بقلم سيلين م. بولمي

على مدى السنوات الأربعين الماضية، تم دمقرطة العديد من دول العالم. وما بين عامي 1974 و1990، تضاعف تقريباً عدد الحكومات الديمقراطية في العالم.

الجزء الرابع

….

التفسير القديم: الإسلام

تعمل العديد من الدراسات على تتبع جذور الاستبداد في الشرق الأوسط في التاريخ الإسلامي. وتعود هذه النظرة إلى عام 1798 مع مونتسكيو الذي يدعي في الأصل أن المعتقدات الإسلامية هي التي جعلت المنطقة أكثر عرضة للحكم الاستبدادي.

ويدّعي مونتيسكيو أنه يتحتم أن يكون للمسلمين حكومة استبدادية لأن الإسلام لا يتكلم إلا بالسيف ويتصرف تجاه الناس بروح تدميرية من الأساس . أثر منهج مونتسكيو على الكثير من الناس بعد ذلك، وتم استنساخه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من قبل عدد من العلماء، بما في ذلك برنارد لويس ، وصموئيل هنتينجتون وإيلي كيدوري ، كرد على سؤال استمرار الاستبداد في الشرق الأوسط .

ويُعتبر برنارد لويس أحد أبرز العلماء الذين يدافعون عن فكرة أن الإسلام لا يتوافق مع الديمقراطية. وقال إن عدم الفصل بين الدين والدولة في الإسلام هو السبب الرئيسي لهذا التعارض.

فالدولة الإسلامية كانت من حيث المبدأ دولة دينية. لذلك يعتقد المسلمون المتدينون أن السلطة الشرعية تأتي من الله وحده.

وبما أن الحاكم (الخليفة) يستمد قوته من الله، وليس من الشعب، والشريعة الإسلامية مستقاة من القرآن، فإنه على المسلمين أن يخضعوا للسلطة دون ابداء أي جدال، حسب زعم لويس.

وزعم لويس أيضاً أن كل هذه العوامل هي التي أدت إلى انتشار الاستبداد في العالم الإسلامي.  ووفقاً لكيدوري ، فإن “فكرة الديمقراطية غريبة تماماً عن العقلية الإسلامية”.

وعلاوة على ذلك، فإن مفهوم الدولة ككيان إقليمي محدد يتمتع بالسيادة، ومفهوم السيادة الشعبية كأساس للشرعية الحكومية، وفكرة التمثيل، والانتخابات، والاقتراع الشعبي، والمؤسسات السياسية التي تنظمها القوانين التي تضعها الجمعية البرلمانية، وحراسة هذه القوانين وتطبيقها من قضاء مستقل، وفكرة علمانية الدولة، والمجتمع الذي يتألف من عدد كبير من الجماعات والجمعيات المستقلة، هي مفاهيم غريبة عن التقاليد السياسية الإسلامية.

 ونتيجة لذلك، ادعى كيدوري أنه لا يوجد في التقاليد السياسية الإسلامية، وبالتالي العالم العربي، أي شيئ عن الحكومة الدستورية والتمثيلية.

ويُعتبر هنتنجتون اسماً بارزاً آخر يعتقد أن الإسلام مسؤول عن عجز الديمقراطية في المنطقة. وهو يرى أن الإسلام لا يحتفي بالديمقراطية لأنه يحمل عقبات ثقافية قوية داخله أمام تحقيق الديمقراطية .

ويقول هنتنجتون إن الإسلام “يرفض أي فصل أو تمييز بين الدين والسياسة”. ففي الدولة الإسلامية “شرعية الحكومة والسياسة تُستمد من العقيدة والتجارب الدينية” ونتيجة لذلك “تختلف المفاهيم الإسلامية للسياسة عن أسس السياسة الديمقراطية وتتناقض معها”.

ومع بداية الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي، أصبح هنتنجتون أكثر تفاؤلاً بشأن مستقبل الدول الإسلامية. فهذه المرة، لم يعامل هذه العقبات كحقائق جوهرية تمنع التطور الديمقراطي.

وكما ذكر، فقد تم إثارة جدليات ثقافية مماثلة ضد الدول الكاثوليكية بخصوص الديمقراطية وضد البلدان الكونفوشيوسية بخصوص التنمية الاقتصادية في الماضي.

