بقلم سيلين م. بولمي

على مدى السنوات الأربعين الماضية، تم دمقرطة العديد من دول العالم. وما بين عامي 1974 و1990، تضاعف تقريباً عدد الحكومات الديمقراطية في العالم.

الجزء الثاني

ما هي السلطوية؟

صُنفت جميع الأنظمة الحاكمة تقريباً في الشرق الأوسط في العصر الحديث على أنها أنظمة استبدادية بشكل عام. ومع ذلك، فقد كان لمعظمهم أحزاب سياسية وانتخابات منتظمة وشكل من أشكال الحرية الليبرالية منذ الثمانينات.

لذلك، فإنه على الرغم من السيطرة الصارمة على الأنظمة السياسية والاقتصادية من قبل الزعماء المستبدين في بلادهم، بالنظر إلى السمات “الليبرالية” للأنظمة، فقد أصبح الأمر أكثر تعقيداً من مجرد تصنيفها ببساطة على أنها أنظمة استبدادية.

إذن، ما هي هذه الأنظمة؟ فقد كان هناك جدل متزايد منذ منتصف التسعينيات حول كيفية تصنيف الأنظمة الاستبدادية وكيفية تحديد الأنظمة التي تقع في المنطقة الرمادية بين الديمقراطية والاستبداد.

 تستند معظم هذه المناقشات على تعريف خوان ج. لينز للسلطوية كنقطة مرجعية على الرغم من الانتقادات لأوجه القصور فيها . ففي مقاله المحوري، صور لينز النظام الاستبدادي لأول مرة على أنه نموذج متفرد للنظام يختلف عن كل من الديمقراطية والشمولية.

وصنف لينز الأنظمة السياسية على أنها أنظمة استبدادية: “إذا كانت هذه الأنظمة ذات تعددية سياسية محدودة وغير مسؤولة، وتفتقر إلى وجود أيديولوجية مفصلة وموجهة؛ وحتى إذا توفرت فيها عقليات متميزة، فلا تحظى بتعبئة سياسية مكثفة أو موسعة، باستثناء بعض النقاط في مراحل تطورها؛ و يمارس فيها زعيم أوحد، أو في بعض الأحيان مجموعة صغيرة من الأفراد، السلطة ضمن حدود غير واضحة المعالم بشكل رسمي، ولكنها في الواقع حدود يمكن التنبؤ بها تماماً.” .

أكد لينز أيضا على التمييز بين الأنظمة السلطانية والسلطوية، حيث يمكن الخلط بينهما بسهولة. وقد قدم مقاله مع ستيبان مثالين لتوضيح هذا الفرق:

فقد ضرب مثلاً على الأنظمة السلطانية بجمهورية الدومينيكان إبان حكم الدكتاتور رافائيل تروخيو، الذي حكم البلاد من عام 1930 إلى عام 1961، وكان قد جعل ابنه ضابطاً برتبة عميد عندما كان لا يزال طفلاً في التاسعة من عمره.

لكن هذا الشيء لم يحدث أبداً في مثال آخر للديكتاتورية، وهو دولة تشيلي تحت قيادة الجنرال أوجستو بينوشيه. فقد كان بينوشيه، الرجل القوي العسكري الذي حكم تشيلي من عام 1973 إلى عام 1990 في ظل نظام استبدادي، يرأس “الجيش كحكومة”، لكن “الجيش كمؤسسة” كان يتمتع بدرجة من الاستقلالية التنظيمية.

يعتبر لينز و ستيبان مستوى إضفاء الطابع المؤسسي على الجيش متغيراً رئيسياً لرسم الخط الفاصل بين الأنظمة السلطوية والأنظمة السلطانية. ومع ذلك، يعترفان بأنه ليس من السهل الفصل بينهما بدقة.

فيمكن أن تكون الأنظمة سلطانية بالكامل تقريباً في خصائصها أو تُظهر بعض خصائص الأنظمة السلطانية. وهكذا، فقبل مجيئ الربيع العربي، أظهرت بعض الأنظمة العربية مثل ليبيا وسوريا واليمن ومصر وتونس بعض ملامح الأنظمة السلطانية بدرجات متفاوتة، ولكن لا يمكن تصنيف أي من هذه الأنظمة الشرق الأوسطية على أنها أنظمة سلطانية وفقاً لهذا التعريف .

 اقترح لينز تصنيف الأنظمة الأوتوقراطية الاستبدادية على ثلاثة أبعاد (التعددية والأيديولوجية والتعبئة) وصمم تصنيفاً مفيداً للأنظمة الاستبدادية:

(1) الأنظمة الاستبدادية العسكرية البيروقراطية،

(2) الهيمنة الاستبدادية للنقباوية (وجماعات المصالح)،

(3) الأنظمة الاستبدادية القادرة على التعبئة،

(4) الأنظمة الاستبدادية فيما بعد الاستعمار،

(5) الديمقراطيات العرقية والإثنية،

(6) الأنظمة دون الاستبدادية: الشمولية وما دون الشمولية، وأخيراً

(7) الأنظمة الاستبدادية ما بعد الشمولية .

