بقلم خليفة حداد

تمكنت القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني الليبية من استعادة مدينة غريان، في هجوم منسق وخاطف، بعد ثلاثة أشهر من إطلاق خليفة حفتر عملية عسكرية للسيطرة على العاصمة.

الجزء الثاني

ما بعد معركة غريان؟

لاشك أن معركة غريان، في 26 يونيو المنقضي، كانت منعرجا غير عادي في المعركة التي دشنتها قوات حفتر ضد العاصمة طرابلس، منذ ثلاثة أشهر.

فمكانة المدينة وموقعها الاستراتيجي، باعتبارها كبرى مدن جبل نفوسة وجنوب طرابلس، ولوقوعها على الطريق الرئيس المؤدي إلى العاصمة، ولاتخاذها قاعدة العمليات الرئيسية لعملية الكرامةفي المنطقة الغربية، كلها عوامل تجعل خسارتها ضربة موجعة. كما، لاشك، أن تداعياتها؛ السياسية والعسكرية، ستلقي بظلالها على معسكري الصراع.

فعلى المستوى العسكري، وبخسارة غريان، لم يبق من الحواضن الكبيرة لعملية الكرامةبالمنطقتين؛ الغربية والوسطى، سوى مدينة ترهونة.

أما مدن صبراتة وصرمان وباقي الجيوب الواقعة تحت سيطرة كتائب موالية لحفتر فلا تعد، ديمغرافيا، من المدن الكبيرة، إضافة إلى أن أغلبها واقع ضمن محيط نابذ سياسيا، كما أن الولاء لعملية الكرامةلا يلقى أجماعا لدى نسيجها الاجتماعي.

فمدينة صبراتة مثلا، التي تسيطر عليها، حاليا، كتائب ذات هوى سلفي مدخلي، شهدت، في أكثر من مناسبة، اشتباكات ضارية بين الموالين والرافضين لعملية الكرامة، وهي اشتباكات مرشحة للتكرر، خاصة إذا علمنا أن الكتائب الرافضة لعملية الكرامةلم تلق أسلحتها بل خيرت الانسحاب إلى تمركزات جديدة خارج المدينة.

أما بخصوص مدينة ترهونة، فقد كثفت شخصيات سياسية وقبلية محسوبة على حكومة الوفاق الوطني اتصالاتها بمكونات من المدينة بهدف الوصول إلى ترتيبات وتوافقات تعود، بمقتضاها، إلى سياقها بالمنطقة الغربية.

ورغم صعوبة توقع رفع الغطاء الاجتماعي عن قادة الكتائب المحلية المعروفين باسم الكانيات (نسبة إلى عائلة الكاني) أو جلاء قوات حفتر عن المدينة بهدوء ودون إراقة دماء فإن تكرار ما جرى في غريان يظل متوقعا، خاصة في ظل تواتر الأنباء عن مشاحنات بين مكونات اجتماعية من المدينة ومسلحي الكرامةالقادمين من مناطق أخرى.

وفي السياق ذاته كثف طيران الوفاق ضرباته الجوية على التمركزات العسكرية بالمدينة، خلال الأيام الأخيرة في تطور يشير إلى انطلاق عملية عسكرية جدية وغير معلنة لاستعادة المدينة.

وبقدر حرص معسكر الكرامةعلى بقاء ترهونة ضمن مجال سيطرته، تحرص قوات الثوار والقوات المحسوبة على حكومة الوفاق على تحقيق إنجاز عسكري في هذه الجبهة، وهو إنجاز، في حال تحققه، سيمكنها من قطع جميع طرق الإمداد عن القوات المتمركزة في المطار وقصر ابن غشير ومحاور جنوب طرابلس، ما يعني، عمليا، تأمين العاصمة وانتهاء العمليات العسكرية الكبيرة في المنطقة الغربية.

