بقلم الحسين الشيخ العلوي

يكشف هذا التقرير أبعاد ودلالات ما تشهده العاصمة الليبية، طرابلس، من مواجهات بين ميليشيا اللواء السابع مشاة (التابعة لوزارة دفاع حكومة الوفاق)، وهي المعروفة ليبيًّا بـالكانيات، وبين ميليشيات ثوار طرابلس والنواصي (التابعة لداخلية الوفاق)، كما يرصد تأثير ذلك محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.

الجزء الأول

منذ سقوط نظام القذافي، صيف العام 2011، توارى عن الأنظار معظم أفراد الجيش الليبي البالغ عددهم حينئذ 76 ألف عنصر كانوا موزعين على وحدات الجيش النظامي، إضافة إلى أربعين ألفًا من قوات الاحتياط، وحل محلهم 25 ألف مقاتل من الثوار الذين حاربوا قوات نظام القذافي.

وبعيد أشهر قليلة تضاعف هذا الرقم ثماني مرات نظرًا لانضمام عشرات الآلاف من الشباب الليبي إلى الميليشيات المسلحة التي نبتت كالفطر في عموم ليبيا تحت أسماء دروع وسرايا وكتائب أمنية، ليصل العدد في منتصف العام 2012 إلى ما يزيد قليلًا على مئتي ألف مقاتل، يشكلون نسبة 3% من مجموع سكان ليبيا البالغ 6.5 ملايين نسمة.

وبلغ عدد التشكيلات المسلحة الميليشياوية 726 تشكيلًا، يوجد ما يزيد على نصفها في غرب ليبيا.

وتفتقر هذه التشكيلات المسلحة، وجل أفرادها من الشبان محدودي الثقافة والمتسربين من المدارس، لروح الانضباط والالتزام التي يتصف بها عادة أفراد المؤسسة العسكرية والأمنية، بل إن عددًا لا يستهان به من أفراد هذه الميليشيات هم أصحاب سوابق عدلية وفارُّون من السجون بعيد سقوط النظام السابق.

وأثبتت تجارب ليبيا خلال السنوات الفائتة أنه يصعب السيطرة على أفراد هذه التشكيلات الميليشياوية.

وقد عملت الحكومات المتلاحقة منذ 2012 على إضفاء الشرعية على هذه التشكيلات المسلحة ذات الطابع المدني التي حلَّت تدريجيًّا محل الجيش والشرطة اللذين تم حلهما بعيد سقوط النظام السابق، كما تم إلحاق هذه التشكيلات بوزارات الدفاع والداخلية.

وقد قامت عدة أحزاب وتنظيمات سياسية بالتحالف مع هذه الميليشيات بل واتخاذها أذرعًا عسكرية؛ الأمر الذي جعل هذه الميليشيات تتغول حد أنها أصبحت تفرض إرادتها على الحكومة والبرلمان بقوة السلاح، مما جعلها خطرًا دائمًا على أرواح وحياة المدنيين، فضلًا عن أنها باتت تشكِّل تهديدًا جديًّا على الدولة المدنية في ليبيا.

كانت السنتان 2012-2013 بمنزلة شهر عسل لهذه الميليشيات التي أغدقت عليها الحكومات المتعاقبة في موجة فساد غير مسبوقة أفضت إلى تبخر مئات المليارات من مدخرات الأجيال في ليبيا.

ومع نضوب الخزانة العامة وشح السيولة جرَّاء توقف تصدير النفط مصدر الدخل الوحيد للدولةدبت الخلافات بين الميليشيات داخل المدينة الواحدة نظرًا إلى أن تقاسم النفوذ لم يعد ممكنًا في ظل تدنى الموارد، من هنا عرفت ليبيا موجة عنف تتجدد كل أشهر في جميع مناطقها كان أبرزها عملية فجر ليبياالتي انطلقت في 13 يوليو/تموز 2014 في مدينة طرابلس، تلك العملية التي كرست سيطرة الميليشيات ذات التوجه الإسلامي على العاصمة.

الوجود الميليشياوي في غرب ليبيا

مكَّنت عملية فجر ليبياالتشكيلات المسلحة التابعة لمدينة مصراتة من السيطرة على العاصمة طرابلس وضواحيها، كما جعلت كتائب مصراته تبسط نفوذها على جهات عديدة في غرب البلاد وجنوبها.

