في ظل تبين ندرة ثرواته وفي ظل جَنْيِه لأعلى إيرادات نفطية منذ ستة أعوام

علي اللافي

تمكنت ليبيا من تحقيق إيرادات نفطية بنهاية العام الماضي هي الأكبر منذ ستة أعوام، رغم الاضطرابات التي شهدها القطاع سواء تعلقت بشلل الإنتاج أو تلك المتعلقة بالتصدير إلى الأسواق العالمية بسبب الخلافات وإغلاق الحقول.

ولم ولن يقتصر على ذلك حيث انه ورغم حدة الازمة السياسية واندلاع الحرب الوكالة منذ سنة 2014 فقد تبين للمختصين ندرة ثروات ليبيا الهائلة والنادرة وخاصة على الحدود مع التشاد وفي غريان وفي المثلث الحدودي غدامس.

وكل ذلك يحيلنا عمليا الى استفهامات غريبة نوعا ما، فكيف لبلد يعيش حالة أللاستقرار ان يعرف التعافي اقتصاديا واجتماعيا وكيف تتحرك الدواليب وسط الخلافات والتجاذبات والصراعات؟

أولا، في ليبيا بالذات يمكن وصف الصراع بأنه حرب بالوكالة

هذه الحرب تخوضها أطراف ليبية ضيقة الأفق الاستراتيجي لصالح أذرع إقليمية وهذه الأخيرة هي وكيلة أيضا لأطراف دولية بهدف نهب ثروات البلد الهائلة والنادرة ومن ثم المرور بيسر للعمق الافريقي.

وما يغيبه البعض في تشخيص الأزمة وتحليل خلفياتها وأبعادها انه في ليبيا تحديدا ليس هناك حلول في مدى السنوات القادمة وما يمكن أن يتم في أقصى الحالات هو التوافق المؤقت على مسكنات حلول.

وان كانت ليبيا عمليا هي احدى 10 دول وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية على قائمة ستحرص على دعم الاستقرار فيها ( الخطة وضعت سنة 2020 وهي تضم أيضا بينين – هايتي – ليبيا – غينيا الجديدة….) فان ليبيا لم ولن يُسمح بالاستقرار طويل المدى فيها لأسباب عدة.

والحقيقة أن المبعوث الاممي الرابع غسان سلامة قد كان واضحا عندما قال لمجموعة من المجتمع المدني في مدينة الزاوية “لا يكفي ان تتفقوا كليبيين ليكون هناك حل لأنه أولا وقبل كل شيء يجب ان يتفق المجتمع الدولي على حل وهذا غير متوفر حاليا”.

ويمكن الجزم ان كلام غسان سلامة لا يزال ساريا، وحتى وان تم التوصل الى حل بين يونيو و سبتمبر 2023 فان ذلك سيكون من بين مسكنات الحلول التي شارنا إليها أعلاه.

ثانيا، المؤسسات الليبية ظلت تعمل بمبدأ الحد الأدنى بما فيها دفع الرواتب

على عكس ما يعتقد البعض فان الكثير من المؤسسات الليبية ورغم الحروب والصراعات ورغم حدة الازمة وتفرعها على مسارات أربع (مسار عسكري/أمني – مسار اقتصدي واجتماعي – مسار سياسي وتنفيذي – مسار دستوري) بقيت تشتغل بمربع الحد الأدنى.

والاغرب الذي قد لا يصدقه أي متابع وهو أن مرتبات جنود حفتر في اقصى شرق ليبيا ورغم انهم كانوا يقاتلون جنود قوات الحكومة في طرابلس منذ 2017 بل أنهم قتلوا رجال ونساء وأطفال في طرابلس عندما هجموا على العاصمة في ابريل 2019 ومع ذلك كانت مرتباتهم تصلهم من طرابلس أولا بأول.

