بقلم طارق المجريسي

كان آخر المنضمين لحلفاء الجنرال خليفة حفتر، الذي يهاجم العاصمة الليبية طرابلس منذ أبريل/نيسان الماضي، هو بشار الأسد.

أُضفي طابع رسمي على هذا التحالف في الأسبوع الماضي مع فتح “السفارة الليبية” في دمشق. وتكونت هذه الشراكة المثيرة للقلق بين الطرفين دون أي تعليق تقريباً من أي طرف متورّط في الحرب الليبية. ليبدو المشهد وكأن لا أحد مهتم بما يحدث في ليبيا. وكأن الصراع كله لم يعد موجوداً.

ليبيا ليست حرب الشرق الأوسط المنسية، بل هي الحرب المُهمَلة. وبعد أن احترقت في نار الحرب الممتدة لخمس سنوات تقريباً، انهار البلد عن بكرة أبيه. رغم أنه كان يمكن تفادي ذلك الحريق إذا توافرت الإرادة السياسية.

ولم يكن حتى الاعتداء غير المبرر على طرابلس كافياً لحث أي جهة على التدخل.

في الأسبوع الماضي صدر بيانٌ من بريطانيا، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وتونس، والجزائر، ودول أخرى يدعو الأطراف المتحاربة إلى عقد هدنة كي تتمكن البلاد من مواجهة فيروس كورونا.

ولكن، وللأسف لا تزال المدينة مسرحاً لـ”حرب أهلية” رغم محاولة ما لا يقل عن 10 دول لوضع حد لهذه الأزمة. وتلوح أزمة إنسانية في الأفق، في ظل بقاء أكثر من مليوني شخص في المدينة تحت القصف اليومي، وانقطاع الكهرباء بسبب الحظر المفروض على النفط، وخطر انقطاع إمدادات المياه.

وتستخدم الأطراف المتحاربة طوال الوقت مصطلحات مثل “معركة حلب” لوصف قوة استعدادهم وطول انخراطهم المتوقع وشدة رغبتهم في الانتصار في الحرب مهما طال أمدها.

وباتت الحرب التي كان العديد من صناع السياسات يتغافلون عنها نظراً إلى أن وتيرتها بطيئة لدرجةٍ لا تدعو للقلقمشتعلةً بالقرب من مراكز ساخنة مثل شرقي البحر المتوسط، ويبدو أنها ستنتشر إلى مناطق أخرى.

متى تستيقظ أوروبا؟

يبدو أن أوروبا لا تعبأ بحالة الفوضى وعدم الاستقرار التي تزداد زخماً على أبوابها. أدى غضّ طرف الغرب عما يحدث في ليبيا إلى تحولها إلى ساحة عالمية للحرب مع إدخال مصر والإمارات الطائرات بدون طيار المصنوعة في الصين إلى ساحة الحرب في الشرق الأوسط.

ولا يقوّض هذا فقط احتكار الولايات المتحدة قصير الأجل لتكنولوجيا الطائرات الحربية بدون طيار، بل يُظهر للعالم أيضاً أن الطائرات بدون طيار الصينية، بالإضافة إلى معدات أخرى، مثل المدفعية الموجهة، هي بديل رخيص وفعّال للحرب بالوكالة.

إنه نذير شؤم لمستقبل انتشار الأسلحة والتحديث التكنولوجي الذي سيشهده هذا الصراع الإقليمي الصغير.

لا يصعب التنبؤ بما قد يحدث في الحرب الليبية، لكن استخدام جماعات مرتزقة مختلفة للقتال في البلاد ربما يكون أكثر التطورات المثيرة للقلق في هذه الحرب.

وفي ظل وجود مقاتلين من شركات مرتزقة مثل شركة فاغنر الروسية، وجماعات المتمردين من تشاد، وسوريا، وهؤلاء الذين جندتهم الإمارات بالقوة من السودان ناهيك عن وجود عدد كبير من فرق القوات الخاصة، و”المستشارين العسكريين”فإن التفاعلات بين هذه القوى المختلفة ستكون لها عواقب مرعبة لعقودٍ قادمة.