وقد أضاف لينز وستيبان نوعاً جديداً من الأنظمة الاستبدادية، وهو الأنظمة الهجين بين الاستبدادية والديمقراطية أو ما يمكن أن نطلق عليه “الهجين الاستبدادي الديمقراطي”، إلى قائمة التصنيفات السابقة، بما في ذلك الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية والشمولية وما بعد الشمولية والسلطانية.

وقد استخدموا هذه الفئة الأحدث لتحديد الوضع في العالم العربي بعد الربيع العربي. يجادل لينز و ستيبان بأنه لم يكن لدى أي دولة عربية نظام استبدادي مؤسسي بالكامل؛ لذلك، فإن مصطلح “ما بعد الشمولية” لا ينطبق على الدول العربية التي سقطت فيها الديكتاتوريات.

فمثل هذه الدول لم يعد من الممكن وصفها بشكل كاف بأنها سلطوية أو سلطانية أيضاً، وهي ليست أيضاً أنظمة ديمقراطية (أو لم تصل إلى ذلك بعد).

لذلك طور لينز و ستيبان مصطلح “الهجين الاستبدادي الديموقراطي” لتحديد الوضع السياسي المحصور بين الديمقراطية والاستبداد.

إن مفهوم الهجين الاستبدادي الديمقراطي له خصائص مشابهة جدا للأنظمة الاستبدادية أو الهجينية التنافسية. ويجادل لينز وستيبان بأن هذا الهجين الاستبدادي الديمقراطي ليس في الواقع نوعاً من النظام؛ إنه وضع تفشل فيه السلطة الحاكمة في الاستمرار أو في أن تصبح مؤسسية. وقد يتحول هذا الوضع إلى الديمقراطية أو الاستبداد الكامل؛ فهذا يعتمد في الأغلب على دور وقرار الجهاز القسري في البلاد.

وأكد أودونيل وشميتر ووايت هيد أيضاً على اختلاف النتائج في هذه الأنواع من تحولات النظام. إن الانتقال من الحكم الاستبدادي يمكن أن ينتج ديمقراطية، كما أنه قد ينتهي إلى نظام استبدادي ليبرالي أو ديمقراطية مقيدة غير ليبرالية.

في بداية التسعينيات، كانت هناك توقعات متفائلة بشكل كبير في إطار الأدبيات التي كتبت حول مستقبل الديمقراطية في العالم غير الديمقراطي.

كان يُنظر إلى الاستبداد على أنه مجرد مرحلة انتقالية قبل الديمقراطية. أما في الآونة الأخيرة، فقد تخلى معظم الباحثين عن هذا الرأي بعد أن شهدوا استمرارية الرمادية السياسية، وأصبحوا يفضلون وصف هذا الوضع بأنه نظام حكم وليس موقفاً انتقالياً.

ومع ذلك، فمنذ البداية لم يكن هناك إجماع في الأدبيات على التسمية التي يمكن أن نطلقها على هذه الأنظمة وكيفية توصيفها. فقدم تيري لين كارل، في مقاله الهام الذي نُشر تحت عنوان: “الأنظمة الهجين لأمريكا الوسطى ، مصطلح “النظام الهجين” لتعريف الدولة التي تحوي أشكال حكم ديمقراطية واستبدادية في آن واحد.

وفي التسعينيات، كانت الديمقراطية تُعتبر بمثابة أساس للمصطلحات الجديدة، مما أدى إلى ظهور اتجاه يشار إليه عادة باسم “صفات مع الديمقراطية”. وفي هذا التوجه، وصف العلماء هذه الأنظمة بأنها “ديمقراطية سلطوية” (استبدادية) و “ديمقراطية باتريمونيالية” (أبوية تقليدية) و “ديمقراطية برايتورية” (يهيمن عليها الجيش) و “ديموقراطية أولية بدائية” ، إلخ.

ومع ذلك، فقد تم انتقاد التركيز على الديمقراطية، واتُهم هذا النهج بمعاملة الأنظمة الهجين على أنها أشكال جزئية أو “منقوصة” من الديمقراطية. وكرد فعل على ذلك، ظهر اتجاه تعويضي في العقد الماضي، واستبدل مصطلح “الديمقراطية” بكلمة “السلطوية”.

ونتيجة لهذا التحول من “صفات مع الديمقراطية” إلى “صفات مع السلطوية”، تم استنباط مصطلحات جديدة مثل: “السلطوية الانتخابية” و “السلطوية التنافسية” و “شبه السلطوية” و “السلطوية الناعمة”.

