بقلم أسامة عكنان

في سياق الدراسة الفنية والثقافية المقارنة، لا يمكن فهم المشهد الفني والثقافي الليبي خلال أحداث ثورة 17 فبراير دون فهم جذور هذا المشهد في الحِقَب الثلاث التي تعاقبت على ليبيا قبل الثورة، وهي حقبة الاستعمار الإيطالي، وحقبة المَلَكِيَّة، ثم حقبة حكم “معمر القذافي”.

.الجزء الثاني

ثالثاالمسرح الليبي خلال ثورة 17 فبراير

لم يكن للمسرح خلال أحداث ليبيا الدامية منذ فبراير 2011 وحتى الآن أيُّ تواجد فعال ينبئ عن تأثر بالحدث مثلما كان عليه حال الفن التشكيلي عبر النحت والجداريات، ومثلما كان عليه حال السينما بموجة الأفلام القصيرة التي راحت تُظْهِرُ جيلا طموحا وواعدا من المخرجين الشبان.

ولعل مسرحية “الباب” هي النموذج المسرحي الأبرز الذي يمكن الحديث عنه خلال هذه الفترة, ففي مدينة “هون” الواقعة وسط الصحراء الليبية المشتعلة بقنابل الحرب ورصاص المتقاتلين، حيث الانهيار الأمني الشامل، قدَّم عدد من المسرحيين الشباب عرضهم المسرحي “الباب”، الذي أعدَّ نصَّه “أيوب مازن”، وأخرجه “سعد حمودة”، حيث أعلنت فرقة “ميديا هون” عن تنظيمه بمناسبة “اليوم العالمي للمسرح” بالتعاون مع “فرقة هون للمسرح” بالرغم من الإمكانيات المتواضعة والظروف القاسية.

حمل النص المسرحي رؤية واضحة في رفض منطق الاحتكام للسلاح، وعَكَسَ من جانب آخر آلام المواطن ومعاناته بسبب استمرار الحرب والقتل في المنطقة. وقد واجه فريق العمل عقبات عديدة منذ أن شبَّ الحريق في مسرح المدينة عام 2017، إلا أنه تمكن من الاستمرار ومواصلة الاستعدادات.

يشار في هذا السياق إلى أن أعضاء الفرقة عملوا وما يزالون يعملون بجهود ذاتية صرفة بعيدا عن أي دعم حكومي، فـ “هم من رمَّم المسرح إثر تعرُّضِه لحريق من قبل مجهولين، وأصروا على تقديم مسرحية “البكاء في غياب القمر” للكاتب السوري وليد إخلاصي، ومن قبلها مسرحية “حصص” أحد أعمال الكاتب المصري توفيق الحكيم.

رابعاالأدب في ليبيا ما بعد 17 فبراير

1 – الرواية والقصة

يبقى الأدب دائما بمثابة وثيقة يمكن الاستناد إليها في تحليل الأحداث السياسية والاجتماعية التي يمر بها أي بلد، خصوصا تلك التي شهدت ثورات شعبية، غير أنه يمكن النظر للأمر من زاوية أوسع، تتكون من عدة مراحل، فقبيل الثورات قد تكون هناك كتابات ملهمة للشعوب، وبعد قيام الثورات يتأثر الكتَّاب فيكتبون وهم في الغالب متأثرون بروح الثورة وحماستهم لها أو موقفهم منها، ورغم مرور عدة سنوات على ثورة فبراير في ليبيا، فإن الأمر قد يشوبه عدم الوضوح، بسبب تأزُّم الموقف وتأجُّج الصراع السياسي في بلد يموج بالتغيرات وعدم الاستقرار، ما دفع عددا كبيراً من أهل الفكر والرأي وأرباب الأدب للخروج من البلاد، ما منحهم فرصة لرؤية المشهد عن بعد، بما يمكن تسميته بالصورة الكاملة.

