هل نشهد حاليا ولادة عالم جديد؟

بقلم د. وضاح خنفر

اللحظة التي يعبرها العالم اليوم بالغة التأثير عميقة الأثر، وسوف تدخل التاريخ نقطة تحول جذرية، تؤسس أنماطا جديدة، وتعزز أخرى موجودة بالفعل في عوالم الاجتماع والاقتصاد والسياسة.

.(4)

على حافة حضارة الجشع

النقطة الرابعة التي ستغير من الواقع الإنساني العالمي هي البحث عن نموذج اقتصادي عالمي أكثر استقرارا وعدالة.

النموذج الاقتصادي الذي نعيشه حاليا وصل بنا من الجشع إلى درجة لم يسبق لها مثيل ووصل بنا إلى درجة من الأزمات لا سابق لها، من 1929م إلى اليوم نعيش حالات متزامنة من الأزمات، لكن الجشع يزداد والطمع يزداد و1 بالمئة يسيطرون على ما يعادل أملاك 3.8 بليون شخص في العالم.  

وهذه في الحقيقة حالة غير قابلة للاستمرار، كيف يمكن لنا أن نخرج بأفكار جديدة لاقتصاد عالمي جديد؟ هذا جدل إنساني عالمي سوف يحتدم في قابل الأيام لمحاولة الإجابة على هذا السؤال.

 في الأيام الماضية كتبت مقالات تطالب بتطبيق بفكرة الدخل الأساسي الأدنى minimum basic income للجميع أي كل إنسان يحصل على الحد الأدنى اللازم لحياة كريمة، وهي فكرة نشأت منذ عقود لكنها لم توفق في أن تنتشر عالميا، لكن الناس بدأوا يتحدثون عنها الآن.

أيضا بدأ الحديث عن أفكار أخرى لتخفيف الفجوة بين الأغنياء والفقراء وهذا قد يأتي في المستقبل بأفكار مختلفة عن أفكار السوق الحرة وجشع وول ستريت والاقتصاد العولمي. الاقتصاد الذي نعيشه اليوم اقتصاد متوحش وصل نهاياته المنطقية الكارثية.

تأمل معي في أن 20 مليون طالب من طلاب المدارس في أمريكا، الدولة الأغنى عالميا، لا يستطيعون ألا يذهبوا إلى المدارس لأنهم يعيشون على الوجبات التي تعطى لهم في المدارس، ذهابهم للمدرسة ضرورة من أجل الطعام. هذا في أكبر دولة متقدمة في العالم تنفق تريليون دولار سنويا على السلاح.

البشرية اليوم تعيش حالة من الجنون أنفقت أموالا لا حصر لها لتجهيز الصواريخ النووية، حتى حرب الفضاء وأشياء غير متخيلة، غير متوقعة وغير ممكنة، أنفقنا أموالا على أدوات القتل بجنون عبثي.

ونسينا أن ننفق بعض هذه الأموال على ما يمكن أن يحصن البشرية من أمراض وطواعين كنا نعتقد أن أسلافنا فقط هم من يصابون بها! هذا من فشل الإنسان المادي المعاصر، لقد ظهر بالفعل الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس!

تعدي سنن الله في الخلق والوجود

هناك سنن خلقها الله سبحانه وتعالى لحفظ الميزان الطبيعي، وهذه السنن إذا لم يراعيها الإنسان وأخلّ  بها فإن آثارها تكون مدمرة

يقول الله سبحانه وتعالى «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ» [ سورة النحل: 112] فلباس الخوف والجوع يقع عندما تختل علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقته بالطبيعة.

العصر الذي نعيشه اختلت فيه علاقة الإنسان بالإنسان بسبب التوحش المادي والجشع الهائل الذي اجتاح البشرية، فتجد رجلا يمتلك مئة مليار فما فوق من الدولارات وتجد أمما تعتاش على النفايات. هذه حالة غير معقولة وغير قابلة ولا قادرة على البقاء

البشرية عتت عتوا كبيرا في مجال الطبيعة. قبل شهور قليلة كنت أقرأ مقالا عن الحرائق في أستراليا وقبلها الحرائق التي أطاحت بجزء كبير من الأمازون، يقول فيها الكاتب أن رئة الكرة الأرضية تفسد، فهذه الغابات تنتج الأكسجين اللازم للكائنات الحية بما فيها الإنسان، واحتراقها كان بسبب التغير المناخي climate change وهو مظهر آخر للجشع الإنساني واللهاث المحموم خلف سراب النمو الاقتصادي المتواصل الذي لا يزيد البشرية إلا معيشة ضنكا وسوء عاقبة، ولا يمنحها سعادة ولا هناء ولا رخاء.

