بقلم مختار غميض

لم يكن التدخل الأجنبي في الشأن الليبي ليتكشف أكثر، لولا إقدام الجنرال المتقاعد خليفة حفتر على العدوان على العاصمة طرابلس، في آخر مساعيه لضم كل الغرب الليبي لنفوذه.

الجزء الأول

إن طموح حفتر هذا العسكري الجامح غير المدروس فضح بعض المواقف المتربصة ونخص الموقف الفرنسي الرسمي خاصة مع فشل قوات الكرامة في اقتحام العاصمة على مدى يومين، كما يبدو مخططا له قبلا.

ومما زاد في كشف بعض الملابسات فرار عناصر مخابراتها من مدينة غريان ثم دعوتها أخيرا لوقف إطلاق النار بين شقّي الصراع المسلح حول طرابلس، وهو ما أثار حقيقة الدور الفرنسي في ليبيا بأسرها.

مقدمة:

إن الموقف الفرنسي في الحضور المتجدد في ليبيا لم يتخذ خطا واضحا بل كان غائما متذبذبا يتّبع المصلحة والأطماع تعميه عن تبيّن السبل الموصلة إلى غاياته فمن احتلال فرنسا الجنوب الليبي (إقليم فزان عام 1943  إلى 1951)، إلى وقوفها مع الثورة الليبية في 2011، إلى دعمها لانقلاب حفتر في 2014، إلى إنشائها غرفة عمليات عسكرية إلى جانب قوات حفتر في عدوانه على العاصمة طرابلس حاليا.

كلها محطات في تاريخ مطامع فرنسا في ليبيا.. فإلى ما تعود هذه المطامع ؟

أولا: الحضور الفرنسي القديم المتجدّد

يعود الحضور الفرنسي في ليبيا إلى أربعينيات القرن الماضي ولا يمكن قراءته بمعزل عن مطامع دول أخرى. وقد غزت القوات الإيطالية صيف 1940 التي كان يقودها موسوليني، الجنوب الفرنسي دعما للحليف الألماني في حربه ضد فرنسا، لتنتقم الأخيرة منها عام 1943، ثم قامت بإنهاء وجودها في ليبيا والشمال الإفريقي، ليبقى الجنوب الليبي، أو ما عرف بإقليم فزان خالصا لفرنسا.

وقبل اندلاع ثورة فبراير بثلاث سنوات زار القذافي عاصمة الأنوار في أول زيارة من نوعها منذ بداية السبعينات، وقد رحّب به نيكولا ساركوزي أيّما ترحيب، لكن تلك العلاقة بقيت متقلّبة، ولا تزال نتائجها غير معلومة .

وجنت فرنسا أرباحا اقتصادية، عقود بمليارات الدولارات، في مجال شراء طائرات آير باصورافالوسلاح آخر، إضافة لاستثمارات كبيرة لشركة توتالللنفط والغاز غربي ليبيا.

وبهذه الصفقات عادت المياه لمجاريها بين باريس وطرابلس، خاصة مع جهود أخرى قادتها فرنسا في حلّ مشكل نظام القذافي مع الممرضات البلغاريات وقضية البرنامج النووي الليبي.

لكن مع اندلاع ثورة 17 فبراير 2011، انقلبت العلاقات رأسا على عقب، فتدخّلت فرنسا عبر رئيسها نيكولا ساركوزي، فدعمت عملية عسكرية لنصرة الشعب الليبي ضد نظام القذافي، الذي كانت أرتاله العسكرية على وشك إنهاء الثورة في مهدها بالشرق الليبي في مدينة بنغازي.

اعتبرت الحكومة الإيطالية حينها خطوة ساركوزي تهديدا لمصالحها الاقتصادية والسياسية في الشاطئ الرابع لروما (مستعمرتها الليبية)، كما لم يشفع ساركوزي للقذافي رغم تمويل العقيد الليبي لحملة الرئيس الفرنسي الانتخابية، كما تبين فيما بعد مما عكس حقيقة الازدواجية الفرنسية في رؤيتها نحو ليبيا، القائمة أساسا على المطامع لكن بغطاء مفضوح.

فسرعان ما ظهرت للعيان ازدواجية المصالح الفرنسية المتقلبة بين الخفي والمعلن، حتّى انكشفت الملايين التي أغدقها القذافي على صديقه ساركوزي لتمويل حملته الانتخابية بين عامي 2006 و2007، كما أشرنا.

ثانيا: الانقلاب الأوّل لحفتر وفضيحة فرنسا ببنغازي

استمرت فضائح فرنسا من خلال طمعها في الثروات الليبية الهائلة، إلى ما بعد فترة حكم ساركوزي.

فقد دعم الرئيس الفرنسي الجديد حينها، فرانسوا هولاند، حكم العسكر المتمثل في اللواء المتقاعد المنشق عن نظام القذافي، خليفة حفتر، بالرغم من موقف فرنسا الرسمي الذي أظهر معاداة لنظام القذافي كنظام شمولي استبدادي عسكري، وكان أول المعترفين بحكم المجلس الانتقالي الليبي وأكبر المسوّقين له كنظام جديد، وعلى رأسه مصطفى عبد الجليل، ومحمود جبيريل الذي حظي بترحيب في القصر الرئاسي بالاليزيه.