وقد تمخض اتفاق الصخيرات بالمغرب، المبرم بين الفرقاء السياسيين الليبيين في 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، عن تشكيل المجلس الرئاسي الموسع الذي انبثقت عنه حكومة الوفاق الوطني، وقد ترأس فايز السراج المجلس الرئاسي والحكومة معًا.

وقد ظلت تلك الحكومة تمارس مهامها من مقرها في الجارة تونس من 19 يناير/كانون الثاني 2016 حتى أواخر مارس/آذار من نفس السنة، لتنتقل بعد ذلك على متن فرقاطة إيطالية إلى العاصمة طرابلس، وسط رفض من حكومة الإنقاذ الوطني بالغرب الليبي والتي كان يترأسها يومئذ خليفة الغويل.

أدى دخول حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، إلى طرابلس إلى موجة حادة من الاصطفاف الميليشياوي؛ حيث اختارت معظم كتائب مصراتة وتشكيلاتها الوقوف مع حكومة الإنقاذ التي يسيطر عليها متشددون إسلاميون، في حين وقفت التشكيلات المسلحة الطرابلسية مع حكومة الوفاق الوطني،

وأدى هذا الأمر إلى تصاعد وتيرة الخلاف الذي قاد إلى موجة عنف مسلح دام ستة أيام، وتمخضت عن تلك الموجة سيطرة كتائب طرابلس وتشكيلاتها على العاصمة، وقد سلَّمت حكومة الإنقاذ بهزيمتها، وأعلنت، في السادس من أبريل/نيسان 2016، أنها قررت التخلي عن السلطة تأكيدًا على حقن الدماء وسلامة الوطن من الانقسام والتشظي“.

ويبدو أن السراج لم ينس لكتائب مصراتة وقوفها مع حكومة الإنقاذ ضده، فعمل طيلة سنة على تقوية وشرعنة الميليشيات التي وقفت معه، ومعظمها ميليشيات من داخل طرابلس والقليل منها خارج المدينة مثل ميليشيا الكانيات التي ينحدر معظم أفرادها من منطقة ترهونة (جنوب شرق طرابلس).

بل وصل الأمر حدَّ تأليب ميليشيا ضد أخري، مما أدي إلى احتكاكات ومناوشات بين هذه الميليشيات، بدأت تلك الاحتكاكات مطلع ديسمبر/كانون الأول 2016 وبلغت ذروتها في معارك طاحنة، تمخضت عن خروج كتائب مصراتة من مدينة طرابلس وعودتها إلى مدينة مصراتة في منتصف مارس/آذار 2017، بعد اتفاق بالخصوص حضره عضو المجلس الرئاسي، أحمد حمزة، ووزير الدفاع، العقيد المهدي البرغثي، ووزير الداخلية، عارف الخوجة، وآمر الحرس الرئاسي، العميد نجمي الناكوع، وعضو مجلس النواب، فتحي باشاغا، وعميد بلدية طرابلس المركز، وعميد بلدية سوق الجمعة، وعميد بلدية مصراته، وآمر المنطقة العسكرية بطرابلس، ومجلس أعيان بلدية مصراته للشورى والإصلاح، ومجلس أعيان طرابلس الكبرى للمصالحة وعدد من أمراء التشكيلات المسلحة من طرابلس ومصراته، على رأسهم كل من هاشم بشر وعبد السلام زوبي.

وألحق فائز السراج تبعية هذه الميليشيات بوزارتي الدفاع والداخلية وقيادة الأركان بحكومة الوفاق.

وخلال السنة الأولى من عهدة حكومة الوفاق الوطني في طرابلس تغولت الميليشيات الطرابلسية وسيطرت على مفاصل الدولة، وأبرزها مصرف ليبيا المركزي، وأصدر ديوان المحاسبة الليبي تقريرًا صادمًا عن حجم الفساد المالي خلال العام 2017 في ليبيا، كان أبرزه حجم الفساد في الاعتمادات المستندية في طرابلس، والذي بلغ 7.6 مليارات دولار من أصل 10.6 مليارات دولار، مخصصة للموازنة الاستيرادية لعام 2017، وهي أموال ذهبت إلى جيوب قادة وأمراء الميليشيات المسلحة في طرابلس،

هذا فضلًا عن ضعف حكومة الوفاق أمام تغول وسطوة الميليشيات المسلحة، لدرجة أن الأخيرة تفرض إرادتها على الحكومة في أمور سيادية كتعيين السفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي.

