالات الإفلات من العقاب في ليبيا بشكل صارم. في الوقت ذاته، يمكن تبين العديد من العقبات التي تقف في وجه هذا النهج الذي يتبع منظورا ينطلق من القاعدة نحو الأعلى.

ولعل من أهم الجوانب التي لا تزال عالقة في علاقة بهذا النهج، ما إذا يمكن تطبيق اللامركزية بشكل رسمي في ظل عدم وجود دستور راسخ وقوي.

لا تحدد مسودة الدستور الليبي، التي حظيت بموافقة الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الليبي خلال شهر تموز/ يوليو من سنة 2017، واجبات ومسؤوليات العديد من الأجهزة التابعة للدولة بشكل واضح. ولزيادة حظوظ نجاح العملية اللامركزية، يجب أن يحتوي الدستور على رؤية وطنية واضحة وإطار قانوني لتحقيق اللامركزية.

من ناحية أخرى، يمكن لحكومة الوفاق الوطني المدعومة من طرف الأمم المتحدة أن تتجاوز المعضلات المتعلقة بالدستور عن طريق إصدار قانون، وذلك بموجب مرسوم يعنى بوضع خطة لتنفيذ العملية اللامركزية.

عقب ذلك، يمكن المصادقة على طلب بوضع أسس نظام لامركزي أو رفضه أو تعديله من قبل برلمان يتم انتخاب أعضائه بصفة شرعية.

يمكن لليبيا النظر في إمكانية اعتماد إطار عمل شبيه بالذي تبنته جارتها تونس، والذي يسعى إلى بناء دولة موحدة ذات مستوى عال من اللامركزية. ويقوم النهج التونسي على توحيد جميع الحكومات المحلية ضمن إطار قانوني واحد يوضح قدرة المشرعين المحليين على تطبيق القوانين دون الإخلال بالمسار اللامركزي وضمان استمراره.

وتجدر الإشارة إلى أن أحد أبرز مكونات النهج التونسي يكمن في تضمين أحدث مشاريع قانون الحكم المحلي في سنة 2017، لأحكام تجعل المجالس المحلية تتمتع باستقرار مالي أكبر وتضمن امتلاكها للموارد المالية الكافية للاضطلاع بالوظائف الرئيسية التي في عهدتها.

 الخلاصة

لا تزال آفاق النظام اللامركزي غير مستغلة بالشكل المطلوب في المنطقة. وقد استرعت انتباه بعض الجهات في الآونة الأخيرة على اعتبارها وسيلة يمكن تطبيقها لوضع حد للصراع في ليبيا، بالإضافة إلى العديد من الدول الأخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ولا بد أن تكون اللامركزية عبارة على مسيرة تبدأ بحكومة مركزية قوية تفوض السلطة والصلاحيات والأموال للبلديات على نحو مستمر.

على الرغم من نجاح العديد من البلديات في تقديم الخدمات لمجتمعاتهم عند نشوب الحرب وانتشار الفوضى، يمكن القول إن العملية الحالية تنطوي على العديد من الصعوبات.

ونظرا لأنها تكونت بشكل مستقل في ظل غياب حكومة مركزية قوية، لا تتبع المجالس البلدية أي سلطة عليا، كما أن مستوى التفاعل بين الطرفين محدود للغاية.

بموجب ذلك، يجدر بالحكومة المحلية إتباع قواعد قانونية وواضحة، وهو ما سيسمح بزيادة فورية في التمويل الموجه إليها والتمتع بعلاقة رسمية مع الحكومة المركزية بهدف إنجاح عملية تبني النظام اللامركزي. على غرار النظام اللامركزي التونسي، هناك حاجة ملحة للمجازفة باعتماد النظام اللامركزي في سياق تحقيق الوحدة الليبية.

وستحظى الجهات الفاعلة على المستوى المحلي بفرصة امتلاك حكومة فاعلة في ليبيا عند اتباعها هذا الإطار العملي فقط.

***

كريم ميزران ـ زميل كبير مقيم في مركز رفيق الحريري التابع للمجلس في الشرق الأوسط

إيرن نيل ـ مساعد باحث بمركز الشرق الأوسط وكاتبة في مجالات التنمية الأمنية وخاصة عن ليبيا والجزائر وتونس ومصر

______________

مواد ذات علاقة