صالح السنوسي

لعل معظم الأطراف المعنية بالصراع في الشرق الأوسط كانت تتوقع قيام حماس بردة فعل على ما قامت به إسرائيل طوال الشهرين الماضيين في الأراضي الفلسطينية، ولكن المفاجأة الحقيقية لهذه الأطراف هي طبيعة الفعل وحجمه ونتائجه.

ولكن طالما قد قامت حماس بما قامت به وطالما قد انخرطت إسرائيل في ما تسميه دفاعاً عن النفس بكل همجية دون أن تخشى أحداً، وطالما أن الغرب بكل جبروته يقف خلفها ويدعمها، فإن كل طرف من هذه الأطراف ظهرت له حسابات وخيارات أتاحتها تداعيات فعل حماس ونتائجه التي تتوالد من بعضها البعض.

قبل أن نحاول التعرف على ما نعتقده حسابات كل طرف ومصالحه لا بُد أن نثبت نقطتين:

أولاهما هي أن كل الأطراف، باستثناء إيران لأسباب سنعود إليها لاحقاً، تريد أن ينتهي الوجود الفاعل لحماس في قطاع غزة، فإسرائيل والغرب والأنظمة العربية مجمعة، كما نتصور على هذا الهدف.

أما النقطة الثانية فهي أن كل طرف يريد أن يستفيد من نتائج هذا الفعل، بما في ذلك إيران.

الطرف الأوللا شك أن أول هذه الأطراف وصاحب المصلحة الأكثر خطورة هو إسرائيل التي تلقت ضربة من تتنظيم صغير أضر بهيبة جيشها التي تعتبر أحد العوامل القوية لردع أعدائها عن التحرش بها وبالتالي تكون في مأمن من خوض أي حرب نظامية ضدهم، ولكن لحسن حظ إسرائيلإذا جاز القولأن هذه الضربة المذلة كانت لها امتدادات شملت مستوطنين مدنيين فاختلطت المذلة العسكرية بفعل آخر لا يتسق مع قواعد القانون الدولي في نظر الكثيرين في العالم.

وهذا أعطى إسرائيل حجة قوية لحشد الغرب الذي لم تكن مصالحه تحتاج إلى الكثير من الحجج ليهرع إلى الوقوف إلى جانب إسرائيل رغم ما ترتكبه من مجازر ضد المدنيين في غزة، ولهذا فإن إسرائيل تريد الاستفادة مما قامت به حماس وهي فرصة تاريخية قد لا تتاح لها مرة أخرى للقيام بحرب تقتل فيها البشر والحجر وتحرق الأرض بمباركة الغرب وذلك للـقضاء على حماس نهائياً إن استطاعت وتهجير أكبر عدد من الفلسطينيين من مناطق فلسطين التاريخية سواء في اتجاه مصر والأردن أو في مناطق هامشية تسهل السيطرة عليها والقضاء بسهولة على أية ظاهرة مماثلة لحماس قد تنشأ في المستقبل.

وهذا بالطبع يؤدي إلى وأد مشروع الدولتين واستبداله في أسوء الحالات بالنسبة إليها بمسخ جغرافي لمن تبقى من الفلسطينيين على شكل كانتونات تحت إشرف إدارة محلية تقدم الخدمات دون أن تكون جزءاً من الدولة اليهودية.

الطرف الثاني: السلطة الفلسطينية وهي أيضاً تأمل أن تحقق من خلال ما حدث ما عجزت عن تحقيقه منذ اتفاقات أوسلو وذلك بجعل الغرب والولايات المتحدة خصوصاً تضغط على إسرائيل بعد ما تنتهي من حماس في غزة، لكي تقبل بقيام كيان فلسطيني قابل للحياة يستطيع فيه الفلسطينيون العيش بشروط حياة أفضل، فهذا الحدث بالنسبة للسلطة الفلسطينية يعتبر فرصة تاريخية لن تتكرر لزمن طويل.

