بقلم محمود سمير الرنتيسي

تتناول هذه الورقة خلفية تطورات العلاقات التركيةالليبية وصولًا إلى توقيع الرئيس التركي ورئيس حكومة الوفاق، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، اتفاقين أحدهما أمني والآخر في المجال البحري.

.الجزء الأول

أهمية هذه الاتفاقيات لتركيا تكمن في آثارها على مستقبل ليبيا وعلى الصراع شرق المتوسط حول مصادر الطاقة الهائلة المكتشفة خلال العقد الأخير.

ترى الورقة أن الاتفاقيات الأخيرة تتعدى المكاسب الاقتصادية وتؤثِّر بشكل مباشر في تغيير قواعد اللعب شرق المتوسط حيث تثبت تركيا أنه لا يمكن استبعادها وأن بإمكانها إفساد جميع المخططات التي تستثنيها من الاستفادة من موارد الطاقة ومن عملية ربط حقول الغاز بالأسواق الأوروبية.

وتُظهر حكومة الوفاق التي تحمي نفسها بدعم دولة مثل تركيا كشريك مهم لخطط تركيا في المنطقة عمومًا، وبالتالي ستواصل تركيا دعمها مستفيدة من الغطاء الذي تقدمه لها ومن الاستياء الأميركي من سماح حفتر بوجود تدخل روسي شرق ليبيا ومن بعض الخلافات الأوروبية.

وفي نفس الوقت لا توجد ضمانات بألا تفتح هذه الخطوات التركية عليها جبهة جديدة أكثر خطورة وأكثر أعداء، ومع ذلك لا تُظهر تركيا أي نوايا للتراجع.

تعتبر العلاقات التركيةالليبية علاقات عميقة تاريخيًّا حيث تعود إلى سنة 1552، بمعنى أن العلاقات تخطت 500 عام عندما كانت ليبيا جزءًا من الدولة العثمانية حتى 1911 وجزءًا مهمًّا من استراتيجية الدولة العثمانية في فرض السيادة في سواحل المتوسط وإفريقيا في ظل تنافسها مع عدد من القوى الأوروبية وخاصة فرنسا.

وخلال فترة حكم القذافي، من عام 1969 حتى 2011، كانت العلاقات جيدة نسبيًّا وتعتبر أهم محطاتها دعم القذافي للتدخل التركي في قبرص، عام 1974. وفي فترة التسعينات، كانت العلاقات تسير بمسار تطوري وقد كان العامل الأهم في ذلك هو العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وهو الأمر الذي واصله حزب العدالة والتنمية بمزيد من الانفتاح حيث وصل التبادل التجاري إلى قرابة 10 مليارات دولار قبل 2010.

وبعد ثورة 17 فبراير/شباط 2011، وقفت تركيا مع خيار الشعب الليبي الذي طالب برحيل القذافي ولكن بعد فترة قصيرة من التردد ورفض تنفيذ الحظر الجوي على ليبيا خشية من الانعكاسات السلبية للفوضى التي تعقب ذلك وخشية ضياع مجموعة من المكاسب التي توصلت لها في حال تحول التدخل لاحتلال مباشر أو غير مباشر.

وقد كانت قيمة اتفاقية المشروعات التي رست مناقصتها على شركات تركية قبل الثورة في ليبيا والتي ظلت ناقصة لم تكتمل ولاسيما في مجال التعمير والبناء تُقدر بحوالي 18.5 مليار دولار. وبينما تقدر الأعمال التي وصلت مرحلة التسليم قبل الحرب الأهلية بـ3-4 مليارات دولار تقريبًا“.

ثم لم تلبث تركيا مع تقدم الثورة في ليبيا وبلدان أخرى أن تخلت عن أي حل يتضمن وجود القذافي في مستقبل ليبيا واعترفت بالمجلس الانتقالي الليبي ممثِّلًا لليبيا في يوليو/تموز 2011.

وفي 16 سبتمبر/أيلول 2011، زار رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، ليبيا وقدمت تركيا كافة أنواع الدعم للمجلس الانتقالي كما دعمت المؤتمر الوطني المنتخب في 2012.

ومع بدء العنف في ليبيا، في مايو/أيار 2014، بعد قيام الجنرال خليفة حفتر بعملية الكرامة العسكرية والتي واجهتها عملية أخرى من كتائب الثوار أُطلق عليها فجر ليبيا، حاولت تركيا تجنب التدخل المباشر ودعت إلى تفعيل العملية السياسية والحوار بين كافة الأطراف، كما تقيدت حركة تركيا في ليبيا مع وجود حكومتين تتنافسان على الشرعية، وكذلك وجود تشكيلات أمنية خارج التشكيلات الحكومية في طرابلس.

وبعد ذلك اختارت أنقرة دعم حكومة الوفاق المدعومة من الأمم المتحدة على الجانب الآخر الذي مثَّله حفتر الذي دعمته دول أخرى تتعارض مصالحها مع تركيا مثل الإمارات ومصر وفرنسا، وقد قدمت هذه الدول دعمًا عسكريًّا لحفتر على الرغم من الحظر المفروض مما دعا تركيا لتقديم الدعم لقوات حكومة الوفاق.

