بقلم عبدالرزاق بالحاج مسعود

تتوالى المبادرات السياسية لحلّ أزمة الانقسام السياسي والحرب الأهلية المفتوحة في ليبيا من دون جدوى. وتستمرّ معاناة الشعب الليبي من الحرب العبثية ومن استباحة بلادهم من قبل أطراف استعمارية متعدّدة تلتقي جميعها حول عرقلة الحلّ السياسي ماد دام لا يحفظ مصالحها الاستعمارية.

الجزء الثاني

ثانيا: أطراف داخلية متشابكة

يمكن تلخيصها في:

ـ نخب شبه سياسية كانت تعيش في الغرب ولكنها بعد عودتها، التي فاجأتها هي نفسها، عجزت عن التحوّل إلى تيّار سياسي فاعل في مجتمع معطّل لا يتوفّر على بذرة الحداثة السياسية في حدّها الأدنى.

تمّ الزجّ بهذه النخب المنقطعة عن مجتمعها في معترك تاريخي كبير عنوانه تأمين الحدّ الأدنى من عملية سياسية انتقالية تاريخية كبرى. هي مهمة تحديث مقلوبلمجتمع شبه أمّي ذي بنية نفسية/فكرية هي مزيج معقّد من العرف الأخلاقي القبلي، والوجدان الديني البدائي.

مجتمع طبعته الدكتاتورية الفردية بسلوكات مرضية تتناقض مع روح الدولة الحديثة، قوامها احتقار التعليم وقيمة العمل والتباهي بالقدرة على تسخير العمالة الأجنبية وشراء المواقف السياسية لدول كبرى بفضل ثروة النفط الهائلة (ألم ينه القذافي حكمه المديد بتتويج نفسه ملك ملوك إفريقيا القادر على تمويل وتسليح كلّ دولها لتعينه على مواجهة الامبريالية الأمريكية في معركة ستغيّر وجه العالم!).

لم يكن ممكنا لنخبة مغتربة ومسقطة على سياق تاريخي معطّل بالكامل أن تستنهض مجتمعا كهذا وتدمجه في عملية تحديث مقلوب تبدأ من دولة القانون والمؤسسات وتعيد تأهيله التاريخي معرفيا وسياسيا.

هذه النخب انتهت إلى أدوات سياسية للغرب كلّ دورها تأمين عناوين ضرورية لتدوير العملية السياسية وتسيير الخدمات العامة التي تدرّ عليهم من الأموال ما يكفي لاستمرارهم في تأمينها إلى ما لا نهاية.

ـ تشكيلات حزبية صورية غريبة عن محيط شعبي تغلب عليه الأمية التعليمية والسياسية متجذّر في ولائه القبلي ومتشبّع بخطاب جماهيري شعبوييرذّل الانتظام الحزبي والديمقراطية.

أكثرها تنظيما ما ارتبط أوّل نشأته بتنظيم الإخوان المسلمين قبل أن تطول الحرب الأهلية ويفقدوا هم بدورهم رصيد التعاطف القديم معهم على خلفية ما تعرّضوا له من قمع.

هذه التشكيلات التي أمّنت الانتخابات الأولى تآكلت في أغلبها، ولا يبدو أن الساحة السياسية قادرة في المدى القريب أن تنتج أحزابا بديلة ضرورية لتأمين الانتقال المطلوب إلى المرحلة السياسية الدائمة، وقادرة قبل ذلك على وضع الإطار التشريعي( دستور وقانون انتحابي) الضروري لهذا الانتقال الديمقراطي.

ـ المكوّن الأهمّ للمشهد الليبي هو المجموعات المسلّحة. وهي في عمومها غامضة الهوية السياسية إن لم تكن فاقدة لها تماما رغم وضوح أسماء قياداتها الميدانية وانتماءاتهم القبلية والمناطقية.

مجموعات تنخرط كلّها بأقدار مختلفة في حرب أهلية تتّسع يوما فيوما (لتشمل أخيرا العاصمة طرابلس التي كانت محيّدة بقرار دولي لسنوات عن الفوضى المسلّحة) وتدمّر النسيج المجتمعي الليبي المعروف بتماسكه، وتخترق خارطته القبلية التقليدية وتفرغ العملية السياسية الرسمية من جدواها.

وهي مجموعات متغيّرة الولاء باستمرار بما يجعلها تتجه إلى التحوّل النهائي إلى تنظيمات إجرامية وعصابات حرب قابلة للتوظيف، تستثمر في الفوضى الدائمة وتحرّكها الجريمة لا غير، بعد أن كان بعضها قد تشكّل على خلفية حماية مطالب المتظاهرين العزّل ضدّ دكتاتورية القذافي.

هل من حلّ سياسي في الأفق؟

ليبيا اليوم محلّ أطماع استعمارية كبرى ومتعدّدة. هذه المحاور الاستعمارية المتصارعة والمتنافسة استباحت أرض ليبيا وثرواتها وأغرقتها في فوضى مسلّحة من الصعب ضبطها إلا بقرار دولي جدّي لا تتوفّر شروط حصوله حتى هذه اللحظة في ظلّ صراع استعماري متعدّد الأقطاب.

أما المراهنة على الجبهة الداخلية لضبط هذه الفوضى فيبدو أنها أصبحت من قبيل الخيال. فالبلاد تفتقد لرموز سياسية ومجتمعية وشخصيات مؤثرة ذات قاعدة اجتماعية، رغم ما يعرف عن الليبيين سابقا من صلابة الرابطة الأخلاقية المستندة إلى الدين والعرف القبلي.

فدكتاتورية القذافي والثروة النفطية الفاحشةالتي لم توجّه خلال عقود من العبث السياسي لتحقيق نهضة اقتصادية وتحديث فكري وسياسي دائم، وانتشار الأمية والمخدّرات في صفوف الشباب،

كلّ ذلك دمّر النسيج الاجتماعي التقليدي دون أن يُحِلّ محلّه ثقافة ومؤسسات جديدة تضمن تماسكا اجتماعيا أدنى يتيح قيام حياة سياسية جامعة لفسيفساء قبلية منتشرة في رقعة جغرافية واسعة جدّا عسيرة على الضبط.

خاتمة:

انتهى اتفاق الصخيرات بالفشل. ومثله ينتهي قريبا اتفاق باريس (الذي يقترح إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية قبل موفى السنة الحالية) بدوره إلى الفشل، إذ لا نتصوّر أن المدة المتبقية تكفي للاستفتاء على الدستور وتوفير متطلبات إجراء انتخابات في ظلّ فوضى السلاح رغم الحماس الفرنسي.

وها هي إيطاليا تلتحق بمجموعة المبادرين جارّة معها الولايات المتحدة مقترحة توحيد المؤسسات قبل المرور إلى الانتخابات، ولا نظنّها تنجح بدورها لنفس الأسباب.

يحدث هذا في ظلّ ثابتين اثنين:

تواصل تدفّق السلاح إلى ليبيا بما يكفي لاستمرار الحرب إلى أمد غير منظور.

واستمرار تدفّق النفط الليبي إلى السوق العالمية بما لا يهدّد جذريّا احتياجات مراكز الرأسمالية العالمية من هذه المادّة الحيوية بالنسبة إليها.

وفي الأثناء يتعمّق أكثر فأكثر مأزق تاريخي شامل في ليبيا ستشمل تداعياته جوارها العربي القريب، وجوارها الأوروبي غير البعيد.

____________

مواد ذات علاقة