هل نشهد حاليا ولادة عالم جديد؟

بقلم د. وضاح خنفر

اللحظة التي يعبرها العالم اليوم بالغة التأثير عميقة الأثر، وسوف تدخل التاريخ نقطة تحول جذرية، تؤسس أنماطا جديدة، وتعزز أخرى موجودة بالفعل في عوالم الاجتماع والاقتصاد والسياسة.

.(2)

الموت الأسود وميلاد العقلانية الأوروبية 

عام 1348م، أصاب البشرية فناء عظيم، طاعون مدمر يسمى بالموت الأسود أو الطاعون الكبير(Black Death)، اجتاح العالم بأسره، وقتل في وسط آسيا والصين مقتلةً عظيمة، في الصين قُتل 40% من سكانها، ونسبة الوفاة كانت تزيد عن 90% من المصابين، من يُصاب به لا يعيش إلا يوما أو يومين، انتقل من آسيا إلى أوروبا واستغرقت رحلته خمسة عشر عامًا، فطرق التجارة كانت بطيئة

يعرف هذا الطاعون في أدبيات المورخين المسلمين في منتصف القرن الثامن الهجري  باسم الطاعون العام، ونقرأ أخبارا مفزعة في كتب المؤرخين المسلمين الذين عايشوه في الشام وفي مصر، كابن الوردي الذي كتب رسالة في وصف المرض كما عايشه، وقد مات بسببه، ومما ذكر أنّ الجنائز في القاهرة كانت تزيد عن عشرين ألف جنازة في اليوم، حتى لا يجد النّاس من يدفن، وصار الدفن مكلفًا ويتهرب الكثيرون منه بسبب العدوى

يقدر عدد ضحايا الطاعون بمائة مليون، وهذا عدد ضخمٌ مقارنةً بعدد سكان العالم المقدر وقتها  475 مليون، أي أن حوالي الثلث قضوا في سنة 1348م، هذا الوباء في ثلاثة أشهر ما يزيد عن 20% من سكان العالم، ثمّ استمر بعد ذلك يقتل النّاس لسنواتٍ طويلة، إلى أن بلغ عدد ضحاياه مائتي مليون إنسان وفق تقدير الباحثين.

كما كان طاعون جاستنيان إيذانا بنهاية الدولة البيزنطية وولادة الدولة الإسلامية، كان الطاعون الكبير إيذانا بانتهاء العصور الوسطى في أوروبا وبداية عصر النهضّةوهذا عائد لأسبابٍ كثيرة، فعندما وقع هذا الطاعون كان أكثر ضحاياه من الفقراء،

وفي القرن الرابع عشر كان النظام الاقتصادي يعتمد على الإقطاع، وقد وصل ذروته في أوروبا؛ النبلاء يُسيطرون على أراضي شاسعة والفقراء يعيشون فيها عبيدا يُمارسون الزراعة لمصلحة النبلاء؛ بعد الطاعون وجد النبلاء أنفسهم بدون عمال لفلاحة الأرض، فقد مات منهم خلق كثير، وأصبح عددهم قليلًا، فصار العمال يطالبون بحريات أكبر وحقوقٍ أكثر، وصولًا إلى إنهاء الرق والإقطاع في أوروبا.

حاول الإقطاعيون أن يستعيدوا سطوتهم لكن الفقراء لم يُمكنوهم من ذلك، لذا يعتبر المؤرخون أنّ الطاعون الأسود هو الذي أطاح بمنظومة الإقطاع.

 وتعدى تأثيره إلى الدين، فالكنيسة  التي كانت تهيمن على الحياة السياسية والروحية اهتزت سطوتها، فها هي تقف عاجزة أمام الطاعون

كان القرن الرابع عشر  من القرون المميزة عالميا، كان العالم الإسلامي يعيش عهدا ذهبيا، ويرى العالم أنّ المسلمين أكثر تقدمًا وتطورًا في العلم، الطب، الفلك والهندسة، وفي مختلف مناحي الحياة الحضارية الإنسانية، وشهد الأوروبيون ذلك في الأندلس، ورأت فيها ما لم تره في جامعاتها وكنائسها وعند مثقفيها، فالأندلس في ذلك الوقت كانت نقطة حضارية مُضيئة في عالم مُظلمٍ تعيشه أوروبا، ونعرف أنّ بعض الأطباء المسلمين كانوا يستعان بهم لمداواة نخبة أوروبا وباباواتها، فالطب في أوروبا كان شعوذة وخزعبلات.

