د. محمد بالروين

الدولة هي كيان “للقاء الفرقاء” على إقليم محدد المعالم، وسلطة مُوحدة، وسيادة مُعترف بها. بمعنى آخر، هي كيان له إقليم، وشعب، وسلطة، وسيادة، وأي كيان آخر يفتقد هذه الأركان الأربعة، أو أي ركن منها، لا يمكن اعتباره دولة بالمعنى الحديث.

في العالم اليوم هناك أكثر من 75 شعبًا يوجد به حركات تحرر تطالب بأن يكون لها دولة مستقلة. فعلى سبيل المثال، ها هو الشعب “الفلسطيني” يناضل منذ 1948 لتأسيس دولته المستقلة، وها هو الشعب “الكردي” مُقسم بين خمس دول، وليس له دولة مستقلة ذات سيادة خاصة به، وحتى عندما قام الشعب الكردي في كردستان العراق بإجراء استفتاء على تقرير مصيره عام 2017، وكانت نتيجة التصويت 92% لصالح الاستقلال، لم يتحقق له ذلك، ورفضت الدول الاعتراف بدولته!

وإلى جانب الشعبين – الفلسطيني والكردي – هناك شعوب أخرى تحاول تأسيس دولتها المستقلة؛ مثل شعب “كوبك” في كندا، والشعب “الإسكوتلندي” في بريطانيا، وشعب “الباسك” بين فرنسا وإسبانيا، والشعب “الكتالوني” في إسبانيا، والشعب “القبرصي” في قبرص الشمالية، والشعب “الكشميري” بين الهند وباكستان، والشعب “الصحراوي” في جنوب المغرب.

ولكن الأغرب من هذا كله؛ أن تجد اليوم كيانات سياسية مُعترفًا بها دولياً وعضواً في الأمم المتحدة، على الرغم من أنه لا يمكن اعتبارها دولاً حقيقية؛ لأنها ليست في الحقيقة مستقلة، ولا مستقرة، وليس لها سيادة كاملة، وإنما مجرد كيان منهار، ولعل أحسن وصفًا لها هو أنها دول زائفة!

وهنا يُمكن للمرء أن يتساءل: ما المقصود بالدول الزائفة؟! وما هي أهم مؤشرات انهيارها؟ وهل في الإمكان إصلاحها؟

الدولة الزائفة

مصطلح “زائف” يُطلق على شيء أو شخص أو كيان يُنظر له على أنه حقيقي، ولكن في الواقع هو عكس ذلك. أما مصطلح “الزائف” في قواميس اللغة، فهو “الكاذب”، أو “المتظاهر”، أو “الخادع”، أو “الوهمي”. وعليه فالمقصود بمصطلح “الدولة الزائفة” هو وجود كيان سياسي يفتقر إلى ركن (أو أكثر) من الأركان الأربعة الأساسية للدولة؛ أي (شعب، وأرض، وسلطة، وسيادة). بمعنى آخر فالدولة الزائفة ببساطة هي دولة منهارة.

ليبيا نموذجاً

لعله من المناسب أخذ الكيان السياسي الليبي كمثال على زيفه وانهيار مؤسساته ومكوناته! وهنا قد يسأل سائل فيقول: ألا يُعد هذا ظلماً في حق النخب الليبية التي تقود هذا الكيان السياسي؟!

ولتوضيح زيف مصطلح “الدولة” في ليبيا؛ يمكن الاستدلال بنتائج المؤشرات الدولية التي إذا اجتمعت في أي كيان سياسي ستقود حتماً إلى زيف ووهم دولته، وهذه المؤشرات هي: عدم الاستقرار، الهشاشة، الفساد، التفكك، التخلف، التبعية.

أولاً: مؤشر عدم الاستقرار

ويعني عدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وعدم الثقة في كل ما يمكن القيام به، والتصرف بطرق وأساليب متغيرة؛ مما يقود إلى الاضطرابات والصراعات المُدمرة لمكونات المجتمع ومؤسسات الكيان، ويقود ذلك إلى غياب النمو والتطور والنهضة، ويزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي النهاية يقود إلى غياب السلام والعدالة.