ومن المفارقات أن يطلق حفتر في مايو 2014، انقلابا عسكريا في الشرق الليبي منطلقا من بنغازي، حتى عيّنه برلمان طبرق الخاضع للقائد العسكري الجامح والذي يسعى لإصلاح فضيحة أسره بوادي الدوم، قائدا عاما للجيش، بدعم سياسي وعسكري، مصري إماراتي كذلك.

ومع بدء حفتر لعمليته العسكرية على بنغازي، وقفت فرنسا إلى جانبه لكن بشكل سري لم يخرج للعلن، حتى افتضح أمرها في تموز 2016 من خلال إسقاط طائرة عسكرية ومقتل عسكرييها الفرنسيين الثلاثة قرب بنغازي.

وقد نعا آنذاك الرئيس الفرنسي فرانسو  هولاند بنفسه الجنود الفرنسيين.

لم تقف المساعدة العسكرية الفرنسية لحفتر على جميع معارضيه، هكذا في سلة واحدة، حتى حسم المعارك بعد ثلاث سنوات إلى حدود 2017.

وضاربة عرض الحائط بمخرجات حوار باريس الذي نظمته فرنسا بنفسها في ماي 2018، للمصالحة بين قطبي الصراع الليبي، سمحت فرنسا لحفتر بخرق وقف إطلاق النار بالجنوب الليبي.

وإثر مؤتمر باليرمو الإيطالي في نوفمبر الماضي، للمصالحة كذلك، استدعت باريس سفيرها بروما للتشاور في أكبر أزمة دبلوماسية بينهما، واتهمت إيطاليا فرنسا بنهب ثروات أفريقيا وتفقير شعوبها.

كما واصلت فرنسا تأليب حفتر على حكومة الوفاق، وذلك بدعمه في بسط نفوذه على الجنوب الليبي في استمرار لعملية عسكرية جديدة أطلقها حفتر رأس السنة الحالية، بحجة تطهيره من العصابات الإجرامية الإفريقية ومن الإرهاب الحجة الحاضرة دائما في ذهن حفتر.

لكن تنفيذ الطيران الفرنسي غارة جوية على رتل للمعارضة التشادية، مثل تصاعدا للدور العسكري الفرنسي المكشوف الداعم لحفتر، وإعادة لنفس سيناريو القصف قرب بنغازي، لكن هذه المرّة بمطامع ترسيخ قدمها في إقليم فزان وعاصمته سبها.

وبذلك اتضح أمر باريس من الدفاع عن حليفتها تشاد، والتي تتواجد فيها قوات فرنسية، مستغلة الاتفاقية الأمنية المتعلقة بالحدود الجنوبية الليبية الموقّعة إبان ثورة فبراير.

وبالتالي فالجنوب منطقة متقدمة ومجال حيوي لا تفرط فيه، متخذة كذلك حجة محاربة قوافل المهاجرين نحو ليبيا والمياه المتوسطية الدافئة.

كما ظلت فرنسا تتغافل على الشرعية الوحيدة في ليبيا المعترف بها دوليا، بل تحسن اللعب على حبلين، بين حكومة الوفاق والحكومة الخاضعة لحفتر، بل أكثر من ذلك في مسعى منها لضمان ولاء مستعمراتها خاصة النيجر المحاذية للجنوب الليبي، والتي تحوي قاعدة جوية فرنسية تسمح باستغلالها متى تشاء.

وتسعى فرنسا على الحفاظ على إرثها الاستعماري في النيجر حيث تنتصب شركة أريفالاستغلال اليورانيوم.

وبحجة حفتر الأمنية في مكافحة الإرهاب تعلقت فرنسا كذلك، بتكثيف عملها المخابراتي في أفريقيا، وساندت الأنظمة الاستبدادية في القارة، لكن عينها ظلت على ثروات مستعمراتها، من نفط وغاز وذهب ومناجم اليورانيوم بالنيجر، وعينها الأخرى للإشراف على قواتها المتمركزة في مالي؛ ومراقبة الحدود عامة على كل تلك المنطقة.

واتخذت فرنسا ذرائع عبر وكيل محلي هو حفتر، فاستغلت هجومه على الجنوب عبر ظهورها بمظهر المساهم في العملية وبالتالي تضمن الحقول النفطية (حقلي الفيل والشرارة).

وقبل حتى ظاهرة حفتر، استغلت فرنسا حادثة شارل إيبدو، فنفخت فيها كذلك، وأخرجتها في حجم أحداث 11 سبتمبر لأمريكا (ذريعة لاحتلال أفغانستان و العراق)، للسماح لها في التدخل في مستعمراتها. وبالتالي فإن فرنسا تعمل على توفير  كل أشكال الدعم الدولي والإقليمي (مصر والإمارات والسعودية) بحجج لتوفير مبررات مشروعها الجديد.

***

مختار غميض ـ صحفي مهتم بالشأن الليبي

_______________

مواد ذات علاقة