وهذا مثال للذكر لا الحصر، وهذا لم يتم عمليا في أي بلد وقد يعلق بعض عرب ان هناك حرب في ليبيا وان هناك كوارث ولكن الثابت أنه لو كان السلاح منتشرا بالشكل الذي انتشر به في ليبيا في أي بلد عربي لكانت هناك كوارث مضاعفة.

ورغم ان الشخصية الليبية غلب عليها ثالوث القبيلة والغلبة والغنيمة فإنها شخصية ثرية وحوارية وقابلة للإيجابية أكثر مما يتصور البعض وطبعا ذلك لا يعني أنها كلها سلبيات.

ولكن أن يدار الكثير من الاقتصاد ( وهو “الاستراتيجي” في رأينا مثله مثل “الثقافي”) فهو أمر مستحب وطبعا غريب في ظل الحروب والصراعات.

ثالثا، رغم الظروف الصعبة، ظلت الإيرادات النفطية مرتفعة

من حيث لغة الاقتصاد والأرقام المستجدة والدالة على ما أكدناه أعلاه قال مصرف ليبيا المركزي أول أمس الأربعاء (04 يناير 2023) إن “الإيرادات النفطية ارتفعت إلى 105.5 مليار دينار (22.01 مليار دولار) في عام 2022 من 103.4 مليار دينار (21.57 مليار دولار) في عام 2021…”

وأشار في بيان نشره على صفحة في فيسبوك إلى أنه خصص 34.4 مليار دينار للمؤسسة الوطنية للنفط في إطار “ترتيبات مالية طارئة ومؤقتة…”، ومعلوم أن مؤسسة النفط الحكومية هي المنتج الشرعي الوحيد للنفط بالبلاد وتتدفق جميع إيراداتها من تصدير النفط عبر البنك المركزي لتمويل القطاع العام.

وكان رئيس مجلس ادارة المؤسسة “مصطفى صنع الله” قد قال في مطلع 2022 إن “نهاية العام 2021 سجلت انتعاشا وحققت أسعار النفط أكبر مكاسبها السنوية منذ العام 2016، مدفوعة بتعافي الاقتصاد العالمي من حالة الركود بسبب وباء كورونا…”.

ومنذ مارس الماضي، تتنافس حكومتان على السلطة، واحدة مقرها طرابلس ويرأسها الدبيبة والأخرى مدعومة من البرلمان ويرأسها فتحي باشاغا، ولذلك تمارس الولايات المتحدة ضغوطا منذ أشهر من أجل وضع آلية رقابة مالية لضمان التوزيع الشفاف والعادل لعائدات النفط الليبي.

رابعا، رغم إغلاق المنشآت النفطية، الإنفاق غطّى جميع القطاعات

منذ سبعينات القرن الماضي اعتمدت ليبيا، التي تملك أكبر احتياطات من النفط في قارة أفريقيا، على عائدات صادراتها من الثروة الهيدروكربونية الى حد كبير، ولكن خلال عقد من النزاعات العسكرية التي أعقبت ثورة 2011، غالبا ما كانت الجماعات المسلحة تقوم بإغلاق المنشآت النفطية أو الإضرار بها.

ودفعت عمليات الإغلاق المتكررة مؤسسة النفط للإعلان عن ظروف القوة القاهرة، وهي خطوة قانونية تسمح لها بالتحرر من التزاماتها التعاقدية بسبب عوامل خارجة عن إرادتها.

وأوضح المركزي في بيانه أن إجمالي الإنفاق بلغ العام الماضي 127.9 مليار دينار (26.7 مليار دولار) بزيادة 49 في المئة مقارنة مع عام 2021 عندما بلغ إجمالي الإنفاق 85.8 مليار دينار (17.9 مليار دولار).

وأكد أن الإنفاق غطّى جميع القطاعات التي تمولها الخزانة العامة للدولة وعددها 36 قطاعا وأن نشر الأرقام يأتي في إطار جهود “لتحقيق أعلى مستويات الشفافية…”.

ولفت كذلك إلى أن مدفوعات الرواتب العامة بلغت 47.1 مليار دينار (9.3 مليار دولار) في العام الماضي ارتفاعا من 33.1 مليار دينار (6.9 مليار دولار) قبل عام.