تجدد العنف في العاصمة طرابلس

في الساعات الأخيرة من يوم الأحد، 26 أغسطس/آب 2018، كما في فجر اليوم التالي، استيقظ سكان طرابلس فزعين على دوي انفجارات شديدة أحالت سماء جنوب العاصمة إلى ساحة حرب لا تزال مستمرة حتى لحظة كتابة هذا التقرير، بين اللواء السابع مشاة ميليشيا الكانياتمن جهة وبين الميليشيات الطرابلسية المختلفة: كتيبة ثوار طرابلس (ميليشيا هيثم التاجوري)، والدعم المركزي بوسليم، وميليشيا غنيوةكتيبة النواصي، وقوات الردع الخاصة ميليشيا عبد الرؤوف كارة، وكتيبة 301 “ميليشيا لواء الحلبوصمن جهة ثانية، مخلِّفة حتى الآن عشرات القتلى والجرحى.

وهو صراع نفوذ ومصالح ضارٍ بين الميليشيات ويعتبر الأعنفَ من نوعه للسيطرة على العاصمة طرابلس منذ سقوط النظام السابق وانهيار مؤسسات الدولة.

ولعله من المفيد الوقوف على تكوين قوة هذه الميليشيات، وهي مكونة أساسًا من:

اللواء السابع مشاة الكانيات” 

تشكَّلت ميليشيات الكانيات في أواخر العام 2013 في مدينة ترهونة من قبل ستة أشقاء، هم

1. محمد خليفة الكاني (45 سنة): رئيس المجلس العسكري لمدينة ترهونة، ورئيس ميليشيا الكانيات (المعروفة باسم اللواء السابع مشاة). 

2. محسن خليفة الكاني (33 سنة): قائد ميداني بميليشيا الكانيات.

3. عبد الرحيم خليفة الكاني (37 سنة): قائد ميداني بميليشيا الكانيات، وآمر سرية أمن ترهونة، وصاحب مول الشقيقة (أكبر مركز تسوق بمدينة ترهونة).

4. عبد العظيم خليفة الكاني (21 سنة): قائد ميداني بميليشيا الكانيات.

5. عبد الخالق خليفة الكاني (49 سنة): الواجهة القبلية لقوات الكانيات.

6. معمر خليفة الكاني (40 سنة): موظف سامٍ بوزارة المالية بحكومة الوفاق، ومسؤول عن تبييض أموال ميليشيا الكانيات.

ومن الشائع عند العارفين بقيادة هذا الفصيل أن ثلاثة من الإخوة الكانييتبعون التيار السلفي المدخلي.

وقد قام الإخوة الكاني بالسيطرة على مقر كتيبة الأوفياءالعسكرية بترهونة (كتيبة المشاة 124) واستحوذوا على الأسلحة الثقيلة الموجودة بها، وتمكنوا من تشكيل قوة عسكرية تتكون أساسًا من عناصر من قوات النخبة في النظام السابق مثل اللواء 32 معزز، وكتيبة امحمد المقريف، إضافة إلى عدد من خريجي الأكاديميات والمدارس العسكرية بالمدينة.

وقاموا بطرد جميع الميليشيات الأخرى من مدينة ترهونة، وعملوا على استقطاب العسكريين في المنطقة الغربية والجنوبية من ليبيا، الذين كان معظمهم متواريًا عن الأنظار خوفًا من الملاحقة أو المتابعة.

وتم تحويل ميليشيا الكانيات إلى تسمية اللواء السابع مشاةبموجب قرار رقم 149، بتاريخ 7 فبراير/شباط 2017، الصادر عن وزير الدفاع بحكومة الوفاق الوطني بطرابلس، وأُلحق بالحرس الرئاسي التابع لقيادة الأركان.

ويتكون اللواء السابع مشاة من عدة كتائب ووحدات عسكرية، أبرزها: كتيبة البركي والكتيبة 22 التي تتبع لقوات الكرامة ببنغازي والتي تتكون أساسًا من بقايا اللواء 22 في الجيش الليبي، ويقوده العميد الصيد الجدي، وهو أحد أبرز ضباط النظام السابق. ويقدر أفراد منتسبي اللواء السابع مشاة بخمسة آلاف عنصر معظمهم أفراد من عناصر المؤسسة العسكرية السابقة.

كما أن القادة الحقيقيين للواء السابع مشاة ميليشيا الكانياتهم الإخوة الكاني وكلهم مدنيون.

