بقلم محمد عمران كشادة

إن واقع الصراع السياسي في ليبيا والذي طال أمده يؤكد بان استمرار الصراع بدون حسم ، أو حل سياسي سلمي ، سوف يؤدي إلى دخول لاعبين جدد على مسرح الأحداث.

الجزء الأول

ليس من الحكمة أن نقلل أو نستهين بالإطماع الروسية في ليبيا، ولن يمنع انشغال روسيا بقضايا وجبهات أخرى مشتعلة أن تغفل عن دولة مثل ليبيا غنية بالنفط والغاز ، التاريخ يؤكد أهمية ليبيا بالنسبة لروسيا ، والواقع يؤكد ذلك أيضا ، وان كان التفاعل الروسي مع الأحداث والاقتراب من ليبيا يتم بشكل حذر .

في هذه الدراسة نحاول أن نسلط الضوء على الدور الروسي في ليبيا ، ونتساءل..

هل سيأتي يوم ترمي فيه روسيا بثقلها في الأزمة الليبية وتتدخل عسكريا كما فعلت في سوريا وقبلها جورجيا ، أم أنها ستظل تنتهج سياسة بطئيه وتتحرك بحذر خشية إثارة حفيظة الغرب؟.

وهل ستنجح الدول الأوروبية وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية في أبعاد الروس عن ليبيا كما فعلت في فترة الأربعينات عندما أثيرت قضية ليبيا في الأمم المتحدة، أم أن الروس بقيادة بوتين سوف ينجحون  في الحصول على موطئ قدم في ليبيا؟.

إننا في هذه الدراسة نقوم باستدعاء التاريخ والبحث عن حقائق الدور التاريخي لروسيا في ليبيا،  ويعلمنا التاريخ بان روسيا لم تكن أبدا تكن لنا الود ، بل كانت تناصبنا العداء ، وأنها كانت تعرقل استقلال ليبيا.

هذا ما نريد أن  يعرفه بعض شركائنا في الوطن أولئك  الذين يراهنون على  التدخل الروسي في ليبيا لحسم الصراع لصالحهم ، وحججهم في ذلك  باطلة ، كما أننا ركزنا على المصالح الاقتصادية لروسيا في ليبيا، والصراع على موارد  الغاز والحرب المشتعلة في المشرق العربي بسبب  الغاز، في محاولة لاستشراف مستقبل منطقتنا وما يهددها من تحديات وصراعات بين الدول الكبرى.

ونحن نشعر بان ما يجري هناك على الأرض السورية قد يتكرر في ليبيا، لتصبح ليبيا ضحية لعبة الأمم الكبرى ، وما يجره ذلك من ويلات ،  إلا أن يدرك أبناؤها حجم التحديات فيهبوا لنجدتها ، ولن يكون ذلك إلا بتوحيد الصفوف ، والتنكر للذات ، وللمصالح الشخصية ، والحسابات  الحزبية الضيقة.

استعرضنا في هذه الدراسة قضية  صعود بعض القوى على الساحة الدولية ، ونظرية تحول القوة ،  الحديث هنا عن صعود  روسيا والصين ، وتراجع الدور ألأمريكي في بعض مناطق العالم ،  وما يهمنا هو روسيا ، وشرحنا بالوقائع الاقتراب الروسي الحذر من ليبيا ، وأيضا مهددات الدور الروسي في ليبيا ،  ووضعنا تصور منطقي مدعم بأدلة وشواهد عن سيناريوهات التدخل الروسي المتوقع في ليبيا.

المقدمة :

لعل كثيرا من الليبيين والمهتمين بالشأن الليبي ليس لديهم تصور كامل وإلمام  بحقيقة الأطماع الروسية في ليبيا منذ عهد القياصرة ، تقول المصادر التاريخية بان روسيا في عام 1793م في عهد كاترين طلبت من الحكومة الليبية أن تسمح لها بإقامة قاعدة بحرية في خليج بمبا ، كما طلبت من الحكومة الليبية أيضا بان تمنحها قاعدة بحرية بالقرب من أبي كماش في غرب طرابلس ، هذا يؤكد أهمية ليبيا بالنسبة لروسيا.

ليبيا في محل الأطماع الروسية

 أول اهتمام للروس بليبيا في العصر الحديث يعود إلى قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، رُغم أن اهتمام دول الحلفاء جميعها كان مُنْصَباً على كيفية تقسيم ألمانيا وعلى مصير باقي الدول الأوروبية، وكان اهتمام الاتحاد السوفييتي أكثر تركيزاً على دول شرق أوروبا، لأنها تدخل في المجال الحيوي للسوفييت، فضلاً عن أنها تقع في دائرة الأمن القومي السوفييتي، حيث أنها تشكل طوقاً عازلاً بين الاتحاد السوفييتي من جهة، ودول غرب أوروبا من جهة أخرى، تلك الدول التي ما انفكت تحاول غزو أراضيه، ويكفي هنا التذكير بغزو نابليون الفرنسي، وغزو هتلر الألماني