وبالرغم من رعاية الأمم المتحدة لعملية حوار ليبي، أقدم حفتر على شن حملة عسكرية، في أبريل/نيسان 2019، للسيطرة على طرابلس ومنذ ذلك الحين لم يستطع أن يحقق أهدافه وخاصة بعد الدعم الكبير الذي قدمته تركيا لحكومة الوفاق والذي شمل مدرعات وصواريخ مضادة للدروع وطائرات بدون طيار.

وذلك وفق اتفاقية دفاع مشترك أعلن عنها أردوغان، في يوليو/تموز 2019، من خلال تصريحه: “لقد أبرمنا اتفاق تعاون عسكري مع ليبيا، وسنزودهم بالأسلحة في حال طلبوا ذلك ودفعوا ثمنها، فقد واجهوا مشكلة فيما يتعلق بتلبية احتياجاتهم الدفاعية“.

وكانت تركيا هددت بعمل عسكري ضد حفتر بعد احتجاز الأخير لستة بحارة أتراك أفرج عنهم لاحقًا، في يوليو/تموز 2019..

المصالح التركية في ليبيا

تَعتبر تركيا، ليبيا دولة مهمة في أجندة المصالح التركية، وتُعتبر من الدول القليلة التي حدَّد الرئيس أردوغان لها مبعوثًا خاصًّا لمتابعة العلاقات معها، وهو أمر الله إيشلر، والذي تم تعيينه في أكتوبر/تشرين الأول 2014، حيث تجتمع في ليبيا لتركيا عدة مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية.

كما أن ليبيا مفيدة لتركيا على عدة محاور فهي جزء من البلدان العربية (الربيع العربي) ودول البحر المتوسط وأحد بوابات تركيا لإفريقيا ولها أهمية أيضًا في علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي.

ومع أن تركيا لديها مصالح اقتصادية مع ليبيا التي تعتبر صاحبة أكبر احتياطي نفط في إفريقيا بحوالي 40 مليار برميل (الخامسة عربيًّا، 3.76% من الاحتياطي العالمي) بالإضافة إلى احتياطيات غاز تُقدَّر بحوالي 54.6 تريليون قدم مكعب، ما يضعها في المرتبة الـ21 عالميًّا في احتياطيات الغاز.

ووجود مشروعات معلقة لتركيا بقيمة 19 مليار دولار وأكثر وطموح بتنفيذ مشاريع كبرى لاحقًا في عملية إعادة إعمار ليبيا، بالإضافة لعملية تشجيع المستثمرين الليبيين للاستثمار في تركيا.

إلا أن المصالح التركية في ليبيا تتجاوز المصالح الاقتصادية الثنائية المجردة لتكون جزءًا من استراتيجية رفع مكانة ونفوذ تركيا في ظل التنافس التركي مع عدة أطراف دولية وإقليمية وجزءًا من التوجه المتزايد في السياسة الخارجية التركية في الاعتماد على القوة الخشنة والذي يتمثل في مظاهر مثل اتفاقيات الدفاع وصفقات السلاح والعمليات والقواعد العسكرية بعد تركيز تركيا في الأعوام قبل 2011 على التنمية والبعد الاقتصادي.

وفي هذا السياق، فإن دعم تركيا لحكومة الوفاق يدعم من جهة موقفها المساند للقوى التي ظهرت بعد الربيع العربي في المواجهة مع الدول المدافعة عن الوضع الراهن والتي تدعم جبهة حفتر بقوة حيث تَعتبر تركيا ليبيا أحد آخر المعاقل بعد فشل الثورة في مصر وسوريا واليمن وعدم الاستقرار في السودان.

كما يضيف لتركيا شريكًا في منطقة شرق المتوسط بدلًا من المواجهة المنفردة لكتلة من الدول تجمع مصر وإسرائيل وقبرص واليونان التي تعمل على عزل واستبعاد تركيا في ظل التنافس على كميات هائلة من موارد الطاقة المكتَشَفة شرق المتوسط (حوالي 3.5 تريليونات متر مكعب من الغاز الطبيعي و1.7 مليار برميل من النفط الخام) والتي تحتاج لها تركيا بقوة لتمارس قدرًا أعلى من الاستقلال في سياستها الخارجية من جهة أخرى.

فضلًا عن أن وجود علاقات قوية لتركيا مع ليبيا يقوي موقف تركيا البحري في التنافس التاريخي والنزاع على السيادة على بعض جزر المتوسط مع اليونان وحتى في أي مباحثات أخرى مع دول الاتحاد الأوروبي نظرًا للاهتمام الأوروبي الكبير بمستقبل ليبيا.

وعلى الجانب الآخر، فإن احتياج حكومة الوفاق للدعم العسكري في ظل وجود عدة داعمين لحفتر يقدم فرصة لتركيا لعقد صفقات السلاح والمعدات العسكرية وهو القطاع الذي تسعى تركيا لتطويره بقوة في السنوات الأخيرة وخاصة المدرعات وطائرات بدون طيار وأنظمة الصواريخ. وقد نشرت مواقع متخصصة بالأسلحة معلومات عن تزويد تركيا لحكومة الوفاق بأسلحة متقدمة.

البقية في الجزء الثاني

***

محمود سمير الرنتيسي، باحث متخصص في الشأن التركي

_____________

مواد ذات علاقة