بناءً على هذا الفهم، يمكن معرفة درجة عدم الاستقرار في ليبيا خلال العشر سنوات من 2014 إلى 2023، بالاستدلال بنتائج “مؤشر السلام العالمي” الذي يصدره معهد السلام والاقتصاد في مدينة سيدني في أستراليا؛ وهو يتكون من 23 معياراً يُصنف كل معيار من 1 إلى 5 درجات.

ووفقًا لهذا المؤشر، يتضح من نتائج ليبيا خلال العشر سنوات من 2014 إلى 2023، أن الكيان السياسي الليبي يحتل أسفل الترتيب بين دول العالم، فقد جاء ما بين الدول العشر الأدنى في مستوى مؤشر السلام، وفي ذيل قائمة عدم الاستقرار، وغياب الأمن والأمان، ولتوضيح الصورة أكثر؛ لنرى مرتبة ليبيا ودرجتها بخصوص غياب الاستقرار خلال العشر سنوات.

من هذا المؤشر يمكن استنتاج أن مؤسسات الكيان السياسي الليبي لم تكن قادرة على الحفاظ على توازنها، ولا على تحقيق أهدافها؛ مما قاد إلى ضعفها وغياب السلام والاستقرار فيها.

ثانياً: مؤشر الهشاشة

وكان يطلق عليه قبل 2014 “مؤشر الدول الفاشلة”، وهو مؤشر تعده مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، ويصف وضع 187 دولة في العالم، ويستخدم 12 معيارًا لقياس درجة الهشاشة، من أهم هذه معايير؛ سيادة الدولة، والأوضاع الأمنية، ومعدلات البطالة، والخدمات العامة، وحقوق الإنسان.

وتُعرّف الدولة الهشة بأنها “الدولة التي لديها قدرات ضعيفة للقيام بالوظائف الحكومية الأساسية وبناء علاقات مع المجتمع. وعليه ووفقًا لهذا المؤشر، جاءت نتائج ليبيا خلال العشر سنوات من 2014 إلى 2023.

من الواضح أن الكيان السياسي الليبي هو على رأس قائمة أكثر الدول سوءًا و‏تدهورًا، وقد وصف المؤشر الوضع الليبي خلال هذه المدة بـ “الحرج”؛ ومن هذا يمكن استخلاص أن قدرات الكيان السياسي ضعيفة، وغير قادرعلى تنفيذ وظائفه الرئيسية، وأن النخب تفتقر للإرادة السياسية، وغير قادرة على تقديم الخدمات الأساسية للمواطن، وأعتبر عدم كفاءة المسؤولين من أهم العوامل الأساسية لهشاشة الكيان السياسي.

ثالثاً: مؤشر الفساد

ويُعرّف الفساد لغوياً على أنه “تغير الشيء من وضعه الصالح إلى الأسوأ”. أما معجم أوكسفورد الإنكليزي فيُعرف الفساد سياسياً على أنه “انحراف، أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة.

أما اصطلاحًا، فعرفه البنك الدولي على أنه “شكل من أشكال خيانة الأمانة، أو جريمة يرتكبها شخص أو منظمة يُعهد إليها بمركز سلطة؛ وذلك من أجل الحصول على مزايا غير مشروعة.

من هذه التعريفات يمكن استخلاص أهم مظاهر الفساد في أي مجتمع، وهي:

التكسب من وراء الوظيفة العامة، و المحاباة، والرشوة، و المحسوبية، و الابتزاز، و ممارسة النفوذ والاحتيال .