فقد تعرضت إسرائيل لضربة قوية أفقدتها صوابها ووقعت المجازر في غزة ولاحت بوادر حرب إقليمية لا تتمناها الولايات المتحدة، وتصدرت القضية الفلسطينية أحداث العالم بما في ذلك حرب أوكرانيا والتقى الكثير من قادة العالم في المنطقة وانعقدت القمم من أجل السلام وحضر الرئيس الأميركي لأول مرة والحرب مشتعلة وليس بعد انطفائها، وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ القضية الفلسطينية. وإذا كان ثمن ذلك هو القضاء على حماس وبعض الضحايا الفلسطينيين، فهذا يعد مقبولاً ومعتاداً في الصراع من أجل نيل الحقوق.

هكذا على ما يبدو تأمل السلطة الفلسطينية من تجمع هذه الشروط والظروف رغم أن خبرتها التاريخية تؤكد دائماً تبخر مثل هذه الآمال وخطأ مثل التوقعات.

الطرف الثالث: الحكومات العربية وهي تكاد تكون مجمعة ضمنياً على أن مصلحتها تكون في اختفاء حماس من المشهد في مقابل تحقق بعض المطالب الفلسطينية التي كانت عاجزة عن تحقيقها، فلم يكن في الواقع لديها سوى التطبيع لاتقاء شر إسرائيل وللمحافظة على رضا الولايات المتحدة دون أن تحصل من إسرائيل على ما يمكن أن تقدمه للفلسطينيين وللشعوب التي تحكمها.

وبالتالي فقد وجدت في ما قامت به حماس تحريكاً لوضع جامد منذ نهاية حرب 1973، ولهذا فهي تأمل هذه المرة في أن مصالح الولايات المتحدة في هذا الظرف الدولي الذي يشي بإمكانية الصدام بينها وبين روسيا في أوكرانيا وبينها وبين الصين في تايوان، قد يقتضي منها زحزحة قليل من التعنت الإسرائيلي للحصول على شيء للفلسطينيين هو قطعا أقل بكثير من حل الدولتين حتي وإن حمل هذه التسمية، مع الحفاظ على موقف ثابت يرفض تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن وهذا أيضا ما ظهر في قمة السلام في القاهرة.

هكذا على ما يبدو تتمني هذه الحكومات، رغم أن التجربة التاريخية مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل تكذب هذه الآمال والاحتمالات، لأن هناك سببين يجعلان الولايات المتحدة غير قادرة على الانخراط في أي حل لا ترضى عنه إسرائيل:

أولهما هو أن الطبقة الحاكمة وأحزابها هشة في مواجهة اللوبي الصهيوني الذي يمسك بمفاتيح القوة الاقتصادية والصناعية والثقافية ولا يستطيع أي أميركي أن يصل إلى سدة الرئاسة ولا الكونغرس إن لم يحظ بدعم هذا اللوبي، وبالتالي فإن القرار الأميركي في ما يخص الشرق الأوسط مرتهن لمشيئة اللوبي الصهيوني وإسرائيل.

ثانيهما: أما السبب الثاني فيعود إلى كون الولايات المتحدة قوة كونية تقتضي استراتيجيتها في الصراع مع القوى التي تزاحمها على السيادة في العالم، أن لا تنظر إلى كل أزمة على حدة وهذا ما أكده خطاب الرئيس الأميركي بعد عودته من إسرائيل عندما ربط بين روسيا وحماس وأوكرانيا وإسرائيل، فليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تتزعزع هيبة إسرائيل وتصبح فجأة ضعيفة في نظر جيرانها في المنطقة وهي التي تمثل أقوى أدوات الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.