وبالتالي، فقد بدأ يعبّر عن شكوكه حول النظر إلى ثقافة معينة كعائق دائم للتغيير. فالإسلام، مثله مثل الأديان الأخرى، هو مجموعة معقدة للغاية من الأفكار والمعتقدات والمذاهب والافتراضات وأنماط السلوك.

ولديه بعض العناصر التي تتوافق مع الديمقراطية، وبعض العناصر التي لا تتوافق مع الديمقراطية بشكل واضح. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الثقافات ديناميكية من الناحية التاريخية، وأن المعتقدات والمواقف السائدة في المجتمع تتغير.

ومع ذلك، تراجع هنتنجتون في تفاؤله وموقفه المعتدل من آفاق الديمقراطية في الدول الإسلامية في مقالته المثيرة للجدل “صراع الحضارات. ثم قال إن هناك صراعاً عميقاً بين قيم الغرب وقيم الإسلام.

واعتبر هنتنجتون أن المجتمعات الإسلامية أكثر عرضة للعنف السياسي وأن “الكتلة الإسلامية أو دول الهلال الإسلامي الممتد من إفريقيا إلى آسيا الوسطى، لها حدود دموية” .

ومن وجهة نظر هنتنجتون، فإن وجود عنف سياسي في المجتمعات الإسلامية يرتبط بالثقافة الإسلامية التي لا تعرف الأفكار الغربية عن الديمقراطية .

ونشرت جوديث ميلر مقالة في نفس العدد من فورين أفيرز مبنية على جدليات مماثلة حول الإسلام والديمقراطية. وردت ميلر على سؤال طرحته هي بنفسها، “لماذا يجب أن يشك المرء في صدق التزام الإسلاميين بالحقيقة والعدالة والنهج الديمقراطي؟”

وذلك من خلال هذه الإجابة: “باختصار، بسبب التاريخ العربي والإسلامي وطبيعة وتطور هذه الجماعات”. وباستخدام دراسات برنارد لويس لدعم النتائج التي وصلت إليها، ادعت ميلر أن الإسلام يتعارض مع قيم التعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

 وتعكس الافتراضات التي تربط الاستبداد في الشرق الأوسط بالإسلام تحيزاً جلياً ناشئاً عن توجهها نحو الشرق. ويقدم هؤلاء العلماء معرفتهم السطحية المعممة تقريباً عن الإسلام باعتبارها التفسير الوحيد لعجز الديمقراطية في المنطقة.

وكما أشار هينبوش، فإن مثل هذه الحجج ترى أن الثقافات السياسية ثابتة وموحدة بشكل أساسي. وأشار هينيبوش إلى شكوك هنتنجتون في رؤية الثقافة كعائق دائم للتغيير، لكنه كان أكثر ثقة.

فوفقاً لهينيبوش، يختلف الإسلام كثيراً حسب السياق والزمان في مقولة تشكيل عائق ديني ثابت أمام توجهات التحول إلى الديمقراطية مثلما قيل بشأن الكاثوليكية ذات مرة عن طريق الخطأ .

وللتأكيد على نفس النقطة، رأت بيلين أن الكاثوليكية والكونفوشيوسية كانت متهمة أيضاً بعدم التوافق مع الديمقراطية؛ ومع ذلك، لم يمنع ذلك دول أمريكا اللاتينية أو جنوب أوروبا أو شرق آسيا من تبني التحول الديمقراطي .

 وبالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الدراسات الاستقصائية البحثية والدراسات التجريبية التي تشكك في العلاقة بين الإسلام والديمقراطية / الاستبداد لا تجد أي صلة مهمة بين الإسلام وعجز الديمقراطية في المنطقة.

ومن أجل اختبار افتراض هنتنجتون أن المجتمعات الإسلامية أكثر عرضة للعنف السياسي، استخدم ستيفن فيش قائمة حوادث العنف السياسي في العالم بين عامي 1946 و 1999.

فخلال هذه الفترة ، وقعت 207 حادثة من العنف السياسي الشديد الحاد، كان من بينها 72 حدثاً فقط وقعت في الدول الإسلامية بنسبة35%. بالنظر إلى أن 30% من دول العالم في الأغلب مسلمة؛ فإن حصتهم من العنف السياسي عادلة.