ومنذ فبراير 2011 حتى اليوم، أُنْتِجَ كمٌّ كبير وهائل من الكتابات على المستويات الصحفية أو التاريخية والأكاديمية بلغات مختلفة، وإن تميزت الأعمال التي ظهرت بلغات أجنبية وفي مقدمتها الإنجليزية بعمق في التحليل وغنى في المحتوى ما أماط اللثام عن طبيعة نظام القذافي وتاريخه، مقابل تركيز الكاتب الليبي على الحياة الاجتماعية والسياسية وتأثيرهما في حياة المواطن.

ففي روايته “حروب ماريش وثوراتها الثلاث” يتناول الكاتب الليبي، “عمر الكدي” الفترة الزمنية التي امتدت من أيام الحكم العثماني وصولاً إلى ثورة 17 فبراير، وفيها يتنقل الكدي بين اﻷزمان المختلفة عن طريق شخصياته المترابطة.

فيما تتناول رواية “حوليات الخراب” لعمر الكدي أيضا ثلاثة عشر طاغية توالوا على حكم ليبيا. وتستلهم الرواية أحداثها من تاريخ هؤلاء ولكن بلباس سردي معاصر، وهو ما يقول عنه الكدي: “بقدر ما تتناول الرواية أحداثاً بعيدة في الزمن فإنها تركز على اللحظة الراهنة، وعلى تداعيات ثورة فبراير. بدأت التفكير في كتابة هذه الرواية منذ 15 سنة عندما كنت في ليبيا، وكنت أحدث أصدقائي عن شخصيات الرواية، وخاصة الطغاة الثلاثة الخياليين، ولكن عندما جلست لكتابتها في مدة 23 يوما تغيرت فيها أشياء كثيرة، فرضها سقوط القذافي وانتصار ثورة فبراير، والتداعيات التي أعقبت هذا الانتصار”.

وبعد نحو عام من الثورة، صدرت للكاتب “إبراهيم الكوني” رواية “فرسان الأحلام القتيلة”، ورغم تميزها بالحساسية المرهفة والجمالية في البناء والبراعة في التشكيل والعمق في الفكرة والرؤية، فإن جمهور المتتبعين للشأن الروائي تفاجأوا بظهور رواية عن “الربيع العربي” الذي لم تكتمل ملابساته ولم تنكشف تمثلاته ونتائجه بعد حين ظهرت الرواية.

واعتبر البعض أن صدور هذه الرواية، في هذا التوقيت المُبَكِّر، فعل متسرع لا يمكن أن يجسِّدَ الوضعَ الإنساني والواقع الاجتماعي لليبيين.

تضاف إلى ذلك رواية “زمن الأخ القائد” للكاتب “فرج العشة”، التي تناولت ليبيا الماضي والحاضر، وإذا كانت الرواية تتناول سيرة وطن عبر مجموعة من الشخصيات المُحَمَّلَة بالهم الثقافي، فإنها تنفتح بجرأة على سيرة أوطان عدة، وعلى حيوات بشر وجدوا أنفسهم هاربين من الوطن القامع إلى أماكن أكثر قمعا.

ويبرع الكاتب في تقديم العربي المحاصَر بالتيه النفسي والقمع السياسي، وينفتح السرد على زمنين، سيرة وطن الماضي وسيرة مواطن في الحاضر، وأيضاً على مكانين: ليبيا أو بالأحرى صحراء ليبيا، حيث يترعرع الراوي، ومعسكر اللجوء في مدينة لايبزغ الألمانية.

كما قدم الأديب “يونس الفنادي” قراءة في عشر قصص قصيرة لـ “عزة المقهور”، كتبتها في أثناء ثورة فبراير. واختار الفنادي لكتابه عنوان “ثورة فبراير في الأدب الليبي – قصص عزة كامل المقهور نموذجا”.

