بقلم فريدريك ويري و كاثرين بولوك

سيتطلّب أي حل لفقدان الأمن على الحدود التونسيةالليبية له حظ من الديمومة مقاربة أوسع، تنطوي على إقامة مؤسسات إصلاحية، وتوفير فرص تنمية بديلة، ومكافحة الفساد، وترقية سياسات التجارة الثنائية.

الجزء الأول

لطالما كانت الحدود التونسيةالليبية المعبر الرئيس للاتجار غير المشروع بالسلع والبشر. وتُنفق وزارة الدفاع الأميركية، في إطار الجهود لتوفير الأمن على هذه الحدود، نحو 20 مليون دولار على مجسّات وكاميرات متطوّرة؛ وهو مبلغ يُسحب من صندوق مشترك أسسته الوزارة مع ألمانيا في أيلول/سبتمبر 2017.

على رغم ذلك، ومثله مثل كل الجهود التي بُذلت حتى اللحظة، لايُنتظر أن يُعالج هذا المسعى الجديد انفلات الأوضاع المُزمن على الحدود، ولا أن يستأصل الأسباب العميقة لفقدان الأمن هناك. لماذا؟ لأن التركيز وحسب على تحصين الحدود، يقفز فوق الحقائق الاجتماعيةالاقتصادية الكامنة في تلك المنطقة، حيث لاتزال عملية عبور الحدود وسيلة عيش ومصدر رزق رئيس للسكان.

ولذا، سيتطلّب أي حل له حظ من الديمومة مقاربة أوسع، تنطوي على إقامة مؤسسات إصلاحية، وتوفير فرص تنمية بديلة، ومكافحة الفساد، وترقية سياسات التجارة الثنائية.

ديناميكيات الحدود التونسيةالليبية

تحتل النشاطات غير الرسمية في كلا البلدين شطراً وازناً في الاقتصاد الوطني. فالحكومة التونسية، وهي الآن شبه ديمقراطية وغريرة، لديها حافز قوي لوضع يدها على هذا الدخل، عبر منع التهريب وتحصين الحدود.

لكن في ليبيا، ثمة نقص في كل من الحافز والقدرات معاً، بسبب افتقادها للوحدة السياسية، وهشاشة المؤسسات، ووجود ميليشيات متنافسة، لا بل ضارية، تتنازع السيطرة على الحدود لحصد الأرباح من التجارة غير المشروعة.

والواقع أن المسؤولين الأمنيين وشبه الأمنيين يتواطئون أحياناً في عمليات التهريب. ويمكن القول أيضاً إن الجهود الثنائية لتأمين الحدود كانت، بسبب تباين المشهد السياسي والأمني في كلا البلدين، متخلخلة، وتدريجية في أفضل الأحوال، كما يُبدي كلا الطرفين فيها مقاومة لهذه الجهود في بعض الأحايين.

يمثّل الاقتصاد غير الرسمي التونسي، وفق العديد من التقارير، ما بين 39 و50 في المئة من الداخل المحلي الإجمالي، فيما يتركز أكثر من نصف النقود المتداولة في ليبيا في القطاع غير الرسمي. وبالتالي، ليس مفاجئاً أن تكون التجارة الثنائية غير الرسمية عاملاً مهماً لكلا البلدين، حيث قدّرها البنك الدولي بنحو 498 مليون دولار في العام 2015، بينها زهاء 200 مليون دولار للسجائر، و148 مليون دولار للوقود، و150 مليون دولار لسلع أخرى.

وفيما تراجع تهريب بعض السلع الاستهلاكية (الإلكترونيات، والملابس، والأدوات المنزلية) في الفترة بين 2013 و2015، كانت هناك زيادة ملحوظة في تهريب التبغ والوقود خلال الفترة نفسها.

علاوة على ذلك، يُعتقد أن حجم الأسواق كبير: على سبيل المثال 40 في المئة من لفائف السجائر المهرّبة التي يتم استهلاكها سنوياً في تونس، تأتي من ليبيا، فيما شكّل الوقود المهرّب عبر الحدود 17 في المئة من استهلاك تونس في العام 2014.

في حين يعزو البنك الدولي تراجع تهريب بعض السلع إلى التدابير الأمنية عبر الحدود، إلا أن سياسات تونسية أخرى أدّت، على العكس، إلى تفاقم تجارة التهريب.

