يستعرض هذا التقرير جهود تحالف دعم الثورات المضادة لوأد أحلام الشباب العربي، والانهيارات التي لحقت بهذا التحالف، والأمل الذي يحيا من جديد، مع كل موجة من انتفاضات العرب، وثوراتهم المستمرة.

.

الجزء الثالث

الخلاف مع الإمارات: أين ينتهي تحالف المصالح بعد ذلك؟

تزداد الشروخ الصغيرة في التحالف الإماراتي السعودي لتصبح شقوقاً وكسوراً، لدرجة أنها أثارت الشكوك في روابط التحالف بين السعودية والإمارات، وهما اثنتان من أثقل القوى السياسية والعسكرية في شبه الجزيرة العربية

تغضب السعودية من دعم الإمارات لحركة المنشقين الجنوبيين ضد حكومة اليمن برئاسة عبدربه منصور هادي، الذي كانت تحاول الإمارات استعادة سلطاته بالشراكة مع السعوديين منذ أن أطاح به الحوثيون في عام 2015، وكانت هذه ضربةً موجعة للحملة التي تقودها السعودية

على الرغم من أن حركة أبوظبي كانت متوافقة تماماً مع تحركات الرياض دبلوماسياً وعسكرياً، بعد بداية التدخل الذي تقوده السعودية في عام 2015 لصالح حكومة هادي المعترف بها دولياً، أصبح جلياً منذ صيف 2018 أن المصالح الإماراتية والسعودية في الحقيقة لم تكن متطابقةً أبداً.

وطالما رأت السعودية كل شيء في ضوء صراعها مع إيران على السيادة الإقليمية

ولذلك ترى دعم طهران للمتمردين الحوثيين تهديداً أمنياً كبيراً، وجزءاً من استراتيجيةٍ لتأسيس منطقة نفوذٍ وعداء على حدودها الجنوبية.

ونتيجة لهذا، واصلت السعودية الحرب باعتبارها جبهةً أخرى في الصراع الوجودي من نظرها، وطبقت سياسة الأرض المحروقة في اليمن، وهو ما أضر بالسكان المدنيين كثيراً، وكذلك البنية التحتية، وأنتج أزمةً إنسانية ومن الممكن أن يكون قد ورَّط الولايات المتحدة وموردي سلاح آخرين في جرائم حرب وفقاً لتقرير خبراء الأمم المتحدة المنشور في الثالث من سبتمبر/أيلول.

تتوقف السعودية الآن عند منعطف طرق صعب، لا هي قادرة على الاستمرار، ولا على إنهاء الحرب من طرف واحد. وربما كان هذا هو السبب في البحث عن وساطة مع عدوها الرئيسي، إيران، لتلتقط أنفاسها من جحيم الحدود الجنوبية، ومطاردات العداوة والصراع مع طهران وأذرعها في كل المنطقة.

لكن الإمارات ترى الأمر على نحوٍ مختلف. إذ بدت أقل اهتماماً بتحقيق هزيمة للإيرانيين وحلفائهم من الحوثيين، واكتفت بتحقيق مكاسب محدودة معينة

فبسبب إدراكها لبعض الحقائق الاقتصادية، والقرب الجيوسياسي من إيران، كان عليها أن تتخذ حلاً أكثر عملية في التعامل مع طهران. وأرادت أبوظبي على وجه التحديد منع سقوط الميناء الجنوبي في عدن في قبضة القوات الحوثية، وبالتالي تهديد خطوط الشحن عن طريق باب المندب، الذي تعتمد عليه المصالح الإماراتية كثيراً.

تواجه العلاقات السعودية الإماراتية بعض التوترات بسبب الطريقة التي تم بها قتل الصحفي السعودي الذي يعيش في أمريكا جمال خاشقجي داخل السفارة السعودية في إسطنبول بتركيا

ففي حين كان زعماء الإمارات يعلنون دعمهم لوليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي يعتقد الكثير أنه من أمر بالقتل، بدا أنهم يعيدون التفكير في مدى حكمة ارتباطهم الوثيق بقيادته وسياساته

فبعد امتطاء ظهر السعوديين لبلوغ النفوذ في واشنطن، وبعد الاستفادة من العلاقة الوثيقة بين محمد بن سلمان وولي عهد أبوظبي والحاكم الفعلي للإمارات محمد بن زايد، بدأ قادة الإمارات في القلق من أن سُمعتهم قد تتلطخ بعد انخفاض الرصيد السعودي في واشنطن

وبالتالي، بدأوا في التنصل بهدوء من محمد بن سلمان ونظامه.