وعن دار الفرجاني صدر كتاب للدكتور “محمد المفتي” وهو السجين السياسي السابق، بعنوان “ذاكرة النار”، والذي يحوي ذكرياته اليومية منذ اندلاع ثورة 17 فبراير. كما صدر عن دار النهضة بلبنان كتاب “سيرة فبراير” لإدريس المسماري، والمعروف أن إدريس المسماري يعد من الأوائل الذين انطلقوا ليلة ثورة فبراير في بنغازي يهتفون بإسقاط النظام، ولخص ذلك في كتابه، وكذا اعتقاله والإفراج عنه وهروبه إلى تونس.

وكذلك صدر كتاب “سقوط باستيل بنغازي” لـ “محمد عقيلة العمامي”، ويحوي مقالات صاحبت قيام الثورة منذ بدايتها حتى سقوط النظام ثم ألحق به طبعة ثانية.

أما رواية “العودة” فهي رواية حين يقرأها المرء فسيرى ليبيا بعين أخرى. ففيها يواجه الكاتب الليبي هشام مطر أشباح ماضيه: اختفاء والده وتاريخ بلده المصادر وانتكاسة الحلم بليبيا جديدة.

الرواية هي أكثر أعمال الكاتب تعبيراً عن حياته الشخصية. وهي مثل كل رواياته تدور حول الفراغ المؤلم، الذي يشكل مصدر إلهامه وعبئاً على روحه: فقد فر هشام وعائلته، وهو ابن ثماني سنوات، من وطنه ليبيا. وفي عام 1990 اختُطف والده الدبلوماسي الذي عارض نظام القذافي، من منفاه في مصر وأودِعَ سجن أبو سليم في طرابلس. وبحسب التقارير فإن سجن أبو سليم هو المكان، الذي كان القذافي يرسل إليه كل من يريد أن يدخله في طي النسيان.

2 – الشعر

الشاعر في ليبيا واكب مستجدات التغيير الذي حصل، فهل تمكن من أن يحطم التابو ويطرح مواضيعه بجرأة أكثر مما كانت عليه قبل ثورة؟

في هذا الصدد تؤكد الشاعرة “عائشة إدريس المغربي” على صعوبة أن نحكم على ردة الفعل الفورية للشعر لأنها في الغالب تكون مجرد انفعال عاطفي لا يؤسس لحكم في المجمل.

أما الشاعر “عبد الوهاب قرينقو” فيرى أن الفعل الشعري لم تكن له ردود فعل واضحة، أو دورا طيلة السنوات الخمس الأخيرة، نظراً لعزلة الشعراء عن المجتمع، وانقطاع علاقة المثقف بالشارع.

فيما توضح الشاعرة “حواء القمودي” أنه رغم عدم متابعتها لما كُتِبَ ويُكْتَب على الضفة الأخرى المناهضة والمعادية لهذا التغيير، فربما هناك الحزن، إلا أن هناك ردود أفعال صادقة، تعبر عن الابتهاج بالحدث المتمثل في التغيير.

وتقرر الكاتبة الصحافية “إيناس حميدة” أن ردود الفعل توالت بشكل دراماتيكي، فقد بدأت بالحماس والتحريض والدفع للتغيير لتقدم أشكالا مختلفة. بينما يرى الشاعر “رامز النويصري” أن التجربة الشعرية في ليبيا كانت تبحث عن متنفس لها وظلت ترسم في نصوصها، حتى جاء فبراير بالتغيير، فكانت النصوص الشعرية صوتها وتعبيرا صادقاً لما يريد الشاعر والوطن.

وهذا ما وافقه عليه الشاعر “عبد الباسط أبوبكر محمد” الذي بين أن ثورة فبراير أربكت الكثير من الأوراق والكثير من الشعراء، الذين توقفوا عن الكتابة والنشر بعد الثورة، وهذا ما يراه عبد الباسط أمرا محيرا جداً، فقد كانت الكتابة مُشَفَّرَة بمجموعة من الرموز قبل الثورة وفي ظل القمع والتأويل الخاطئ.

***

أسامة كعنان ـ كاتب وباحث أردني من أصل فلسطيني

______________________

مواد ذات علاقة