بقلم رشيد خشانة

شكلت زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى إيطاليا في وقت سابق من هذا الأسبوع، علامة واضحة على الأهمية التي باتت واشنطن توليها لإيجاد حل سياسي في ليبيا.

وتزايد هذا الاهتمام الأمريكي أخيرا من خلال مؤشرات عدة من بينها تكثيف الضربات الجوية في جنوب ليبيا، في إطار ملاحقة عناصر تقول واشنطن إنها تنتمي لجماعات إرهابية، والاتصالات التي يقوم بها السفير الأمريكي الجديد لدى ليبيا، بعدما كان الأمريكيون منسحبين منها.

ودلَ التطابق بين تصريحات كل من بومبيو ونظيره الإيطالي لويجي دي مايو، في روما، على اتفاقهما على ضرورة وقف إطلاق النار تمهيدا لهدنة تفتح على مفاوضات بين المعسكرين المتحاربين.

ليس هذا التناغم بين واشنطن وحليفتها الأقرب إيطاليا، بالأمر الجديد، فهناك تقاربٌ دائم في المواقف من الأزمة الليبية، جسدته بشكل واضح المحادثات التي أجراها رئيس الحكومة الإيطالية ماتيو رينزي مع الرئيس الأمريكي ترامب في البيت الأبيض الصيف الماضي، والتي أعلن هذا الأخير في أعقابها أن واشنطن تمنح ثقتها الكاملة لإيطاليا في التعاطي مع الملف الليبي.

كما أن دي مايو كان طلب في تصريحات أدلى بها على هامش مداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، الحصول على “تأييد” الرئيس الأمريكي لـ”الإستراتيجيا الإيطالية لإحلال السلام في ليبيا” مُؤكدا أنه يثق بالإشارة المطلوبة من الرئيس الأمريكي، ومُشددا على أهمية دور الولايات المتحدة في حل الأزمة الليبية.

وفي خلفية هذا التناغم السياسي يوجد تكامل في المصالح النفطية بين الأمريكيين والإيطاليين، في القارة الافريقية، كشف بعض زواياه تضامن الولايات المتحدة مع مجموعة “إيني” الإيطالية لتبرئتها من فضيحة رشى في نيجيريا. وحامت شبهات فساد حول صفقة “أو بي أل 245” المتمثلة بمنح إجازة تفتيش، تحمل الاسم نفسه، للمجموعة الإيطالية بصورة غير قانونية، في نيجيريا.

إلا أن التحقيقات التي قامت بها وزارة العدل الأمريكية برأت “إيني” ومسؤوليها من تهمة الضلوع في العملية، التي تعتبر من أكبر الفضائح النفطية، في بلد هو أول منتج للنفط في افريقيا، بمليوني برميل من الخام يوميا.

واستغرب خبراء نفطيون من قرار الوزارة الأمريكية، خاصة بعدما سبق أن اعترفت مجموعة “شال”، شريكة “إيني” في هذه الصفقة، بأنها كانت تعلم أن قسما من المبالغ المدفوعة، لقاء الفوز بالصفقة، لن تذهب إلى الصناديق العمومية النيجيرية، وإنما إلى جيوب بعض الشخصيات الحاكمة، ومن بينها وزير النفط النيجيري السابق دان إيتيت.

من هنا تبرز ملامح الصراع على الثروات الافريقية، التي يتبوأ فيها منتوج ليبيا الرتبة الرابعة بين الدول المصدرة للنفط، بعد نيجيريا وأنغولا والجزائر. وقد تلتقي مصالح المجموعات في بلد، وتفترق في بلد آخر، لكن المنافسة بين المجموعتين الفرنسية “توتال” والإيطالية “إيني” كلفت ليبيا ثمنا باهظا.

من هذه الزاوية، يبدو تسليم الملف الليبي إلى ألمانيا نوعا من الادانة لكل من فرنسا وإيطاليا، اللتين لعبتا كثيرا بالورقة الليبية، وساهمتا في إطالة عمر الأزمة، بسبب صراعهما المرير على حيازة تلك الورقة، ومحاولة الاستفراد بها.

والأرجح أن نقل الملف إلى برلين لا يسُرُهما لأنهما لم تسعيا إليه، وإنما فرضته المستشارة الألمانية إنغيلا ميركل، التي لم تنتظر إيماءة من أحد، وسارعت إلى الدعوة لاجتماع بعيدا عن عدسات الصحافة، يوم 17 أيلول/سبتمبر الماضي، في برلين، شارك فيه مندوبون عن دول معنية بالملف الليبي، وهي أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا ومصر وروسيا والصين وتركيا والاتحاد الافريقي وجامعة الدول العربية، غير أنها تجاهلت دولا أخرى، من بينها دول الجوار الليبي، المتأثرة سلبا من انعدام الأمن والاستقرار، في المناطق المتاخمة للحدود المشتركة مع ليبيا.

وإذا لم يتدارك الألمان هذا الاستبعاد، لدى انعقاد مؤتمر برلين، فسيكون هذا التغييب أحد أسباب فشل المؤتمر.

ورقة ضغط؟

وترى حكومة الوفاق الوطني أن الحل السياسي الوحيد يكون من خلال خطة الأمم المتحدة التي تنص على عقد ملتقى وطني جامع في مدينة غدامس الليبية، حسبما كان مقررا في 14 نيسان/ابريل الماضي، والذي قوضته “حرب طرابلس”.