غير أن شرق أوروبا على الرُغم من أهميته بالنسبة للسوفييت، لم يكن ليؤدي بحال من الأحوال إلى غض طرفهم عن أراضي أخرى ذات أهمية إستراتيجية فائقة ، مثل ليبيا التي تتمتع بموقع استراتيجي مميز على البحر المتوسط حيث المياه الدافئة التي طالما كان السوفييت يحلمون بالوصول إلى شواطئها، فضلاً عما يمثله موقع ليبيا الجيوبولتيكي  من أهمية لا تُضاهَى حيث أنه لا يبعد عن القارة الأوروبية إلا بضع مئات الكيلو مترات عبر البحر المتوسطز

كما أن ليبيا ليست بعيدة من منابع النفط في الشرق الأوسط، ومن طرق التجارة العالمية ومعابرها في باب المندب وقناة السويس، وهي الدولة الغنية بالنفط والغاز وصاحبة اكبر احتياطي نفطي في إفريقيا يبلغ 74 مليار برميل ، بالإضافة إلى كون ليبيا واسطة العقد في شمال إفريقيا، فضلاً عن أنها البوابة الشمالية المُثلى إلى إفريقيا ما وراء الصحراء

مدارس ومؤثرات السياسة الخارجية

من المهم جدا ونحن نحاول أن نحدد وجهة السياسة الروسية تجاه ليبيا وتفاعلاتها مع ألأحداث ، ومواقفها إزاء العديد من القضايا والصراعات والتدخلات على الساحة الليبية .

من المهم أن نلقي نظرة على المؤثرات التي تؤثر بشكل كبير ومباشر  على صانع القرار السياسي في روسيا.

لقد شهدت منطقة الشرق الأوسط عودة تدريجية للنشاط الخارجي الروسي إليها، فروسيا تحتاج إلى إقامة علاقات شراكة مع دول هذه المنطقة، ودول العالم الإسلامي والعربي خصوصًا (إيران– تركيا سوريالتقليل حجم التهديدات على حدودها الجنوبية

على خط آخر، تعتبر هذه المنطقة الخزّان العالمي لمادة الغاز الطبيعي ومركز الثقل لخطوط الأنابيب التي تنقله أو ما يسمّى بـشرايين الأنظمة الحاكمة، وهذا ما يجعلها مسرحًا للتجاذب الجيو سياسية الروسية الغربية بسيناريوهات ظاهرها سياسي وباطنها اقتصادي.

عمل الرئيس فلاديمير بوتين على إعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية من جديد، من خلال عدّة استراتيجيات براغماتية قائمة على ثوابت أهمّها

عدم الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية، النهوض بالاقتصاد القائم بالدرجة الأولى على الاحتياط الضخم من مادة الغاز، السعي إلى عالم متعدّد الأقطاب وتكوين تحالفات إقليمية ودولية ذات طابع أمني مثل منظمة شانغهاي واقتصادي مثل مجموعة ألبريكس

كان ونستون تشرشل يرى بأن مفتاح فهم اللغز الروسي هو المصلحة الوطنية، لكن كيف يمكن تفسير هذه المصلحة؟.

هذا هو المتغير في السياسة الروسية ، لكنه متغير مرتبط بنمط عام هو العلاقة بالغرب وأوروبا ، فكل المتغيرات التي حدثت في التاريخ الروسي كانت انعكاسا لهذه العلاقة، في جدلية واضحة بين الانعزال والتوسع، الانقباض والانبساط، وبينهما تكمن منحنيات كثيرة لكنها تعبر عن نهج واحد ، هو تحديد الهوية الروسية بوصفها إمبراطورية لها ثقافتها وقدراتها التي لا تريد أن تعزلها أوروبا بقصد أو بغير قصد عن بقية العالم، كريكش.

هناك ثلاث مدارس أساسية في السياسة الخارجية الروسية كلها تتبع هذا النمط، وهو كيفية تحديد العلاقة بأوروبا

مدرسة المتغربين : وهي ترى ان روسيا جزء من أوروبا وان الحضارة الغربية هي أفضل منتج حضاري عرفه التاريخ ، وتعود هذه المدرسة لبطرس ألأكبر (1682-1725) حين طاف أوروبا لمعرفة سر الحضارة والتقدم الغربي ، واستمرت هذه المدرسة حتى القرن العشرين.

المدرسة الدولاتية: ترى هذه المدرسة بان الحفاظ على الدولة وقوتها هو الذي يعطيها القدرة على الاستمرار ، وان قوة الدولة مقدمة على القيم الغربية وحقوق ألإنسان والديمقراطية. وهذه المدرسة يمثلها الرئيس بوتين .

المدرسة الحضارية: ترى هذه المدرسة تميز روسيا بحضارة أورو آسيوية لها قدرة على موازاة الحضارة ألأوروبية، وتمتد تاريخيا إلى عهد إيفان الرهيب (1530-1554)، ويمثل ذلك لينين وليون ترو تسكي ، وهم أنصار رؤى الثورة العالمية في مواجهة الحضارة الغربية.

البقية في الجزء الثاني

***

محمد عمران كشادة ( باحث ليبي)

__________

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية

مواد ذات علاقة