ومما يزيد الطين بلّة نقص التواصل بين قوات الأمن والجيش التونسيين، إذ يُقال أن الجيش يتمنّع عن مشاطرة قوات الأمن التونسية الأخرى المعدات والمعلومات (التي يحصل عليها من مساعدات أجنبية)، مايعيق عمل الدوريات عبر الحدود. كذلك، تُعرقل الميليشيات الليبية، التي تجني غالباً أرباحها مباشرة من التجارة غير الشرعية، جهود الحكومة الليبية في هذا الصدد.

فمنذ العام 2011، أحبطت الميليشيات المتنافسة العاملة على طول الحدود في ليبيا (يُقدّر عددها بنحو 15 ميلشيا) الجهود لتعزيز أمن الحدود، وازدادت تنافساتها ضراوة على أرباح التهريب، بسبب غياب وجود رد فعل موحّد من الحكومة الليبية. ومؤخرا، كانت ميليشيات من بلدتي زوارة والزاوية الليبيتين المجاورتين تخوض غمار اشتباكات متّصلة للسيطرة على نقطة عبور حيوية في رأس جدير. ويعكس النفوذ المتنامي للجماعات السلفية في هذا النزاع الحدودي مدى توسّع مثل هذه المنظمات عبر القطاع الأمني الليبي، ويضيف عامل تعقيد إضافياً على المشهد الأمني الحدودي المأزوم أصلا.

أدى اشتباك آخر (تمثّل في هجوم اللواء أسامة الجويلي على أبو كماش، وهي بلدة ليبية قرب رأس جدير) إلى إغلاق المعابر الحدودية في كانون الثاني/يناير2018 لنحو 24 ساعة على الأقل، ودفع بعض مسؤولي الحدود الليبيين إلى اللجوء إلى تونس.

وبعد وقف إطلاق النار وأيام عدة من المفاوضات، توصّل الجويلي وحكومة الوفاق الوطني الليبية إلى اتفاق تسلّمت بموجبه الحكومة الرسمية زمام السيطرة، لكن الاتفاق تطلّب أيضاً أن يقوم الجويلي بالمراقبة ودمج الجماعات المسلحة.

بيد أن هذه التسوية لم تر النور على الأرض وأثارت توترات عميقة في الزوارة. فقد اتّهم رئيس البلدية حافظ بن ساسي الجويلي بانتزاع السيطرة عنوةً من أيدي القوات الأمازيغية في الزوارة، وتساءل عما إذا كانت حكومة الوفاق الوطني هي التي أمرت بشن هذا الهجوم.

كما أبلغ الجويلي نفسه محطة إذاعة ليبية بأن هجومه كان جزءاً من خطة أوسع، لفرض سيطرة الدولةعلى طول الطريق المؤدي إلى الحدود.

ويجادل ضابط ليبي آخر، هو العميد حافظ الغالي، بأن حرس الرئاسة، وهي وحدة عسكرية مُلحقة بحكومة الوفاق الوطني، بأن الحرس عيّنه سابقاً لحماية حركة العبور العام 2016.

لكن ما يبدو مرجحاً هو أن الحادث المبهم في أبو كماش، كان محاولة فاشلة من جانب الحرس الرئاسي لاستخدام الجويلي وقواته لفرض سلطته على الحدود. وهذا يميط اللثام مرة أخرى عن مدى عمق التداعيات السلبية للمنافسات المحلية والفوضى السياسية على استقرار مناطق الحدود.

ثمة عامل آخر يفاقم الأمور هي سردية مكافحة الإرهاب المتعلّقة بإنفاذ الأمن على الحدود، والتي مكّنت الميليشيات المحلية من تعزيز سطوتها بحجة منازلة الحركات الجهادية العابرة للحدود الوطنية.

فخلال إحدى زيارات المؤلفّين لمدينة صبراتة، غداة الضربة الجوية الأميركية في وقت مبكّر من العام 2016 على منشأة تدريب تابعة للدولة الإسلامية المُعلنة ذاتياً كان يديرها مواطن محلي من صبراتة، لاحظنا أن قائد ميليشيا يدعى أحمد الدباشي (المُكنّى بـالعمو“) حشر نفسه في خندق واحد مع عشائر وجماعات مسلحة منافسة ضد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية داخل البلدة وضواحيها.