الطرف الرابع: موقف إيران من القضية الفلسطينية، بصرف النظر عن التفسيرات والدوافع، ليس موقفاً طارئاً بل تحدد منذ إغلاق السفارة الإسرائيلية واستقبال الخميني لياسر عرفات في طهران قبل أي رئيس آخر، ولكن لا شك في أن تطورات الصراعات الإقليمية وطموحات إيران كقوة إقليمية تجعلانها بالضرورة تستخدم وتوظف كل ما تعتبره أداة قوة بما في ذلك موقفها من القضية الفلسطينية سواء في صراعاتها وتناقضاتها الأيديولوجية مع خصومها الإقليميين الذين يحرضون الولايات المتحدة ضد طموحاتها التي تخيفهم، سواء في صراعها مع الغرب الذى تقتضي مصالحه الاستراتيجية تحجيم طموحاتها وإدخالها في حظيرة القطيع العربي.

ولهذا فإن مصلحة إيران تدفعها إلى الوقوف إلى جانب حماس التي تقاتل إسرائيل، معتبرة ذلك امتداداً لموقفها من القضية الفلسطينية وإحراجاً لخصومها من الأنظمة العربية وتصغيراً لشأنها في نظر شعوبها.

كما أن هذا الموقف من حماس ينطبق أيضاً على حزب الله الذى يعتبر أقوى حليف لها وأكثر التصاقاً بها طائفياً، فحماس وحزب الله اللذان يصفهما المختلفون مع إيران بأنهما أدواتها في المنطقة، هما أقوى حليفين بحكم التقاء مصالحهما إلى حد كبير مع مصالح إيران.

ولذا فإن إيران تحرص بكل ما تستطيع على أن يبقى هذان الحليفان فاعلين على مسرح الصراع في المنطقة، لأنهما يشكلان قوة ردع نسبية للمخططات الإسرائيلية ضدها.

وبالتالي فإن إخراج حماس نهائياً من دائرة الصراع يعتبر انتصاراً لإسرائيل وخصومها من الأنظمة العربية إذا ما انتهت الحرب الإسرائيلية في غزة بالقضاء على حماس فقد يصبح حزب الله على أجندة الجولة الإسرائيلية التالية.

ولهذا فإن حسابات إيران هي غاية في الدقة والخطورة، لأنها لا تريد أن يدفعها أحد إلى حرب ليست مستعدة لها ولا تستطيع أيضا أن تكتفي بمناورات تؤدى إلى خسارة حلفائها واحداً تلو الآخر لتطالها بعد ذلك في عقر دارها يد إسرائيل القابضة على أعتى تكنولوجيا الغرب والمحمية بقفاز أميركي.

إذن كل الأطراف المنخرطة في الأحداث الجارية لها مصلحة فيما قامت به حماس وكلها باستثناء إيران لها مصلحة في التخلص منها، فالحكومات العربية سواء المطبعة مع إسرائيل أو خصوم إيران، يرون في القضاء على حماس فرصة سانحة للتخلص من وجودها المزعج وقطعاً لأحد سواعد إيران التي تستغل القضية الفلسطينية وحاجة حماس المحاصرة في غزة منذ عقدين، إلى حليف يقف معها، كما أن القضاء على حماس سيكشف مدى عجز إيران وعدم مصداقية قدرتها أمام نظر بقية أذرعها التي كانت تعول على التحالف معها.

كل هذه الحسابات تتوقف على تطورات المعركة البرية إذا قامت إسرائيل بها وجرت بين طرفين فقط، أما إذا تمددت وتحولت إلى حرب إقليمية واضطرت الولايات المتحدة لأن تكون طرفاً عسكرياً مباشراً على الأرض فستقوم قطعاً كل من روسيا والصين بانتهاز هذه الفرصة لتغذية هذه الحرب بكل ما تستطيعان لزيادة تورط الولايات المتحدة في حرب استنزاف تؤثر على وقوفها خلف أوكرانيا وتايوان.

وفي هذه الفرضية ستظهر احتمالات أخرى وتتبدل مواقف قوى إقليمية ودولية ولن تصبح حماس سوى الطرف الذي أشعل شرارة حرب يصعب التنبؤ بمآلاتها.

______________

مواد ذات علاقة