عندما قرأت أن فيروس كورونا يصيب الرئة البشرية قلت سبحان الله،  دمرنا رئة الأرض بطمعنا وجشعنا ورئتنا الآن تتدمر عقوبة على ما فعلنا. أعتقد أن هناك اتصالا وثيقا بين الإنسان والوجود، وما يقع على عالم الطبيعة من ضرر يعود على الإنسان.

لأن الإنسان في النهاية مخلوق طبيعي، وهو كائن حي يعيش في واقع طبيعي، وبالتالي فالأكسجين الذي يفسد والمناخ الذي يتغير والكوكب الذي يتضرر يعود علينا مرة ثانية على شكل أمراض وأوبئة ومجاعات وفقر وفيضانات وأعاصير وحرائق.

وبالتالي الفساد الذي يتكلم عنه الله سبحانه وتعالى في البر والبحر يعود على الإنسان أيضا بالضرر والعقوبة. لا كعقوبة إلهية نازلة من السماء نزولا آنيا وإنما كخلل كبير في سنن الله تعالى يعود ضررها وشررها على البشرية جمعاء.

ولذلك فالاستقامة على المناهج والسنن الإلهية هي ضرورة من ضرورات الحياة الكريمة، والفشل في ذلك عواقبه وخيمة على البشرية جمعاء لا تصيب واحدا أو اثنين ولكن تصيب الكرة الأرضية كلها.

الأرض اليوم مصابة سقيمة، والإنسان أصابها بهذا السقم، ومرضها يعدي الإنسان والحيوان والكائنات المختلفة. ينبغي لنا أن نعترف ككائنات بشرية في هذا القرن أننا الأسوأ في تاريخ الإنسانية من حيث اعتدائنا على سنن الله تعالى في التوازن الطبيعي، وتغييرنا لخلق الله، وإضرارنا بمصالح الخلق عامة.

لقد أودينا بعشرات الآلاف من أنواع الكائنات الحيوانية والنباتية التي انقرضت بسبب طمع الناس غير المحدود. وهذا يعود علينا وبالا، لأن ما يقع في الطبيعة من خلل يقع في الإنسانية

يمكنك الاستزادة هنا 

تغيرات جيوسياسية

العواقب الاستراتيجية لوباء كورونا معقدة جدا،  لا نستطيع الحكم الآن على نهايات قطعية، أو أن نتنبأ بواقع العالم بعد فيروس الكورونا بشكل حتمي،  لكن نستطيع أن نتلمس بعض المؤشرات

إذا كانت الصين تتعافى رغم أننا لا نستطيع الجزم بهذا الآنولكن إذا افترضنا أن الصين بدأت تتعافى بينما تدخل أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأخرى في ذروة المرض، فمعناه أن وضع الصين اقتصاديا واستراتيجيا سيكون أفضل من بقية دول العالم

إذا استمرت حالة الانهيار الاقتصادي الحالي وصولا إلى ركود عالمي كبير، فإن الكثير من دول العالم ستتضرر ضررا غير قابل للإصلاح، وسيصاب النظام الاقتصادي في مقتل. وستعاني الدول الصناعية التي يعتمد اقتصادها على التصدير، ومن بينها الدول المنتجة للنفط

من ناحية أخرى واقع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل رئيس مهووس بذاته ليس مبشرا بالخير، وصورة أمريكا ستهتز، داخليا ستعاني من اضطراب النظام الصحي الأمريكي فهو ليس مهيئا لاحتواء تداعيات كورونا، فالنظام الصحي الأمريكي قد ينهار بسبب نظام التأمين الصحي السيء، وهناك نسبة هائلة من السكان ليس لديهم القدرة على دفع تكاليف العلاج، مما قد يؤدي إلى تفشي المرض سريعا وإلى حالة من الذروة  لا تستطيع المستشفيات احتوائها، وهذا سيعزز من الركود الاقتصادي.

أمريكا اليوم تحاول بشكل مستميت أن تحتوي الأزمة فلم يحدث في التاريخ أن واجهت واقعا صحيا متعثرا مثل هذا.

