بقلم أحمد الشيباني

الكلام من اختصاص المعرفة أما الاستماع فهو امتياز الحكمة” أوليفر وندل هولمز

من ضمن كثيرٍ من مفارقات البيئة الليبية أن يقف الإنسان أمام أكثر من مرآةٍ واحدةٍ بغية أن يقيم نفسه من خلالها فالمنطق هو أن تكون الصورة مباشرة وغير مباشرة ومن أكثر من زاوية ولكن على أن تكون الشخصية واحدة والمعايير معروفة وثابتة.

فتعدد زوايا النظر عادة ما يفسح المجال أمام تقييم أشمل وأعم وأكثر دقة من الناحية التقييمية لتلك الشخصية , خاصة عندما يتعلق الأمر بإجراء إختبار ذاتي يُراد من خلاله البحث عن نسبة الأداء الفردي للمواطن تجاه مجتمعه أو بتعبير أشمل وطنه.

أما عندما تأخذ الشخصية أشكالاً متعددة ومتناقضة في نفس الوقت فإن الوصول إلى نتائج إختبارية لها في مدى إرتباطها بقضية الوطن ونسبة الأداء في الميدان نفسه يصبح كل ذلك أمراً صعباً للغاية.

ولنعزز كلامنا هذا بمثال من ضمن عديد الأمثلة التي ينبغي الإستدلال بها من أجل البحث والوصول إلى حلول ناجعة لها , ومنها مدى الإنتماء للوطن أوالقبيلة , فالرد الفوري لكل المتخندقين وراء شعارات القبلية هو أن لا تناقض بين الوطنية والقبلية وربما تكون القبلية عاملاً مساعداً لبناء الوطن وهي عنصر إرتباط إجتماعي وجمعي أقوى من عدم وجودها – على حد تعبير البعض – ويبدأ القفز على الأحداث التاريخية – والتي تحتاج أيضاً إلى مراجعة منهجية وفكرية وموضوعية كي تكون مقنعة – وتبدأ عندها المزايدات التي لا تنتهي … وغير ذلك كثير.

وفي نفس الوقت وإذا ما نظرنا للحالة الليبية وتتبعناها بشكل علمي – ويكون ذلك من خلال الدراسات العلمية والأكاديمية و إقامة الندوات وكذلك المؤتمرات العلمية وجلسات النقاش المجتمعية المختلفة – لوجدنا أن التناقض في ميكانيكية العمل المجتمعي أو الأداء المجتمعي معطلة في كثير من مناحي الحياة وخاصة في المدن والمناطق التي يسودها النفس القبلي المتشبث بالقبلية.

وهنا وجب علينا التفريق بين مصطلح القبيلة ومصطلح القبلية فالقبيلة هي إرتباط برابطة الدم والتناسل بين أفرادها نتجت عنها صلات قربى بينهم زادت من تواصل أفرادها فيما بينهم أكثر من غيرهم، وهي ربما يكون لها محاسن يلتمسها الشخص من حين لآخر خاصة عند ظهور أي عرقلة بين الأقرباء في أي قضية من قضايا الحياة الإجتماعية التي يمكن معالجتها بين ذوي القرابة.

أما القبلية فهي التعنصر للقبيلة ورفع شعار التباهي بها المنتمين للقبائل الأخرى والمزايدة المستمرة والمفاخرة بها وبأمجادها والبحث عن مكاسب لها ضمن جوقة المجتمع ككل , لأن القبيلة وفي هذا الإطار يجب أن يكون لها حضور كالتمثيل السياسي لأبنائها في مؤسسات الدولة كل ذلك في غياب معايير الكفاءة والمهنية والتأهيل والحديث في هذين المصطلحين يطول كثيراً.

ولكن ما يهمنا هو تسليط الضوء على  مأزق المعاناة التي وقع فيها المجتمع أي معاناة الفرد مثلاً بين إنتمائه لقبيلته  أو  للوطن فالتناقض والكارثة وصلت إلى حد إتهام من يرفع شعار الإنتماء للوطن أولاً بالتخاذل في هويته القبلية وأنه منسلخ من أصله … الخ حتى يُنبذ الفرد أحياناً من قبل أقرب الناس إليه , ويصنف على أنه ناكر لأصله وغير ذلك من التعابير المزعجة والمؤذية من الناحية الإجتماعية بشكل أو بآخر والتي تخيف الآخرين من باقي الأفراد ولا يستثني ذلك حتى المتعلمين والتكنوقراط وأهل الإختصاص المعرفي فترغمهم ذات التعابير على الإنصياع للشعارات التي تنادي بالإعتزاز بالقبيلة والعمل على جلب كل المكاسب لأبنائها مهما كانت الظروف.

