د. محمد عاشور مهدي

حينما هبت رياح التغيير والثورة على كل من تونس ومصر، أكد المراقبون والمحللون السياسيون أن ثروات ليبيا كفيلة بألا تجعل الشعب الليبي يثور، غير أن الليبيين أنفسهم كان لهم رأي آخر!.

الجزء الرابع

ضبابية الموقف الغربي وانقسام القوى الكبرى

رغم استخدامه كل ما لديه من أوراق، سواء الأمنية منها أو الدعائية، بما في ذلك تسريب أنباء عن قيام دولة إمارة إسلامية في شرق ليبيا بعد سقوط المنطقة بالكامل في يد المتظاهرين والتحذير من تداعيات انهيار النظام على مسألة الهجرة باتجاه أوروبا، وقفت الدول الغربية في معظمها موقفا عدائيا تجاه النظام الليبي، وفي المقابل، وبسبب افتقار العالم الغربي لمعلومات واضحة عن تشكيل ومكونات قوى المعارضة، وتوجهاتها الفكرية، والسياسية، والاقتصادية, والخوف من مرحلة ما بعد القذافي, اتسم الموقف الغربي بدرجة من التردد والضبابية.

ما بين الإقدام على مساعدة قوى المعارضة مالياً وإنسانياً وفرض حظر جوي وتوجيه ضربات جوية لقوات العقيد القذافي ومنشآته العسكرية لحماية المدنيين، والامتناع عن إمداد قوى المعارضة بالعتاد والتسليح اللازم لتمكينهم من مواجهة قوى النظام التي تفوقهم تسليحا، وكذا الامتناع عن إرسال قوات برية لحسم النزاع لصالح المعارضة.

الأمر الذي أضفي درجة من الجمود على أرض الواقع لعدم قدرة أي من طرفي الصراع على حسم النزاع عسكريا لصالحه.

ويبدو أن حالة الجمود العسكري والسياسي التي تشهدها الأزمة الليبية إنما تعكس في جوهرها طبيعة التناقض وتعقد المصالح وتشابكها في النظام الدولي الراهن بعد نهاية الحرب الباردة.

فعلى حين أكدت دول مجموعة البركس (روسيا، الصين، الهند، البرازيل, جنوب أفريقيا) في اجتماعها السنوي الثالث في 14 أبريل 2011 على ضرورة التسوية السلمية للأزمة الليبية، ورفض التدخل العسكري لحلف شمال الأطلنطي في ليبيا.

سارعت فرنسا منذ البداية إلى الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي في بنغازي، ودفعت باتجاه التدخل العسكري في الأزمة الليبية.

وفي حين وقفت الولايات المتحدة موقفاً متردداً في البداية، حاولت بريطانيا اللحاق بركب التدافع الدولي على ليبيا في موقف وسط بين الموقفين الفرنسي والأمريكي.

ولم يخل موقف بعض الدول الأوروبية أعضاء حلف شمال الأطلنطي مثل إيطاليا وتركيا وألمانيا واليونان من التردد والغموض، في ظل تضارب المصـــالح وتعقد الحسابات.

وبالنسبة للموقف الأمريكي فإنه يقع أسير اتجاهات ثلاثة تسود المؤسسات والمصالح الأمريكية.

أول هذه المواقف تعبر عنه الشركات النفطية الأمريكية التي ترغب في الوصول إلى النفط الليبي حتى لو كان الثمن تقسيم ليبيا.

الموقف الأمريكي الثاني تعبر عنه وزارة الدفاع الأمريكية التي لا تريد أن تخوض حرباً لمصلحة الشركات النفطية. ويرتبط الموقف الأمريكي الثالث من الحرب في ليبيا بصقور الإدارة الأمريكية أمثال سوزان رايس وهيلاري كلينتون. ويميل إليه الرئيس أوباما ومؤداه ضرورة رحيل القذافي.

وإذا كان يمكن تفهم الامتناع عن إرسال قوات برية؛ لما يمكن أن يحدثه ذلك من انشقاق داخلي وإقليمي، على الصعيدين العربي والغربي حول دور تلك القوات ومهمتها، فإن التخوف من مرحلة ما بعد القذافي هو ما يفسر تردد العالم الغربي في إمداد قوى المعارضة بالتسليح الكافي لحسم الصراع، وهو ما ينقلنا لمناقشة احتمالات المستقبل.

خيارات المستقبل

يمكن القول أن ليبيا أمام عدة خيارات:

السيناريو الأول:

 ومن بين أسوأ السيناريوهات المحتملة لليبيا هو تقسيمها إلى مناطق شرقية وغربية؛ فالواقع الجغرافي لليبيا الذي أتاح في الماضي – وطيلة قرون طويلة – قيام ثنائية إقليميْ برقة وطرابلس، مع بروز إقليم فزان في الجنوب أحياناً.

والذي على أساسه نشأت ليبيا الحديثة بعد الاستقلال كدولة اتحادية فدرالية قبل التوحّد في دولة مركزية. قد يجعل ليبيا أمام احتمال جدّي للانقسام السياسي, أو لقيام دولة هشة تتعدّد فيها مراكز القوى السياسية والجغرافية، ففي ظل تواصل القتال دون وجود ضربة حاسمة لصالح أي من الأطراف.

يمكن تصور أن ينفرط عقد الوحدة الليبية إلى دولتين أو ثلاث، بحيث يبقى النظام في إحداها. وستكون النتيجة هي المزيد من المعاناة والخسائر في الأرواح، حيث ستسعى القبائل من كلا الجانبين إلى الانتقام لنفسها من أعدائها، وهو ما يهدد بتكرار نموذج العراق أوالصومال أوأفغانستان.