الطواعين الكبرى تُثير أسئلة وجودية عن معنى الدين والحياة وما الذي ينبغي على الإنسان أن يفعله حتى يتجاوز هذه الحالة

الكنيسة فسرت الطاعون بأنّه غضبٌ الله قد حلّ على الناس بسبب معاصيهم، لكنها فشلت في تقديم حلول لرفع البلاء، عندها اهتدى الناس إلى دروب أخرى لمحاولة استكشاف الحقيقة وصولًا إلى ميلاد ما نعرفه بالعقلانية الأوروبية التي تسربت بداياتها من الأندلس تحديدًا، وصولًا إلى النهضة الأوروبية الشاملة في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

يؤرخ المؤرخون بالطاعون الكبير بداية لعصر النهضة الأوروبية، ويعتقدون أنّه كان أحد البواعث الكبرى لإنهاء الإقطاع وانطلاق مرحلة التعقل والعقلانية الأوروبية وصولا إلى مرحلة النهضّة، ثمّ انحسار التأثير الكهنوتي على الحياة العامة، لاسيما الحياة السياسية والعلمية.

 لم تسجل الإنسانية منذ ظهور الطاعون الأسود ولا قبله خسائر بشرية كالتي سجلتها وقتئذ،  واحتاجت البشرية إلى مائتي سنة لكي تُعوّض الذي ماتوا في هذا الوباء

مع نشوة النصر لوعة الأنفلونزا

الوباء الرابع هو الأنفلونزا الإسبانية، الذي سببه فيروس H1N1،  من سنة 1918م إلى 1920م، أي بعد الحرب العالمية الأولى، ويسمى بالانفلونزا الإسبانية ليس لأنّه بدأ في إسبانيا، بل لأن الذين تحدثوا عنه ونشروه كانوا من الإسبان، والصحف الإسبانية كانت تملك قدرًا من الحرية، بينما كان العالم غارقا في آثار الحرب العالميّة الأولى، وكان الناس في ذلك الوقت لا يودون متابعة أخبار الموت، بعدما خرجوا من رحى الحرب العالمية الأولى، والتي كانت من أسباب انتشار الطاعون من خلال الجنود الذين عادوا إلى بلدانهم بعد قتالهم في مختلف أنحاء أوروبا، فنقلوا إضافة إلى احتفالات النصر الفيروس القاتل،  فانتشر انتشارا مُريعًا

أدت جثث قتلى الحرب في تلك المرحلة والفقر الشديد إلى مضاعفة الأنفلونزا، ويقدر عدد الذين أصيبوا به 500 مليون، وقتل ما لا يقل عن 70 إلى 100 مليون إنسان في مختلف أنحاء العالم ما نسبته 20 إلى 30%، ونسبيا تأثيره أقل من تأثير الطاعون الأسود لأن عدد سكان العالم كان في حدود مليار و900 مليون.

بقي نفس الفيروس كائنا كأنفلونزا موسمية، حتى أعاد إنتاج ذاته في أنفلونزا الخنازير سنة 2009م، هذه الأوبئة لا تموت إنّما تعاود الكرة بعد الكرة عبر أزمنة طويلة تصل إلى مئات السنين في بعض الأحيان، لكن الإنسانيّة تطوّر قدرًا أعلى من المناعة مع الزمن ضد الفيروس وتستطيع أن تتجاوزه باللقاحات أو بالمناعة الطبيعية، إلى أن يتطور الفيروس ويعاود الكرة معززا بطفرات جديدة.

فيروسات أكثر تقدمًا.. تُواجه العالم المتقدّم!