خامسا، المراهنة على الاستثمارات الخارجية للزيادة إنتاج النفط والإيرادات

تسعى مؤسسة النفط إلى زيادة إنتاجها من النفط إلى مليوني برميل يوميا خلال ثلاث إلى خمس سنوات من مستوى إنتاج يبلغ حاليا نحو 1.2 مليون برميل يوميا.

ومنذ أشهر تحاول ليبيا إقناع شركات النفط الأجنبية بالعودة إلى استئناف عمليات التنقيب والإنتاج بعد تحسن الوضع الأمني، في مسعى إلى تحقيق الإيرادات التي ضيعتها العام الماضي بعد ارتفاع الأسعار بالأسواق العالمية بسبب حرب أوكرانيا.

ويراهن البلد الذي مزقته الحرب على الاستثمارات الخارجية لمساعدته على زيادة الإنتاج بسرعة لتحصيل المزيد من الإيرادات، التي فقدتها منذ 2011 بعد أن تضررت هذه الصناعة، المصدر الأول للعملة الصعبة.

ودعت مؤسسة النفط في نوفمبر الماضي الشركات الأجنبية إلى العودة واستئناف أعمالها في مجالي التنقيب والإنتاج، معللة طلبها بالتحسن “التدريجي” للوضع الأمني في البلاد.

وقالت في بيان نشرته عبر موقعها على الإنترنت، إنها تدعو كافة “الشركات العالمية التي وقعت معها اتفاقيات استكشاف وإنتاج النفط والغاز لاستئناف أعمالها في ليبيا…”، وكانت حكومة الدبيبة قد وجهت الدعوة إلى الشركات الأجنبية للعودة واستئناف أعمالها، كما أبدت استعدادها “لتسهيل العودة وتوفير بيئة عمل آمنة بالتعاون مع الجهات المدنية والعسكرية الليبية”.

سادسا، الخلاصة أن ليبيا يمكن أن تتعافى بسهولة اقتصاديا واجتماعيا

إمكانية التعافي سببها ما تملكه البلاد من أرصدة وثروات ما يسهل مهمة أي حاكم وخاصة في صورة حل الأزمة السياسية بسلاسة ولو جزئيا (بناء على تأكيدنا السابق والمشار اليه أعلاه أن ليس هناك حلول في ليبيا بل مسكنات حلول).

وما لا يمكن تغييبه انه في ليبيا هناك سواحل استراتيجية وموانئ لا توجد في أي بلد متوسطي كما ليس هناك مثيل لمدن مثل بنغازي و صبراتة و مصراتة ومدن أخرى سياحيا والثروات التي في الجنوب وبالقرب من الحدود التشادية وفي المثلث الحدودي مع تونس والجزائر ليس مثلها أي ثروات في العالم.

كما أن الذهب الليبي ذهب نادر وخاصة في غريان وفي الجنوب ولا يُضاهى بأي ذهب في أي بلد في العالم.

طبعا ليبيا تعيش طفرة نفطية منذ بداية الستينات ورفض الملك ادريس السنوسي اقتسام ثروات البلد مع بلدان أخرى وبعضهم يؤكد أن خلع ادريس السنوسي من السلطة كان وراء رفضه لذلك وكانت هناك رواية انه يوم رفضه قال مسؤول غربي لمسؤول ليبي ان “الملك مرض ويكفيه”.

وبغض النظر عن صحة الرواية فان الثابت ان ليبيا بلد تمتد سواحله على المتوسط بآلاف الكيلومترات ويملك تاريخ ممتد من العزة والصمود والأصالة وانه يحد تقريبا كل دول الساحل والصحراء وانه متداخل اجتماعيا وثقافيا مع كل جيرانه تقريبا.

والاغرب من كل ما سبق أنه بلد عرف بمقولة عمرها قرون وهي أن “الجديد دائما يأتي من ليبيا”.

____________

مواد ذات علاقة