الولايات المتحدة وإسرائيل .. في دراما الانتخابات والعزل الرئاسي

التقت مصالح إسرائيل مع أهداف نادي الثورة المضادة في بلدان الربيع.

وأغدق أعضاء النادي كل أنواع العون على طغاة ما بعد ثورة الميادين، في البلدان التي خسر فيها الربيع العربي جولته الأولى.

استمرت الثورة العربية المضادة في منحنىً تصاعدي سريع وخطير، وصل إلى ذروته بصعود دونالد ترامب إلى سدة الحكم في أميركا في 2017.

ويبدو أن هذا الحدث أخرج الثورة المضادة عن عقالها، وجعلها تتخلى عن أي محاولةٍ للتخفي أو الحذر.

منذ صعود ترامب، تحولت الثورة المضادّة نحو إسرائيل واليمين المتطرّف بشكل فاق التصور، وجعل دولها، وفي المقدمة السعودية والإمارات، تخسر كثيراً من دعم الجماهير العربية التقليدي لهما.

ودعم الجماهير لا يهم كثيرا، إذا كان الصديقانفي أميركا وإسرائيل رهن المساعدة والدعم.

لكن الصديقينأصبحا خارج نطاق الخدمة، لأسباب هناك، خاصة بكل منهما.

بعد صعود ترامب، صمتت نظم الثورة المضادّة على نقل ترامب سفارة بلاده إلى القدس، وتعاونت مع إدارته في ما صفقة القرن، التي رفضها الفلسطينيون، بمختلف توجهاتهم.

الحماية التي وفرها ترامب لنظم الثورة العربية المضادة دفعها إلى التوحش داخلياً وإقليمياً، فاغتال مسؤولون سعوديون كبار الكاتب جمال خاشقجي، وقام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بتعديل الدستور بما يسمح ببقائه في السلطة أكثر من مدتين، وواصل ضغطه على المجال العام باعتقال عشرات الآلاف من الناشطين والمعارضين من كافة ألوان الطيف السياسي.

لكن ترامب يواجه الآن مقصلته الداخلية، وهي إجراءات محاسبته وربما عزله على خلفية مكالمته مع الرئيس الأوكراني.

ترامب الذي ظل يهرب من ضغط مهام الرئاسة بعدم القيام بهذه المهام وإهمال حتى أجندته، كما وصفته كاتبة أمريكية، لم يتقن سوى تمجيده المستمر لذاته.

وقد كان انخفاض معدل البطالة إلى مستويات قياسية، والازدهار المستمر لسوق الأسهم، والتغيير في السلطة القضائية، من اللحظات المريحة التي ساعدته على الصبر، لكن من السهل افتراض بدء العد التنازلي من الآن مع قضايا أوكرانيا وأكراد سوريا.

تعاونت نظم الثورة المضادّة بشكل علني غير مسبوق مع إسرائيل، حيث تم استقبال مسؤولين إسرائيليين بشكل متكرر في الإمارات. وسمح نظام السيسي للطيران الإسرائيلي بضرب أهداف في سيناء.

وتقاربت السعودية بشكل غير مسبوق مع إسرائيل التي باتت تدافع بقوة عن سياسات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وأخطائه، وهو الذي صعد سياسياً بدعم أميركي.

لكن إسرائيل أمضت عام 2019 تقريبا في غمار أزمة سياسية انتخابية.

الآن يواجه رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، اتهاماتٍ بالفساد، أعجزته عن تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات الأولى، واضطرته إلى إعادتها

وفشل في حسم الانتخابات الثانية في سبتمبر/ أيلول، بعد أن فشل في تشكيل حكومة خلال الجولة الأولى في شهر نيسان/أبريل 2019.