الأموال التي تضخها أمريكا في الأسواق بمئات المليارات لمقاومة الانهيار الاقتصادي الحالي مذهلة، ومع هذا تواصل الأسواق بدون رحمة هبوطا مدويا كل يوم حتى بعد انخفاض نسبة الفوائد من قبل البنك الفدرالي في أمريكا إلى الصفر

يمكنك الاستزادة هنا كذلك 

مكانة أمريكا العالمية تتراجع منذ سنوات، وكورونا سيسرع في تراجعها وانحسار أهميتها القيادية العالمية لحساب أقطاب دولية أخرى قد تقف الصين على رأسها.

يبدو أن العالم استفاق اليوم على كابوس اقتصادي مذهل والأدوات الاقتصادية العالمية فشلت في التعاطي معه لأن حجم الأزمة أكبر بكثير مما وقع في الفترة الماضية.   

قال ترمب في خطابه يوم الإثنين أن الأسواق ستتعافى سريعا وتعود إلى طبيعتها، لكن هناك ضرر حقيقي يقع على الناس خصوصا الفقراء الذين يضطرون إلى ترك وظائفهم ولا يحصلون إلا على جزء من رواتبهم أو لا يحصلون عليها، وهذا ليس إلا البداية

سيستفيق الناس بعد كورونا وقد خسروا أموالا كبيرة جدا، المطاعم والمقاهي وقطاع السياحة وقطاع الطيران والقطاعات الخدمية الكبرى والموظفين المؤقتين والعمال المستقلين ومن ليس لديه قدرة مالية على الاستمرار.

حدوث حالة من الركود الاقتصادي العالمي وعدم قدرة الناس على الشراء سيؤدي إلى تفاعلات اجتماعية وسياسية خطيرة في أماكن كثيرة ، صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعاني، ولا ندري بالضبط هل ستتشافى أم لا، لكن الذي نتوقعه أن المعاناة الاقتصادية الأكبر ستكون أوروبية.

لم نتحدث عن الوضع الاقتصادي في الشرق الأوسط  وإفريقيا لأنه سيء أصلا، ولكن الضرر الأكبر نسبيا سيقع على الدول المتطورة لأن اقتصادياتها هي الأكبر واعتمادها على الأسواق والبورصات أكبر بكثير من اعتماد الدول الأخرى

انتهاء عالم كنّا نعرفه

ما يحدث اليوم هو موت للقديم وإيذان بولادة الجديد، فإذا عملنا بجد واجتهاد فإن الجديد سيكون أفضل، أما إن استسلمنا لغلبة الهوى وأوهام الجشع فإننا سندخل عصور ظلام جديدة

الأزمات تسرِّع حركة التاريخ وتكثف تحولاته، ونحن نعبر أزمة من هذه الأزمات النادرة في التاريخ، وعلى العموم فالبشرية اليوم أمام خيارين: إما أن يتضامن الناس مع بعضهم ويصلوا إلى حالة من الارتقاء الإنساني العالمي لاسيما أن هذه الأزمة لا تحل إلا بتضامن عالمي، أو أن ينكفيء الناس كل على مصلحته الضيقة ، فتتعاظم الأنانية ويزداد الجشع.

وللأسف لا أتوقع أن العالم سيثوب إلى رشده عما قريب، فيؤسس منظومة عالمية عادلة تستعيد عافية البشرية، وتؤسس نظما اقتصادية واجتماعية رشيدة. الذي أتنبأ به أن النزعة المادية القومية سوف تغلب، وأن كل دولة ستحاول أن تسيطر على مواردها وموارد غيرها، في سباق محموم جديد، وربما وصولا إلى صراعات دموية، وهذا لن يكون خيرا على البشرية في مستقبل الأيام.

لكن سرعان ما سيكتشف الناس أن لا مناص من الارتقاء إلى التضامن الإنساني العالمي، والعودة الى الرشد الكفيل بحياة طيبة للجميع، وأرجو أن لا يطول ذلك.

***

وضاح خنفر ـ صحفي فلسطيني، رئيس منتدى الشرق ، وهي شبكة مستقلة مكرسة لتطوير استراتيجيات طويلة الأجل للتنمية السياسية والعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي لشعوب الشرق الأوسط. شغل سابقاً منصب المدير العام لشبكة الجزيرة الإعلامية. أسس في 2015 موقع هافنغتون بوست عربي.

___________

مواد ذات علاقة