ورغم الخسارة الإستراتيجية التي لحقت قوات حفتر بانهيارها في مدينة غريان، من غير المتوقع أن تتحول هذه الخسارة إلى إقرار بالأمر الواقع بالنسبة لقادة الكرامةأو أن تؤدي، آليا، إلى عودة خريطة النفوذ إلى ما كانت عليه قبل 4 أبريل، إذ دشنت وسائل الإعلام المحسوبة على هذا المعسكر حملة ترويجية مشابهة للحملة التي سبقت التحرك نحو العاصمة، من خلال بث صور أرتال وتحشيدات قادمة من المنطقة الشرقية، لاستعادة غريان وفتح جبهة جديدة في سرت، قوامها كتائب متمرسةبالقتال في بنغازي ودرنة.

وحتى في حال العجز عن استعادة غريان أو فتح جبهة في سرت؛ وهو احتمال مستبعد، وخسارة ترهونة والجيوب الموالية في مدن غرب العاصمة، يظل الهلال النفطي جبهة قابلة للاشتعال.

ورغم أن قوات حفتر تسيطر، حاليا، على جميع المنشآت والموانئ بالهلال، إلا أن حوادث سابقة أثبتت هشاشة الموقف العسكري في هذه المنطقة، ما قد يغري بعض مناوئي عملية الكرامةبالتقدم إليها، وهو الأمر الذي يبدو أن الأخيرة تتحسب إليه وتستبقه وتأخذه مأخذ الجد.

إذ تواترت التصريحات الصادرة عن قياديين موالين لحفتر عن ضرورة إعادة النظر في الترتيبات التي تحكم تبعية المنشآت والموانئ النفطية وضوابط التصدير وعائداته، ما ينذر بجولة قاسية من النزال بحكم حساسية ملف النفط، في حال لم تبادر القوى الدولية ذات العلاقة باتخاذ موقف جاد وصارم يمنع المتحاربين من اتخاذ هذه المنطقة الحيوية ساحة نزال.

تصعيد التدخل الإقليمي

لم يعد التدخل الإقليمي والدولي في مجريات المشهد الليبي؛ سياسيا وعسكريا، أمرا خفيا. فلم يكن حفتر ليجرؤ على الإقدام على خطوة بحجم الهجوم على العاصمة ما لم يتلق ضوءا أخضر ودعما عسكريا ولوجستيا سخيا من داعميه الإقليميين.

فقبل هجوم أبريل بأيام قليلة أدى حفتر زيارة إلى المملكة العربية السعودية التقى، خلالها، مسؤولين سياسيين وعسكريين واستخبارتيين من الصف الأول، وكشفت، إثر ذلك، مؤسسات إعلامية؛ غربية وعربية، أن الزيارة هدفت إلى منحه الضوء الأخضر لتدشين الهجوم على العاصمة وفرض أمر واقع جديد ينهي مخرجات اتفاق الصخيرات، بما فيها مؤسسة المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني.

وعلى غرار المملكة العربية السعودية، كثفت كل من الإمارات العربية المتحدة ومصر وفرنسا دعمها الموجه لحفتر بالطائرات المسيرة والخبراء والدعم اللوجستي والتموين، وهو أمر لم يعد الداعمون الإقليميون يخفونه، إذ كانت المدرعات القادمة من الإمارات، على غرار مدرعة تايقر، أهم الآليات المستخدمة في مختلف محاور القتال.

وفي السياق ذاته، كشف انهيار قوات حفتر في غريان وانسحابها السريع وغير المنظم كميات كبيرة من صواريخ جافلينأمريكية الصنع، وهي صواريخ متطورة ومضادة للدروع، بيعت للقوات المسلحة الإماراتية، في وقت سابق، لتجد طريقها إلى محاور القتال في ليبيا.

أما الطائرات المسيرة، فقد صارت لاعبا أساسيا في ليبيا، ويعود إليها الدور الرئيس في حسم معارك بنغازي ودرنة لصالح كتائب حفتر، وهي طائرات تتخذ من قواعد الخادم وبنينا منطلقا لها، فيما تم تركيز محطات توجيه قريبة من طرابلس منذ تدشين الهجوم الأخير قبل ثلاثة أشهر.