وقد تم حل اللواء السابع مشاة بقرار رقم 79 من السراج، القائد الأعلى للجيش الليبي، في الثاني من أبريل/نيسان 2018، إلا أن ميليشيا الكانيات رفضت قرار الحل وظلت متمسكة بكونها جزءًا من القوات المسلحة الليبية.

وبين فترة التشكيل والحل قرابة سنة وأربعة أشهر، وكان اللواء السابع مشاة يتلقى رواتب عناصره من حكومة الوفاق الوطني، والبالغة 15 مليون دينار في الشهر (أي ما يعادل 2.42 مليون دولار). ويبسط اللواء السابع مشاة سيطرة مطلقة على مدينة ترهونة حيث ينحدر منها معظم قادته، وتمتد منطقة نفوذ اللواء السابع مشاة إلى منطقة النواحي الأربع وقصر بن غشير بجنوب العاصمة طرابلس.

ميليشيات طرابلس

تسيطر على طرابلس أربع ميليشيات رئيسة، تتقاسم النفوذ والسيطرة على المدينة ولكل منها أحياؤها ومجال سيطرتها، ويتبعها قرابة العشرين تشكيلًا مسلحًا صغير العدد وقليل العتاد، وعادةً تُوكَل إليها أعمال الحرابة والبلطجة والجريمة المنظمة (مخدرات، هجرة غير شرعية، خطف، ابتزاز). وهذه الميليشيات الأربع الكبرى، هي:

1. كتيبة ثوار طرابلس: بقيادة هيثم القبايلي التاجوري وهي من أكبر الميليشيات المسلحة المسيطرة على العاصمة، والأكثر تأثيرًا، وتضم 9 مجموعات مسلحة منتشرة في غالبية المناطق بالعاصمة، ويتراوح عدد أفرادها بين 2800 إلى 3500 عنصر. تسيطر على مناطق كبيرة من العاصمة وارتبط اسمها بحكومة الوفاق بطرابلس.

تسيطر على مناطق تاجوراء والفرناج وعين زارة ومنطقة صلاح الدين وخلة الفرناج ووادي الربيع حتى معسكر اليرموك، وبئر الأسطي ميلاد، وزناتة والدريبي وبعض من بوسليم وقصر بن غشير. وتتكفل هذه الميليشيا حاليًّا بحماية المجلس الرئاسي والمواقع الاستراتيجية المهمة بالمدينة كمقر المجلس الرئاسي، ووزارات أخرى مهمة، تحت اسم قوة الإسناد الأمنيفي العاصمة، وتتبع وزارة الداخلية لحكومة الوفاق.

2. قوة الردع الخاصة: وهي الميليشيا الأكثر تسليحًا، وهي أحد أكبر المجموعات العسكرية المسلحة في طرابلس ويقودها عبد الرؤوف كارة، وهو شيخ سلفي. ومقرها داخل قاعدة معيتيقة الجوية في الجهة الشمالية الشرقية من طرابلس حيث يوجد المطار الوحيد الذي يعمل في العاصمة.

وهذه القوة المسلحة ذات توجه سلفي وتتكون من حوالي 1500 عنصر وتحل محل الشرطة في المدينة في حفظ الأمن فضلًا عن دورها في القضاء على العناصر المتشددة المتواجدة بالعاصمة. وتتبع لوزارة داخلية حكومة الوفاق.

3. كتيبة النواصي: بقيادة عائلة قدور، وتُعرف أيضًا بالقوة الثامنة. وتتكون من حوالي 500 عنصر تتواجد في منطقة سوق الجمعة القريبة من مطار معيتيقة؛ حيث تلعب دورًا مهمًّا في تأمين وحماية مقارِ حكومة الوفاق، وتتبع لداخلية الوفاق.

4. قوة الردع المشتركة والتدخل السريع: التابعة لجهاز الأمن المركزي، بقيادة عبد الغني الككلي، وتُعرف بميليشيا غنيوة أو ثوار أبو سليم. تتواجد في منطقة أبوسليم وهو أحد الأحياء الأكثر اكتظاظًا بالعاصمة طرابلس، وتتبع لوزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني.

البقية في الجزء الثاني

***

الحسين الشيخ العلوي ـ باحث وجامعي موريتاني مهتم بالشأن المغاربي وقضايا الساحل.

____________

مواد ذات علاقة