وصلنا إلى العصر الذي نحن فيه، وظهور فيروس كورونا المستجد، وهو ليس الجيل الأول بل الجيل السادس من فيروسات كورونا التاجيّة، نسبة الموت فيه قليلة مقارنة بالأوبئة الكبرى التي اجتاحت البشرية، لأن قدرة الإنسانية على التعافي حاليا أفضل  مما كانت عليه في السابق، كالنظافة، وتطور الدواء وازدياد المناعة والغذاء، ذلك أن معظم الأوبئة الكبرى جاءت بعد مجاعات أضعفت المناعة الإنسانية

الوضع الصحي في العالم اليوم أفضل بكثير من الماضي، لكن الفيروسات أيضا أصبحت أكثر تقدما وقدرة على إعادة إنتاج نفسها

ما الذي يعنيه الواقع؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة للمستقبل؟ 

تنبئ مختلف الدراسات بأنه لا وجود لحلٍ سريع ينهي على عجل تقدم الفيروس،  لذلك فالكوكب حاليا في حالة الإغلاق، والدولة التي لم تغلق بعد ستفعل قريبا، والتي لم تفرض حركة مشددة على الناس والأسواق ستفرض قريبا، لأنّ هذا المرض ينتقل بسرعة هائلة، لذا ينبغي على العالم أن يُغلق أبوابه، فالكرة الأرضية كلها ستدخل في وقت متزامن حالة الجمود والانعزال، حالة لم يسبق لها مثيل أبدا.

لم نعرف في مراحل تاريخية أنّ المساجد أغلقت أبوابها تماما كما يحدث في معظم دول العالم، هذا النداء الذي ينادي به المؤذن في الأوقات الخمسة صلوا في رحالكمأو صلوا في بيوتكملم يكن معهودا، سمعنا عنه في السيرة النبوية التي أعطت إذن التيسير للنّاس، عندما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يصلوا في رحالهم بسبب المطر الشديد، أصبح هذا في غضون أسبوع واحد نمطا عاما في معظم مساجد العالم وفي نفس الوقت

تعليق الحرية الفردية إلى إشعارٍ غير معلوم!

اليوم نرى ما لم نتصور أبدا أنه سيقع في يوم من الأيام؛ تغلق المساجد والكنائس والمعابد، يجلس الناس في بيوتهم وتغلق المحلات التجارية، والحدود والمطارات، وهذا شيء غريب على الإنسانية، لأن حرية السفر والتنقل من الحريات الكبرى التي شعر الإنسان المعاصر في العهد الليبرالي الحديث أنه قادر على أن يمارسها متى ما شاء، واعتُبرت من الحقوق الإنسانية الأساسية.

 حتى إذا ظن الإنسان على أنه قد سيطر على الأمر، وأنه قادر على أن يأخذ أقرب طائرة إلى أي مكان يريده في العالم، جاء أمر الله بأن لا يتحرك من بيته، بل بأن يحد من التواصل مع الناس حتى مع من هم في بيته

كل هذا شيء غير معهود وغير مألوف وغير متوقع ولا نعرف بالضبط متى سينتهي، وهنا مكمن الخطورة؛ من يقول بأن هذا الفيروس ربما سينتهي بعد أسبوعين أو ثلاثة فهو مخطئ، لأن أقل الدراسات تفاؤلا تشير إلى أننا نحتاج على الأقل إلى حزيران وربما نحتاج إلى أبعد من ذلك، وأكثرها يذهب إلى أننا نحتاج إلى ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا حتى نستطيع أن نحتوي هذا الفيروس.

ما نعانيه اليوم مسألة طويلة، قد تتغير الأوضاع ويسمح للناس بالتحرك المشروط ولكن لا شك بأن القضاء على هذا الفيروس أو نزوله من المرحلة الخطيرة إلى المرحلة المعتدلة يحتاج إلى وقت طويل نسبيا قد يصل إلى عام أو عامين.

***

وضاح خنفر ـ صحفي فلسطيني، رئيس منتدى الشرق ، وهي شبكة مستقلة مكرسة لتطوير استراتيجيات طويلة الأجل للتنمية السياسية والعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي لشعوب الشرق الأوسط. شغل سابقاً منصب المدير العام لشبكة الجزيرة الإعلامية. أسس في 2015 موقع هافنغتون بوست عربي.

___________

مواد ذات علاقة