وكما جرى، من قبل، في بنغازي ودرنة، مثلت الطائرات المسيرة الإماراتية التحدي الأكبر أمام المدافعين عن العاصمة.

وفي المعسكر الآخر من الصراع؛ أي المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، وبعد استيعاب الصدمة الأولى للهجوم وتمكن القوات المحسوبة عليه من وقف تقدم قوات حفتر على مختلف المحاور، بادر المجلس إلى تدشين جملة من الاتصالات لتأمين الدعم السياسي والعسكري في مواجهة معسكر الداعمين الإقليميين لعملية الكرامة“.

ورغم الأداء المثير للجدل لوزير الخارجية محمد الطاهر سيالة، والذي عدّ، برأي الكثير من الفاعلين السياسيين في ليبيا، ضعيفا ودون تحديات اللحظة التي تعيشها العاصمة والبلاد، فإن رئيس المجلس فايز السراج تمكن من تأمين دعم إقليمي نسبي من خلال استثمار الموقف التركي المناقض للمشروع الإماراتي السعودي المصري.

ولم يتوقف الدعم التركي عند التذكير بأن المجلس الرئاسي يمثل السلطة الشرعية الوحيدة في ليبيا، وأن ما أقدم عليه حفتر عدوان غير مقبول، بل تعداه إلى تزويد قوات الوفاق بدفعة من المدرعات التركية المتطورة، حرصت حكومة الوفاق على تغطية وصولها إلى ميناء طرابلس إعلاميا، في ما يبدو رسالة موجهة إلى المتدخلين الإقليميين الآخرين في مجريات الصراع الليبي.

كما راجت أخبار عن وصول طائرات مسيرة تركية إلى طرابلس، خلال الأيام الأخيرة، وهو الخبر الذي لم تؤكده حكومة الوفاق ولكنها لم تنفه.

ويبدو أن السراج، ماض، تحت ضغط القادة الميدانيين وبعض الفاعلين السياسيين، في استثمار التناقض بين المشروع الإقليمي التركي من جهة والمشروع الإماراتي السعودي المصري من جهة ثانية، وهو ما تؤكده الزيارة الرسمية التي أداها إلى اسطنبول في 5 يوليو الجاري والتقى، خلالها، الرئيس رجب طيب أردوغان وسط تغطية إعلامية لافتة أمنتها القنوات المقربة من المجلس الرئاسي.

خاتمـة

يدرك المتابعون الموضوعيون لمجريات المشهد السياسي والعسكري في ليبيا أن استعادة قوات حكومة الوفاق الوطني مدينة غريان الإستراتيجية، بعد ثلاثة أشهر من الهجوم الذي شنته قوات حفتر بهدف الاستيلاء على العاصمة، مثلت منعرجا فارقا في المعركة ستكون له تداعيات سياسية وعسكرية مهمة، غير أن هذا الحدث، بذاته، غير كاف لإنهاء التشظي الذي أصاب الكيان الليبي منذ إطلاق عملية الكرامةقبل خمس سنوات، خاصة في ظل إصرار قوى إقليمية نافذة في المشهد الليبي على المضي في مشروع توجيه مخرجات الربيع العربي إلى مسارات التفكك والفوضى وإعادة إنتاج منظومات الاستبداد والعسكرة.

***

خليفة حداد ـ باحث في الشأن الليبي

***

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية هي مؤسسة بحثية تغطي مجالا إقليميا واسع النطاق ، يشمل دول المغرب العربي والفضاء الإفريقي والمجال المتوسطي، مع الاهتمام بالشأن التونسي، وللمركز مقران رئيسيان بلندن وتونس… ويعمل المركز على تقديم مساهمات جادة في مجال البحوث الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية والدبلوماسية.

________________

مواد ذات علاقة