حيث لا تشير كل المصطلحات المذكورة هنا إلى نفس نوع النظام.

وعلى الرغم من التوجه السائد لإمكانية استخدام أحدها مكان الآخر ، فلا تزال هناك بعض الاختلافات. وقد يُظهر النظام مزيجاً من الخصائص الاستبدادية أو الديمقراطية بطرق عديدة.

ووفقاً لميل النظام (نحو الاستبداد أو الديمقراطية) أو حسب مقاييس الباحث، يتم استخدام مصطلح مختلف. حيث أثارت جهود وضع المفاهيم مظاهر الخلط والارتباك، على الرغم من أن الأدبيات بمعناها الواسع تضمن وجود نظرة متعمقة للأنواع المختلفة من الأنظمة الهجين.

 ومن أجل التمييز بين الأنظمة الهجين والأنظمة الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية الكاملة، ينبغي للمرء أن يرسم حدوداً مفاهيمية ليس فقط بين الاستبداد والأنظمة الهجين ولكن أيضاً بين الديمقراطية والأنظمة الهجين.

وفي معظم هذه الدراسات حول الأنظمة الهجينة، تم اقتباس تعريف الديمقراطية من روبرت دهل. ويستخدم دهل هذه المعايير لتعريف الديمقراطية:

(1) انتخابات حرة ونزيهة وتنافسية؛

(2) الاقتراع الكامل للبالغين؛

(3) الحقوق السياسية والحريات المدنية، بما في ذلك حرية التعبير والصحافة وتكوين الجمعيات؛

(4) السيطرة على القرارات الحكومية المتعلقة بالسياسة المخولة دستوريا للمسؤولين المنتخبين.

عند مقارنته بالاستبداد، يتوفر في النظام الهجين (المختلط) واحد أو أكثر من هذه المعايير. ولكنه أيضاً ينتهك معظمها بشكل متكرر وخطير ولا يفي بكامل مجموعة الالتزامات الناشئة عن الديمقراطية.

وفي معظم الجهود المبذولة لتصنيف الأنظمة الاستبدادية، استخدم الباحثون بالدرجة الأولى درجة التنافسية كتدبير (إجراء) وأولوا اهتماماً لوجود فرص مؤسسية لمشاركة المعارضة. وعلى الرغم من انتقاد هذه الطريقة باعتبارها اختزالية بسبب تركيزها على بعد واحد فقط للديمقراطية، فهي طريقة مقبولة على نطاق واسع في الأدبيات المنشورة حول هذا الموضوع.

ووفقاً لهذا التصنيف، فقد يتم تصنيف الأنظمة الاستبدادية على أنها أنظمة استبدادية تنافسية وسلطوية انتخابية (والتي تسمى أيضاً “الديمقراطية الزائفة” ” أو “الديمقراطية الافتراضية” أو “ديمقراطية الواجهة” ، إلخ) أو “استبدادية مغلقة” (سلطوية تقليدية).

ويقارن ليفتسكي و واي الاستبداد الانتخابي بالسلطوية التنافسية في أربعة مجالات من المنافسة الديمقراطية: الانتخابات والتشريع والقضاء والإعلام. في النظام الاستبدادي الانتخابي، توجد مؤسسة انتخابية ولكنها لا تسفر عن أي منافسة ذات مغزى، أو أن الهيئات التشريعية إما غير موجودة أو خاضعة لسيطرة كاملة من قبل الحزب الحاكم.

كما تسيطر السلطة على النظام القضائي، وتكون وسائل الإعلام مملوكة بالكامل للدولة، أو تخضع للرقابة الشديدة، أو يتم قمعها بشكل ممنهج. وفي هذا النوع من الأنظمة، قد تتحدى قوى المعارضة النظام بشكل دوري، وتُضعف، وأحياناً تهزم السلطة الاستبدادية.

أما في الأنظمة الاستبدادية التنافسية، فإنه على الرغم من أن العملية الانتخابية قد تتعرض لانتهاكات واسعة النطاق من سلطة الدولة، إلا أن الانتخابات تُجرى بانتظام وتكون حرة وتنافسية بوجه عام؛ وتكون الهيئات التشريعية في الأغلب ضعيفة نسبياً، لكنها في بعض الأحيان تصبح مراكز تنسيق لنشاط المعارضة.

وعلى الرغم من أن الحكومات تمارس ضغوطاً على القضاء المستقل رسمياً، إلا أنها تتعرض للانتقاد على المستويين المحلي والدولي بسبب تدخلاتها؛ وتوجد وسائل إعلام قانونية ومستقلة، على الرغم من أنها تتعرض للتهديد والهجوم بشكل دوري من جانب الحكومة.

***

سيلين م. بولمي ـ أستاذة العلاقات الدولية بجامعة مرمرة، تركيا

___________________

مواد ذات علاقة