وينبغي أن يلقن هذا الوضع درساً للجميع بشأن ماهية المستقبل الذي ينتظرنا في ظل خروج الدول ذات القوة المتوسطة المتورطة في الحرب عن السيطرة وغياب أي قوة عادية لديها رؤية طويلة الأجل وقادرة على طرح حلولٍ فعالة.

وبشكلٍ رئيسي، يقود طموح القوى الإقليمية الحرب الليبية، بعد أن اختطفت هذه القوى المرحلة الانتقالية في البلاد وعرقلت مسارها.

وتفسر تفاعلات القوى هذه أسباب تدهور الوضع في ليبيا بهذه السرعة ولماذا يغض الغرب طرفه عما يحدث هناك. ليس خليفة حفتر إلا مجرد واجهة محلية لمشروعٍ إقليمي تروج له أبوظبي.

ويعد هجومه على العاصمة الليبية تتويجاً لخطط بدأت في 2014 كي تجعله يحذو حذو الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

من يحبس الجنيّ؟

إنها محاولةٌ فجّة لحبس الجنيّ، الذي أطلقه الربيع العربي، مرةً أخرى في زجاجته. وإذا كنا لا نزال نتكهن بشأن المنطق وراء هذه الخطة، فإن طموحها واضح للجميع.

لكن ليبيا ليست مصر، وقد أدى التصميم على فرض الحل المصري على الوضع الليبي إلى استدعاء ردة فعل من جانب تركيا المصممة على عدم السماح للإمارات بإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لخطتها.

يقود هذا إلى سباق خطير بين القوى المتصارعة نحو القاع، في دولةٍ تمثل مركز تقاطع مهم بين العالمين العربي والإفريقي، وينبغي أن يكون هذا نداء يقظة لكل هؤلاء المهتمين باستقرار الأوضاع هناك.

وللأسف، فإن هؤلاء الذين يعون أهمية إحداث تغيير جوهري في المنطقة الريعية التي نسمّيها الشرق الأوسط، معزولون عن الصراع. غاب دور الولايات المتحدة في هذه الحرب تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، الذي لن يضر أبداً علاقته بـ”ديكتاتوره المفضل”، أو الإمارات بينما هناك دولةٌ أخرى، وهي إيران، يدير صراعه معها.

في الوقت ذاته، اعتمدت أوروبا على الولايات المتحدة لوقتٍ طويل لدرجةٍ أصابت قوة سياستها الخارجية بالضعف. بالرغم من جهود ألمانيا، التي حاولت أن تفرض النظام على الصراع العالمي بشأن ليبيا، هناك كثيرٌ من العمل الذي لا تستطيع أن تؤديه وحدها.

ورغم الادعاء بتشكيل لجنة جيوسياسية، تفتقر دول الاتحاد الأوروبي للوحدة، والإرادة، والخبرة العملية، التي تمكنها من إشراك الخليج في إيجاد حل للأزمة والمخاطرة بالإضرار بشراكات اقتصادية مربحة من أجل وضعٍ لم يشكل بعد أزمة وجودية بالنسبة لهم.

بل إن الأمم المتحدة وجدت نفوذها مقوضاً إلى حد كبير، إذ أُجهضت خطط السلام التي ترعاها، وتسبب شروع حفتر في قتل أفراد من طاقم عملها وتهديد آخرين دون تفوّه الغرب بكلمة واحدة لأنه غير مستعد لإرباك علاقته بالخليج.

إذا استمرت ليبيا في وضع الحرب المُهمَلة، فسوف تتفاقم التكلفة البشرية بوتيرة سريعة، وسينتشر عدم الاستقرار عبر مناطق لا يمكن احتوائها.

وإذا كانت الحرب المأساوية في سوريا نذيراً لتكرار سيناريو استغلال القوى الأخرى للفراغ الناجم عن غياب قوة محورية كالولايات المتحدة، وإذا كانت الحرب اليمنية تجسيداً لتحول الديناميكيات بين الغرب والخليج، فإن ليبيا هي الصراع الذي تتحالف فيه كل التوجهات الجيوسياسية المتكونة على مدار العقد المنصرم لإضفاء طابع رسمي على الواقع المرير الفوضوي الذي نتعثر فيه، وهي الصراع الذي لا يفهمه أي منا بشكلٍ حقيقي.

***

طارق المجريسي ـ باحث متخصص في الشأن الليبي

__________

مواد ذات علاقة