خلص فيش إلى أن الأدلة لا تُظهر أن العالم الإسلامي كان البقعة من العالم التي تحوي قدراً غير متناسب من العنف السياسي. واستخدم فيش أيضاً مؤشرات “الاستقرار السياسي / عدم العنف” وقارن درجات الاستقرار / النقص في العنف في الدول الإسلامية والكاثوليكية.

ووفقاً لنتائجه، فإن مستوى التنمية الاقتصادية هو العامل الرئيسي في تحديد استقرار / انعدام العنف في بلد ما، حيث تتمتع الدول ذات الدخل المرتفع باستقرار أكبر / عنف أقل.

أما متغير الإسلام فليس ذو دلالة إحصائية في ذلك. وعندما يتناول المرء التنمية الاقتصادية، يكون الدليل على وجود صلة بين الإسلام والعنف ضعيفاً في أحسن الأحوال . واستنكر فيش أيضاً الافتراضات بأن المسلمين أكثر تديناً من المسيحيين، وأن الحياة السياسية في المجتمعات الإسلامية تتحدد بالدين الذي يعتبر حليفاً للسلطوية.

ويجادل فيش بأنه لا يوجد دليل يثبت العلاقة القوية بين الدين والخيارات السياسية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة . وهكذا، أظهر استطلاع مارك تيسلر ، استناداً إلى بيانات الرأي العام التي تم جمعها في فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) والمغرب والجزائر ومصر، أن الارتباط القوي بالإسلام لا يؤثر سلباً على دعم الديمقراطية.

وعلى العكس من ذلك، خلص تيسلر إلى أنه كلما كان الالتزام بالإسلام أقوى، كلما زاد دعم الديمقراطية . وهناك نتيجة أخرى لاستطلاعه وهي أن دعم الإسلام السياسي لا ينطوي على رفض الديمقراطية.

ووفقا لتسلر أيضاً، فإن أولئك الذين يؤيدون الحركات والبرامج الإسلامية ليسوا أقل من غيرهم في تأييد التنافس السياسي والرغبة في تبني آليات لمحاسبة القادة.

هؤلاء الناس لا يرون عدم توافق بين الديمقراطية والحكم الإسلامي. وبدلاً من ذلك، يشتكي الكثير منهم من النظام السياسي الحالي ويدعمون بديلاً يتضمن كلاً من المبادئ الديمقراطية للاختيار والمساءلة والمبادئ الإسلامية للعدالة وحماية الضعفاء .

في دراسة تجريبية أخرى، قارن ألفريد ستيبان وجرايم ب. روبرتسون الأداء السياسي للدول الإسلامية في الفترة من 1973 إلى 2002 لرؤية العلاقة بين الإسلام والديمقراطية. ووجدوا أن الاختلافات في مستوى الديمقراطية بين الدول الإسلامية وغير الإسلامية في العالم النامي لا تختلف اختلافاً كبيراً.

فمن بين 29 دولة غير عربية ذات أغلبية مسلمة كانت محل الدراسة، كان أكثر من الثلث يتمتعون بحقوق سياسية كبيرة لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، وشهد أكثر من ربعها هذا لمدة خمس سنوات متتالية على الأقل .

ومع ذلك، فقد وجدوا فرقاً بين الدول العربية وغير العربية عند مقارنة مستوى الديمقراطية وفقاً للقدرة التنافسية الانتخابية والحقوق السياسية والمدنية وما شابه.

وخلصوا إلى أن “الدولة غير العربية ذات الأغلبية المسلمة كانت أكثر قابلية بـــ 20 مرة لتكون “قادرة على المنافسة الانتخابية”من الدولة العربية ذات الأغلبية المسلمة” .

ووفقاً لنتائجهم، فرغم أنه قد يكون هناك “عجز في الديمقراطية” في الدول ذات الأغلبية العربية، إلا أنه لا يوجد ذلك في 31 دولة ذات أغلبية مسلمة غير عربية. ولذلك، يمكن اعتبار غياب الديمقراطية في هذا الجزء من العالم سببه الثقافة العربية وليس الدين.

وبمعنى آخر، فإن الفجوة الديمقراطية عند المسلمين هي في معظمها فجوة عند العرب فقط، لكن البحث لم يقدم تحليلاً في كيفية تسبب “الثقافة العربية” في هذه النتيجة.

***

سيلين م. بولمي ـ أستاذة العلاقات الدولية بجامعة مرمرة، تركيا

____________

مواد ذات علاقة