ومن هنا يصبح الفرد عنصراً معطلاً حتى في القيام بواجباته كمواطن بل وربما يصبح معول هدم  للدولة المدنية ودولة القانون , القانون الذي لن ينطبق على أي مواطن من مواطنيها بسبب حاجز القبيلة التي ينتمي لها والقوة التي تتمتع بها فمن ذا الذي سيقوم بتطبيق القوانين اليومية أليس مواطناً من مواطني تلك البلدة مثلاً ؟ الإجابة تكون نعم .

إذاً عليه أن يراعي إنتمائه لقبيلته أولاً وأن يراعي إنتماء المخالف وربما المجرم للقبيلة الأخرى وإلا فإن التحدي لن يكون بين الدولة والمخالف بل بين قبيلتين وربما مجموعة قبائل لها إرتباط ما مع بعضها البعض وبذا ستكون العرقلة مشكلة كبرى وهلاك المجتمع سيكون حتمياً لا محالة.

هذا من الناحية المنهجية وربما النظرية , وأما ما يتعلق بالجانب العملي وفي بلادنا بالذات فقد إستغلت حشود القبيلة لإظهار مواقف ما ضد الغير وإبراز القوة التي يؤمل من خلالها الفوز بأكبر قدر ممكن من المكاسب فحتى نجاة المجرم من العقاب في الواقع الذي نعيشه اليوم هو مكسب في حد ذاته.

ولذلك فإننا نجد أن نسبة الإجرام المعلن والظاهر للعيان يكثر في المناطق التي يكون للنفس القبلي فيها قوةً أكبر مهما علت نسبة المؤيدين للمدنية المجتمعية أو المطالبون بها لأنها أمام تيار عنيف.

وفي ظل غياب الدولة طبعاً وسطوتها فإن المخالفين من أبناء القبائل والمتحصنين وراء أجندتها لن يعبئوا برفض الرأي العام لهم فعلنية الرفض هي أيضاً غير مقبولة بل وممنوعة أحياناً لأنها تصنف في قائمة الطعن في القبيلة والنيل من سمعتها , ومراعاة المصلحة العامة كذلك هو أمرٌ غير وارد فالمدافعون كثر والحديث عن المصلحة العامة سوف يصبح شيئاً من الأفكار والآراء الوافدة على البيئة الإجتماعية غير المستساغة مما سيغلب عنصر الإنتماء لرابطة الدم على الإنتماء لدولة المواطنة وهو الطريق الحتمي المؤدي للوقوع في أزمة الإثنية.

وموضوع الإثنية موضوع كبير تندرج تحته عناوين كثيرة فحتى الإنتماء لبعض الأحزاب السياسية ربما يصنع  إثنية مع موضوع الهوية الوطنية وهو حسب رأيي سيدخلنا في إثنية حزبية ووطنية وتغليب لمصلحة الحزب على مصلحة الوطن والمجتمع , وهو ماسيدخر ويوجه جهد الفرد المنتمي للحزب س أو ص مثلاً للإبتعاد عن المنفعة العامة والتركيز على أيديولوجية الحزب ربما.

وهو ما قد يضعنا أمام إزدواجية ربما تكون أخطر من إثنية القبيلة ولأن الوقت غير ملائم لطرح كلا الموضوعين إلا أن الإشارة قد تكفي المتابعين لتلقف الفكرة والإستفادة منها والبحث فيها بالمناهج العلمية المتبعة والمعروفة لدى الدارسين والمتخصصين في العلوم الإنسانية عموماُ وعلوم البيئة الإجتماعية بشكل خاص، مما سيقربنا من المعالجة بكل تأكيد أو على الأقل وضع الحلول على طاولة العمل الحكومي يوما إذا ما وقف الجميع على عتبة الرغبة الحقيقية في إيجاد حل لأزمة الوطن الذي يعاني من إزدواجية العلاقة.