ويمكن توضيح درجة الفساد في ليبيا خلال العشر سنوات من 2014 إلى 2023؛ بالاستدلال بنتائج “مؤشر الفساد العالمي“، الذي يضم 180 دولة، ويستخدم مقياس من صفر (أي فاسد للغاية) إلى 100 (أي نظيف للغاية) درجة. ووفقًا لهذا المؤشر، يتضح أن الكيان السياسي الليبي صُنف من ضمن قائمة الدول العشر الأكثر فسادًا في العالم، ورأت منظمة الشفافية الدولية في هذا الصدد: “إن ليبيا لن تستطيع المضيّ قُدمًا إلا عندما يُوقف القادة حلقة الفساد. وقالت أيضًا: “أن المسؤولين العامين فاسدون ويخدمون أنفسهم بدلًا من الشعب الليبي، وأن النخب تتصارع مع بعضها البعض على موارد النفط.

وأرجعت المنظمة أسباب هذا الترتيب إلى “… أن الغياب المستمر للاستقرار في البلاد حرمها من إجراء الانتخابات، ولم يترك لها مسارًا واضحًا للمُضيّ قُدمًا.

رابعاً: مؤشر التفكك

ويعني انقسام الكيان السياسي وتشرذم مؤسساته إلى درجة أنه لم يكن قادراً على العمل بشكل مُوحد ومُنتج، مما يقود إلى انهيار كل شيء في المجتمع.

ولعل من أهم معالم تفكك الكيان؛ هو تعدد الفصائل الحزبية، والتكتلات السياسية، وكثرة الانقسامات الدينية والعرقية والجهوية، ومن أهم أسباب التفكك الآتي: العناد السياسي، والولاءات العرقية والجهوية والدينية، وضعف البنية الاقتصادية، وعدم الاستقرار، وغياب الحقوق السياسية والمدنية، و انتشار الجريمة والعنف.

خامساً: مؤشر التخلف

والمقصود به عدم إنجاز التقدم المطلوب وفقاً لمعايير مُتفق عليها، ومقارنةً بما تم إنجازه في الدول الحديثة. وللتخلف أبعاد عديدة لعل منها الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، وكذلك التكنولوجي.

وفي هذا الصدد يُعد مؤشر الرخاء الذي يصدره معهد ليغاتوم؛ مؤشر هام لتقييم البلدان من حيث تعزيز رخاء وازدهار سكانها؛ ويعتمد على مجموعة من العوامل؛ من أهمها الثروة، والنمو الاقتصادي، والتعليم، والصحة، والرفاهية الشخصية، ونوعية الحياة، ويضم 167 دولة.

ووفقًا لهذا المؤشر، يتضح أن ترتيب الكيان السياسي الليبي هو في آخر الدول ازدهاراً ورخاءً! ومن أكثرها بؤساً وتخلفاً. وبالإضافة إلى مؤشر ليغاتوم للرخاء، يمكن النظر للوضع الليبي من خلال الاستدلال بنتائج المؤشرات الدولية الآتية:

ـ مؤشر البؤس العالمي الذي يصدره أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز الأمريكي، والذي يصنف “ليبيا في المرتبة 30 عالميًا بين الدول الأكثر بؤساً من بين 160 دولة

ـ مؤشر جودة الحياة لعام 2023، للبلدان الإفريقية الذي تُصدره مجلة “يو أس نيوز” الأمريكية، وقد أخرج ليبيا من تصنيفه، على الرغم من أن الحكومة أنفقت خلال عام 2022 أكثر من 137 مليار دينار” .

ـ المنتدى الاقتصادي العالمي في “دافوس”، الذي يقيس جودة التعليم في 140 دولة، ﺍﻋﺘﺒﺮ ﻟﻴﺒﻴﺎ من بين الدول الغير ﻣُﺼﻨفة، بسبب عدم توافر أبسط معايير جودة التعليم فيها” .

ـ برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة أفاد بأن “حوالي 1.3 مليون شخص في ليبيا يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، فيما يعاني 699 ألف شخص من انعدام الأمن الغذائي”.