وأصبح من المرجح أن تخوض إسرائيل غمار انتخابات تشريعية ثالثة، في ظل مؤشرات على عجز كل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ومنافسه بني غانتس، عن تشكيل ائتلاف حكومي جديد.

هي موجة جديدة من الربيع

هناك ثلاثة بلدان، هي اليمن وسوريا وليبيا، تجاوزت حالة الاضطراب وتمضي نحو مستقبل مجهول.

كان الآخرون هادئين خلال العام الماضي: السعودية والإمارات وبعض جيرانهم. لكن الدول الباقية شهدت احتجاجات كبيرة ضد  نقص فرص العمل، وانتشار الفساد، وسوء الإدارة. نتحدث عن الجزائر وتونس ومصر والسودان ولبنان والأردن والعراق.

بالقياس إلى عدد السكان، فإن حوالي ثلاثة أرباع المنطقة قد شهدت اضطرابات بسبب المظالم الاقتصادية خلال العام الماضي. هذا ليس أمرا هينا بهذه المنطقة من العالم.

إن قرار النزول إلى الشوارع قرار خطير، كما يبدو من مقتل العشرات في مظاهرات العراق، واعتقال المئات في مظاهرات مصر.

ليست كل الاحتجاجات الأخيرة لأسباب اقتصادية بشكل واضح، لكن بعض الشعارات تختبئ وراء شعارات تحسين الحياة، شعارات  تطالب بالحرية والديموقراطية، وتحسين مستوى المعيشة والخدمات الحكومية.

أعادت الاحتجاجات الجديدة ذكريات الربيع العربي الذي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2011، مما دفع العديد من الناس إلى التساؤل عما إذا كنا نشهد موجة ثانية من الربيع العربي، كما تذهب دراسة مركز الأبحاث تشاتهم هاوس البريطاني

الجواب المباشر هو: نعم، ولكن نتيجة هذه الاحتجاجات لم تُعرف بعد.

كانت الانتفاضات العربية لعام 2011 أربع خصائص رئيسية:

ـ الانتشار على امتداد البلاد بالكامل

ـ الاستمرار وقتا أطول من المعتاد

ـ الارتباط بمطالب واحتجاجات ذات طابع سياسي

ـ حركة عفوية لكنها تتسم بالتنسيق والترابط

وهذا ما يحدث في هذه الموجة الجديدة.

وهي موجة حتمية مثل توابع الزلازل، لأن أسبابها في غاية الوضوح.

السبب الأول هو انشغال نادي الثورة المضادة بمبارياته الخاصة.

والسبب الثاني هو أن أسباب الربيع الأول ما زالت قائمة.

ويبقى هو الخيار الوحيد المتاح

الدعم الغربي للأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط قصير النظر ويمثل فشلاً في التعلم من أخطاء الماضي

على الرغم من أن بعض تلك الأنظمة العربية الاستبدادية قد تبدو مستقرة، إلا أنها ذات أسس هشة، مما يجعلها عرضة للانهيار المفاجئ، ويفتح الطريق أمام انتشار الفوضى في المنطقة، كما كتب عبد الرحمن منصور الناشط المصري وأحد قادة العمل الثوري في مصر 2011.

ربما يكون الربيع العربي قد خفت في مصر واليمن وليبيا بفعل خليط من القمع والعنف، فضلا عن التدخل الإقليمي والدولي غير المسبوق.

إلا أن الشعوب العربية لا تزال قادرة على إيجاد طرق سلمية للتعبير عن غضبها، ولن تجدي محاولات التخويف التي تمارسها السلطات لمنعهم من المطالبة بحقوقهم.

يواصل العرب البناء على الموجة الأولى من الانتفاضات العربية في 2011.

ويبقى الحراك الشعبي السلمي هو الخيار الوحيد المتاح لمواصلة النضال من أجل الديمقراطية في المنطقة.

ولسوف تستمر الثورة المضادة في العالم العربي في فقدان قوتها.

ولسوف تنهار في نهاية المطاف تحت وطأة هذه الحركات.

____________

مواد ذات علاقة