وقد ساعدته هذه الحملة على جعله القطب الأبرز لعمليات التهريب في المنطقة (إلى حين فراره في أواخر العام 2017 وتحوّله إلى هدف لعقوبات فرضها مجلس الأمن الدولي في حزيران/يونيو 2018، بسبب تورطه في تهريب البشر).

كذلك، ألقت معارك صبراتة ضد الدولة الاسلامية بظلال من الشكوك على جالية العمال التونسية المغتربة، لأن العديد من مقاتلي الدولة الإسلامية كانوا مواطنين تونسيين.

لكن، وعلى الرغم من هذه البيئة المُضطربة، لايعتبر العديد من السكان التونسيين والليبيين القاطنين على طرفي الحدود توسّع الجهود الأمنية تطوراً إيجابيا.

على سبيل المثال، قال الكثير ممّن استُمزجت آراؤهم في استطلاع أُجري العام 2016 في بلدتي الذهيبة وبنقردان التونسيتين الحدوديتين، إن إحكام القيود وغياب التنمية المحلية يشكلان خطراً أكبر من الحركة الجهادية.

وهذا يعود إلى أن 90.2 من السكان في بنقردان و89.6 في المئة من قاطني ذهيبة يُطلّون على الحدود بكونها مورداً ماليا.

أدى نفور السكان الليبيين والتونسيين من عمليات إغلاق الحدود وإنفاذ الأمن فيها، إلى اندلاع احتجاجات متتالية، وتفاقم ظواهر الغضب والحنق، وصولاً حتى إلى نشوب أعمال عنف. وكما لاحظ تقرير للبنك الدولي في العام 2017، تُعتبر السلع المهرّبة والتجارة غير المشروعة في البلدات الحدودية الليبيةالتونسية مورد رزق أساسيا، خاصة في ظل صعوبة الحصول على وظائف أو موارد دخل بديلة.

في تعبير فاقع عن هذا الإحباط، عمد العديد من المحتجين التونسيين في حزيران/يونيو 2018 إلى إغلاق  الطريق الرئيس في بنقردان الذي تستخدمه الشاحنات لتصدير البضائع إلى ليبيا، بحجة وجود سوء معاملة في نقطة الحدود في رأس جدير، وكذلك بسبب السياسات التجارية الليبية الظالمة“.

وفي تموز/يوليو، وحين انقلبت هذه الاحتجاجات إلى مضايقات وهجمات على الليبيين الذين يعبرون بنقردان، عمدت الحكومة الليبية إلى إغلاق الحدود، ما أشعل لهيب توترات دبلوماسة مع تونس.

ومع قدوم منتصف آب/اغسطس، انخرطت بلديتا بنقردان والزوارة في محادثات لإعادة فتح الحدود، تمخّضت عن تشكيل لجنة ثنائية مشتركة.

آخر إغلاق للحدود جرى غداة وقوع حادث مشابه في أوائل 2017، حين عرقل محتجون تونسيون العبور عبر الحدود في بنقردان، بعد جهود قام بها الليبييون للإطباق على التهريب عبر الحدود، ما خلق ما أسماه تونسيون محليون تضييقاً على قدرتهم على ممارسة التجارة“.

وتُظهر أشرطة فيديو التُقطت لبعض هذه الاحتجاجات التي دامت أسابيع عدة التونسيين وهم يشعلون النار في الإطارات ويرشقون بالحجارة قوات الأمن، التي ردّت بإلقاء قنابل الغاز.

كما انخرط التجار في بنقردان في اعتصامات لأشهر عدة، على أمل ممارسة ضغوط على السلطات، من خلال تعليق الأعمال والنشاطات الاقتصادية.

وفي محاولة لكبح جماح هذه الاحتجاجات، توصّلت سلطات الحدود الليبية والتونسية إلى اتفاق بعد خمسة أيام من المحادثات في ليبيا.

بيد أن الأطراف الليبية الأخرى غير المشاركة في المحادثات رفضت بسرعة وعلناً هذا الاتفاق، مُدّعية أنه أعطى التجار التونسيين مزايا مالية كبيرة على حساب الليبيين، من خلال إضفاء الشرعية على عمليات التهريب في نقطة العبور في رأس جدير.

البقية في الجزء الثاني

***

فريدريك ويري ، زميل أقدم ، برنامج الشرق الأوسط

كاثرين بولوك كانت زميلة في عام 2017-2018 في جامعة كارنيجي
_______________

مواد ذات علاقة