سادساً: مؤشر التبعية

والمقصود بالتبعية هي التبادل غير المتكافئ ونتائجه بين البلدان المتقدمة والمتخلفة، وتحدث عندما يكون للدول القوية تأثير كبير على البلدان الضعيفة؛ مما ينتج عنها فقدان الدولة الضعيفة لاستقلالها وسيادتها لصالح الدول القوية، وتصبح الدول الضعيفة تدور في فلك الدولة المسيطرة على سياساتها وثرواتها.

وفقًا لهذا الفهم، يمكن للمرء أن يرى أن جُل الأحزاب والتكتلات والشخصيات المُسيطرة على المشهد السياسي، تجاهر وتتفاخر بتبعيتها للقوى الخارجية، والأسوأ من ذلك أن بعضهم يقضى جُل وقته في تسويق مواقف هذه الدول ويتبنى تصوراتها لمستقبل البلاد.

الخلاصة

مما تقدم يمكن استخلاص أن الكيان السياسي الليبي وفقاً للمؤشرات الست المذكوره أعلاه؛ هو كيان منهار، وزائف، وفاشل، بمعنى هو كيان غير مستقر، وهش، وفاسد، ومُفكك، ومتخلف، وتابع.

وكنتيجة لذلك صُنفت ليبيا من أكثر وأسوأ الدول فساداً في العالم، وحلت في مرتبة متأخرة بين الدول الأقل رخاءً وازدهارًا، وأصبح كيانها السياسي عاجزًا عن القيام بأي شيء، ومعتمد علي الدول الإقليمية والدولية في حل مشاكله.
وعليه فعلى النخب الوطنيةبكل اتجاهاتها – أن تعي هذه الحقيقة ؛ ألا وهي أن الكيان السياسي الموجود في ليبيا هذه الايام “ليس دولة! بمعني آخر، أن الشعب الليبي يعيش مرحلة ما قبل الدولة!

وعلى النخب الوطنية أن تسعى وفي أسرع وقت ممكن لتوحيد صفوفها من أجل تأسيس دولة دستورية مُوحدة وديمقراطية وعادلة. ولعل من أهم الخطوات الضرورية التي يجب اتخادها كالآتي:

ـ ضرورة تحقيق الاستقرار، واعتباره نقطة الانطلاق، لأنه يوفر الأمان والقدرة على التخطيط الاستراتيجي، ويزيد من الشعور بالثقة والتفاؤل في المستقبل.

ـ ضرورة وضع استراتيجية لمكافحة الفساد بكل أنواعه، والتأكيد على أن الإصلاح يبدأ من أعلى الهرم السياسي، ولا بد من الوعي بمخاطر الفساد المُدمرة للمجتمع، والمُنهكة لقدرات الدولة والمُقوضة لشرعيتها ومؤسساتها.

ـ ضرورة التأكيد علي استقلالية القرار السياسي، والاعتماد علي التخصص المهني، وتوظيف التنوع الشعبي، وتحديد الأولويات المطلوبة.

ـ ضرورة تأسيس قوات عسكرية وأمنية وطنية مُوحدة؛ لحماية حدود الدولة وتقوية مؤسساتها، ونشر الأمن والأمان في كل ربوع الوطن؛ لأن غياب هذه القوات كان السبب الرئيسي لتفكك وتشرذم مكونات الكيان السياسي.

ـ ضرورة أخذ زمام المبادرة لتوفير الإمكانات الضرورية، ولتهيئة الظروف المناسبة لاستعادة المؤسسات التعليمية والمهنية المطلوبة وبالشكل الذي تحتاجه الدولة، وبما يتناسب مع مؤشرات جودة التعليم في الدول المتقدمة.

أدعو الله أن يحقق شعبنا دولته التي يحلم بها في القريب العاجل.

***

ا.د. محمد بالروين ـ أستاذ العلوم السياسية وعضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور

_______________

صفحة الكاتب على الفيسبوك

مواد ذات علاقة