على أن “حكومة الوفاق” تربط وقف إطلاق النار بانسحاب القوات الآتية من الشرق و”عودتها من حيث أتت من دون شروط”.

وهذا شرطٌ صعبُ التحقيق، لأن وجود قوات الشرق في مواقعها الحالية، جنوب طرابلس، بالرغم من عجزها عن الدخول إلى المدينة، يشكل ورقة ضغط مهمة في يد القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء خليفة حفتر.

أكثر من ذلك، اعتبرت حكومة الوفاق أن اتفاق الصخيرات والأجسام التي انبثقت منه (المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق)، هي المرجعية الأساسية لأي حوار في المستقبل، “مع وقف التعامل مع المؤسسات الموازية” على ما قالت.

وهناك نقطة شائكة أخرى يُرجح أن تشكل مصدر تباعد بين موقفي الطرفين المتصارعين، وتخصُ الانتخابات، إذ يطرح السراج ضرورة الاتفاق على قاعدة دستورية تكون أساسا لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، فيما يستبعد حفتر إجراء أية انتخابات في الوقت الراهن.

بالمقابل تلتقي الخطة التي عرضها رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا غسان سلامة، في إحاطته إلى مجلس الأمن يوم 29 تموز/يوليو الماضي، جزئيا مع الرؤية التي قدمتها حكومة الوفاق، إذ تضمنت خطة سلامة دعوة أطراف القتال إلى هدنة إنسانية، تتطور إلى وقف لإطلاق النار، يعقبه تنظيم مؤتمر دولي بمشاركة الدول المعنية بالأزمة الليبية، يليه تنظيم ملتقى وطني ليبي بمشاركة الأطراف الفاعلة في الأزمة.

وتتمتع المبادرة الألمانية بفرص نجاح كبيرة كونها تحوز على ميزات لا تملكها نظيراتها من الدول الأوروبية، مثل إيطاليا وفرنسا، التي تُحركها مصالح تجارية وأطماع جيو سياسية، والتي يقول ليبيون إنها ساهمت في تأجيج الصراع بين أبناء البلد الواحد.

غير أن ألمانيا ليست جمعية خيرية، فلديها مصالح تجارية تخص النفط والغاز أساسا، لكنها محدودة قياسا على المصالح الفرنسية والإيطالية.

وفي الأيام الأخيرة أعلنت مجموعة “وينتر لاند” النفطية الألمانية أنها تعتزم مغادرة ليبيا، بسبب خلافات مع “المؤسسة الوطنية للنفط” (قطاع عام) تخص إجازات تفتيش عن النفط والغاز.

وتستثمر المجموعة الألمانية حاليا حقلين نفطيين، بالإضافة لكونها شريكا في حقل “الجُرف” الواقع على الساحل الليبي. ويُجري مسؤولون ليبيون حاليا مفاوضات مع مسؤولين في المجموعة، من أجل تقريب وجهتي نظر الجانبين.

ليس مهما مصير تلك المحادثات، فقد تغادر المجموعة الألمانية ليبيا، غير أن برلين تعمل انطلاقا من رؤية تُخطط على الأمدين المتوسط والبعيد، فهي ترتبط بعلاقات متينة مع دول مؤثرة في الصراع، من بينها تركيا ومصر وقطر والامارات، فضلا عن الثقة التي تحظى بها لدى كل من أمريكا وروسيا والصين.

ووفقا لهذه الرؤية تعتقد المستشارة الألمانية أن الحريق المشتعل في ليبيا ينبغي إطفاؤه، قبل أن تنتقل ألسنة اللهب إلى بلدان افريقية أخرى، وتغدو مفرخة للتنظيمات الإرهابية.

لكن هل تحمل البلدان المؤثرة الأخرى، وبخاصة فرنسا وإيطاليا القناعة نفسها؟ إن كان الأمر كذلك سيظهر جليا من خلال تراجع تدفق الأسلحة على حلفائهما الليبيين في الأمد المنظور، مما سيُسهل السير نحو الحل السلمي.

لكن الأرجح في ضوء المؤتمرات السابقة، أن البون شاسعٌ بين الأقوال والأعمال. كذلك يحق التساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة تقف إلى جانب خليفة حفتر مثلما يريد أن يوحي بذلك هذا الأخير، أم أنها جادةٌ في دعم المسار السياسي، مثلما صرح بذلك وزير خارجيتها بومبيو في روما؟

ليست هناك مؤشرات كثيرة لدى الفريقين الليبيين تؤكد نبوءة بومبيو بأن مؤتمر برلين يمكن، إذا ما أعد له إعدادا جيدا، وشمل أكبر عدد ممكن من الفرقاء الليبيين، سيُمكن من تحقيق تقدم على المسار السياسي تمهيدا لعودة الاستقرار إلى ليبيا.

وقد تكون هذه النوايا طيبة، لكن من الصعب على الليبيين الذين يكتوون بنار الحرب منذ ستة أشهر، أن يُصدقوا أي وعود بسلام يلوح بعيدا، في كل مرة، ولا يأتي.

____________

مواد ذات علاقة