وهكذا وعلى العموم فإن القضية الأولى كما ذكرت في بداية هذا العرض هي إحدى المشاكل الكبرى بكل ما تعني الكلمة من معنى ولن يصبح الفرد في المجتمع مواطناً فاعلاً في بناء دولته إلا بترك أي إنتماء يتجاوز الإنتماء للوطن لأنه هو الهدف الأسمى والأولى, وأي مأرب آخر ينبغي أن يكون ثانوياً ولا يتعارض مع سيادة القوانين الوطنية التي  تقبل بدورها التنوع وتمنح الفرصة لخلق أو تكوين فسيفساء إجتماعية متكاملة في إطار واحد وهو إطار الهوية الوطنية , لتكون كل تلك القوانين على مسافة متساوية من الجميع وتسري بطبيعة الحال على الجميع دون أي إستثناءات أو إمتيازات.

ومن أجل وجوب البحث والإتيان بالحلول المناسبة لكل ما نقوم بعرضه للقارئ والمتتبع عموماً والمتخصص تحديداً فالتساؤل القائم لديه دائماً هو :- ما هي الحلول المناسبة ؟؟؟

نقول بأن الحل يكمن في فتح باب العمل العلمي لدراسة كل هذه المواضيع ودعم المراكز العلمية والبحثية المتخصصة والجامعات على توجيه جزءٍ من إهتماماتها لدراستها دراسة صحيحة وتشجيع البحث العلمي المعمق والذي سيكون السبيل الأمثل من أجل وضع تشخيص مناسب للحالة الليبية.

والعمل على إنتاج الحلول المناسبة أيضاً على طاولة العمل الحكومي والذي يسعى دائما لإثبات كفاءته في بيئة ديموقراطية تنافسية صحيحة , وترجمة تلك الدراسات العلمية والأكاديمية عملياً والتي بدورها تتضمن إنفراجاً قريباً في معضلات البيئة المحلية.

والإستفادة كذلك من الأمم الأخرى وتجاربها الناجحة في حل  وتجاوز مثل هذه الإشكاليات والأزمات التي نعيشها اليوم وبمرارة كبيرة.

كذلك تطبيق مشاريع الدولة التي تصب في هذه الأطر كالمشاريع الإسكانية وبناء المدن الحديثة وإبعاد الأحادية القبلية عن التكتلات السكنية كأن تكون تجمعات قبلية وهو ما يطلق عليه البعض نجع عيت فلان , خاصة في المدن الكبرى في بلادنا وفرض القوانين وتطبيقها بحذافيرها على الجميع والعمل على تشجيع التنوع السكاني في أي حالة من حالات النزوح السكاني سواءً كان سريعاً نتيجة ظروف قاهرة وطارئة أو بطيئاً لعدة سنوات نتيجة ظروف بيئية طاردة في بيئة أخرى.

المهم هو أن يؤخذ التنوع السكاني وهو بطبيعة الحال تنوع إنساني لأنه يخلق القوة المجتمعية التكاملية مستقبلاً , وما يترتب عنه من تمازج إجتماعي وأكثر دقة (جينيا) , وهو القوة التي تشجع عليها أغلب حكومات  الدول المتقدمة اليوم وتعمل على تطبيقها واقعاً في بلدانها بعد أن أثبتت نتائج الدراسات البحثية فيها نجاح وقوة هذه المشاريع وإنعكاسها على نهضة الأمة وقوتها.

كما أتمنى من خلال هذا العرض المختصر أن يكون سردي هذا نقطة إنطلاق لكل المتخصصين والذين تشملهم مسؤولية هذا الموضوع لكي يبدأ العمل على بناء المجتمع البناء الصحيح , فالأجيال القادمة لن تعذرنا أبداً على أي تقاعس أو تقصير مهما كانت الأسباب وسنكون على قائمة إنتقادها التاريخي والذي سيخلد فشل المرحلة التي نعيشها في بلادنا وفشل كل من عاصرها من أبناء هذا الوطن بلا إستثناء

والله المستعان

***

أحمد الشيباني ـ كاتب وباحث أكاديمي ليبي

_______________

مواد ذات علاقة