السيناريو الثاني:

فهو ســقوط حكومة العقيد القذافي، وسيطرة قوى المعارضة على كامل أقاليم البلاد، وهو الأقرب للتحقق من وجهة نظرناحال تقديم الدعم للثوار، أو زيادة الضغط على النظام ومحاصرته بما قد يدفع إلى انهياره من الداخل.

ولعل سعي المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية لاستصدار مذكرة اعتقال للقذافي وابنه سيف تأتي في هذا السياق.

 على أن ذلك السيناريو يحتمل داخله عدة سيناريوهات فرعية يمكن إجمالها في أربعة سيناريوهات محتملة على النحو التالي:

1-سقوط الدولة وانقسامها

وذلك بفعل صراعات داخلية بين رفقاء الأمس الذين سيتحولون إلى فرقاء الغد حول مغانم مرحلة ما بعد القذافي، وهو ما قد يقود بدوره إلى انقسام إقليمي في أرض الواقع بين دويلات شرق وغرب وربما جنوب البلاد، خاصة وأن التركيبة السياسية والقبلية والاجتماعية للمجلس الانتقالي تضم خليطا من القوى لا يجمعه من وجهة نظريسوى هدف إسقاط القذافي دونما رؤية واضحة لمرحلة ما بعد نظام القذافي. وهذا السيناريو سيقود حتما لمزيد من الفوضى الداخلية والإقليمية.

لذا سيظل سيناريو الانقسام واردا وقد يتطلب تدخلا دوليا في صورة إرسال قوات حفظ سلام أجنبية، أو شيئًا أكثر فاعلية إلى ليبيا لتوفير الأمن. وهو ما سيثير الكثير من المخاوف والتساؤلات حول من الذي سيقوم بتوفير القوات أو يقبل بتحمل التكاليف.

2- التحول الديمقراطي:

ومؤدى هذا السيناريو قدرة المجلس الانتقالي على دعم نظام التعددية الحزبية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تشارك فيها كافة القوى السياسية على قدم المساواة، وهو ما يقود إلى حكومة ديمقراطية واستقرار داخلي وإقليمي، على أنه يحول دون ذلك السيناريو ميراث وتراكمات نظام العقيد القذافي المعادي لكل ما هو غربي من نظم وفكر، وهو الميراث الذي تشكلت حوله مجموعات لا يستهان بها من المستفيدين وأصحاب المصالح الذين لن يسلموا هم ولا فئاتهم الاجتماعية وأنصارهم القبليين بسهولة بمعطيات ذلك التحول.

3- النموذج اليعقوبي

حيث تسعى قوى المعارضة إلى القطيعة مع كل ما هو قديم من نظم وتشكيلات اجتماعية واقتصادية وسياسية والتغيير الجذري لكل هذه التشكيلات، وإقصائها من الساحة السياسية والاجتماعية، الأمر الذي سيقود حتما إلى توترات وصراعات داخلية وإقليمية طويلة المدى.

4- اختطاف النظام (الدولة)

ويفترض هذا المسار سيطرة إحدى القوى (قبلية، عسكرية، إسلامية،..)، على السلطة واستئثارها بها، مقصية كافة القوى الأخرى من الساحة ترغيبا وترهيبا، بما يسفر في النهاية عن نموذج استبدادي جديد للسلطة والحكم في البلاد.

السيناريو الثالث:

مؤداه قدرة النظام الليبي على التغلب على كل التحديات والتحالفات التي تواجهه استنادا إلى تحالفاته القبلية والإقليمية العربية والأفريقية، وأرصدته المالية،  واستعادته السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد، ورغم ضعف ذلك الاحتمال في ضوء المعطيات الآنية على أرض الواقع السياسي والعسكري، فإنه حال حدوثه سيؤدي إلى كثير من التعقيدات الإقليمية والدولية سيتعين معها غالبا الإطاحة بالنظام من خلال العمل السري وفرض العقوبات أو تعديل سلوكه فحسب من خلال التدابير الاقتصادية وغيرها. وهذا، على أي حال، هو المنحى الذي سبق وأقنع القذافي من قبل بالتخلي عن أســلحة الدمار الشامل.

خلاصة القول

إن هناك العديد من الأطراف الفاعلة والمتغيرات فيما يتعلق بالأزمة الليبية، حتى إنه لا يمكن لأحد أن يعرف ماذا سيحدث لاحقًا، على أن المؤكد، إنه أي كان ما ستسفر عنه الأحداث فإنه سيكون له تداعيات داخلية وإقليمية ودولية، فليبيا ما بعد القذافي لن تكون بحال هي ليبيا القذافي.

فمن الواضح إنه، كما ذهبت إحدى الدراسات بحق، كلما زاد أمد بقاء النظم المستبدة في الحكم، كلما زادت احتمالات عدم الاستقرار بعد زوالهم من السلطة، خاصة إذا جاءت الإطاحة بهم عبر عمل قسري، الأمر الذي يفرض بقوة ضرورة قيام نظم تؤمن بتداول سلمي للسلطة بصورة سلمية ودورية على نحو يحول دون قيام نظم مستبدة طويلة الأمد بالمنطقة.

***

د. محمد عاشور مهدي ـ أستاذ العلوم السياسية المساعد، معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، أستاذ مشارك جامعة زايد أبوظبي دكتوراة في الفلسفة العلوم السياسية.

____________

مواد ذات علاقة