د. هشام خلوق

ترصد هذه الورقة البحثية حول واقع الأزمة الليبية، والصراع الدائر بين الأطراف العاملة على إيجاد حل لها، وبين الساعون لتدمير ليبيا وسرقة مستقبلها الديمقراطي . ثم تنتقل الورقة لرصد تداعياتها المستقبلية والسيناريوهات المتوقعة. وتحاول اقتراح الحلول من أجل السيناريو الأفضل وتجنيب البلاد والمنطقة السيناريو الأوسوأ.

الجزء الثاني

الفرع الثاني: خصائص الأزمة الليبية

الأزمة الليبية أزمة أصبحت اليوم دولية، وقبل استعراض خصائصها، من المهم في البداية تحديد مفهوم الأزمة الدولية بشكل عام، حيث يتعبرها (تريسكا) نقطة تحول ونتاج للتكثيف الشديد لطاقات الاختلال وعدم الاستقرار داخل النظام الدولي. ويمكننا أن نستنتج من هذا التعريف أن ما يحصل في ليبيا يحمل الكثير من خصائص الأزمة الدولية منها:

ـ كونها نقطة تحول حاسم نتيجة للسقوط المدوي لنظام القذافي الذي ترك فراغا كبيرا في الساحة الساسية،

ـ تأثيرها لم ينحصر في أطراف الأزمة الداخليين في ظل تشابك العلاقات الدولية، بل امتد ليشمل دولا أخرى، ولذلك فهي أزمة دولية بامتياز. وقد يكون لها عواقب جيواستراتيجية كبيرة على البلد ومحيطه بما في ذلك شمال إفريقيا والساحل، وربما على نطاق أوسع ليشمل كامل العالم العربي.

ـ ما صاحبها من توتر وارتباك وارتفاع في درجة الخطورة، خاصة بعد اكتشاف المقابر الجماعية.

وبذلك تكون الأزمة الليبية حاملة للعديد من خصائص الخطورة. ومبدئيا كل الأزمات تتسم بالخطورة، لكنها تتفاوت في الدرجة. فالخطورة درجات، وشتان بين أزمة حدود وأزمة وجود.

وعلى هذا المستوى يمكننا التأكيد على أن الأزمة الليبية أزمة خطيرة جدا لعدة اعتبارات:

ـ نسبة التهديد، فهي أزمة وجود في بلد مهدد بالإنهيار والإنقسام،

ـ الكلفة الكبيرة التي يدفعها الشعب الليبي من ماله ودمائه،

ـ الامتداد الزمني، فمن حيث المدة الزمنية يمكن التمييز بين أزمة قصيرة الأمد التي يتم إخمادها والقضاء عليها في مدة قصيرة، وأزمة طويلة الأمد وهي التي تستمر معالجتها لمدة طويلة، والأزمة الليبية طالت ولا زالت عصية عن الحل إلى اليوم،

ـ الامتداد المكاني، حيث يمكن توصيف الأزمات من حيث امتدادها الجغرافي لثلاث أصناف:

  • أزمة داخلية تضرب المصالح الداخلية لدولة ما وتهدد أمنها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أو تزعزع استقرار النظام.

  • أزمة إقليمية تطال مجالا جغرافيا يتجاوز الدولة لكنه محدودا.

  • أزمة دولية يتجاوز مداها البعد الداخلي للدولة والبعد الإقليمي ليصل للمستوى الدولي. وهي عادة أزمة أكبر ينتج عنها صراعات شديدة بين الدول. وما حصل في ليبيا هو أن الأزمة بدأت محصورة في الداخل الليبي، ثم امتدت تأثيرها لمحيطها الإقليمي فأصبحت أزمة عربية مرتبطة بصراعات الربيع العربي، ثم تطورت بسرعة لتصبح اليوم أزمة عالمية بعد أن دخلت على الخط دول خارج الإطار العربي مثل فرنسا وروسيا وتركيا.

  • اتساع التأثير، فهي أزمة سياسية شديدة ذات آثار اقتصادية واجتماعية،

  • الغموض الذي يلف مستقبل البلاد، وهذا المؤشر الأخير قد يكون الأخطر. ويتجلي الغموض في كون أبعاد الأزمة وأطرافها المستترون غير معروف إلى ماذا يرمون، مما يصعب إيجاد الحلول المناسبة لمواجهة الأزمة. فمع كثرة المتدخلين في السر والعلن تحولت ليبيا إلى بؤرة للصراع الإقليمي والدولي.

الفرع الثالث: آثار الأزمة الليبية

لقد صار للأزمة الليبية آثارا كبيرة على كل المستويات، فبعد معاناة المواطنين الليبيين على المستوى السياسي من نظام سلطوي واستبشارهم بسقوطه، وخروجهم فرحين للتعبير عن ذلك، عادت ليبيا مرة ثانية إلى حالتها الأولى، فضعفت السلطة المركزية وتشكلت تجمعات من القبائل تتمتع ببعض السلطات المحلية.

عودة القبائل للواجهة وانهيار قبضة السلطة المركزية في البلاد عمق الفوضى، حيث صارت للبلاد مجموعة من النقاط التي تسيطر عليها ميليشيات قبلية ومجموعات إجرامية ومرتزقة وشبكات مهربين. لقد كان البلد زمن القذافي يقوم على نظام الفوضى المؤسساتية المستندة لحكم الفرد والدكتاتورية خارج إطار القانون، ثم استيقظ الليبيون على انهيار نظام الفوضى الواحدة الذي دام لسنين وقامت مكانه الفوضى المتعددة.

ثم اتسعدت الأزمة السياسية لتصبح أزمة اقتصادية واجتماعية كذلك، وكان التأثير الأكبر على الفآت الهشة التي دفعت وتدفع فاتورة ما لم تستهلك من أزمات. الضعفاء دائما ما يكونون الحطب الذي تأكله نار الصراعات، والتي تنزل آثارها مباشرة عليهم.

وتجلى التأثير المادي للأزمة في انهيار الاقتصاد، وبانهياره ارتفعت الأسعار وتدهورت الخدمات الاجتماعية، وارتفعت نسبة الفقر في دولة غنية جدا بالثروات الطبيعية، مما أدى لارتفاع نسبة البطالة، والضعف في المنظومة الصحية.

أما الاثار المعنوية فتجلت في التبعات النفسية للأزمة، من إحباط عام وفقدان للثقة في الحاضر والمستقبل، والخوف المزمن المرافق لانعدام الأمن. حيث أصبحنا أمام مشهد دموي وإعدامات خارج إطار القانون ومقابر جماعية، فارتفعت نسبة الهجرة والنزوح للخارج، هربا من الصراع الدموي وجرائم الحرب. وحين فر الليبيون من أرضهم، دخل المرتزقة والمتطرفون ليعمقوا الأزمة ويخلقوا الفوضى.

في الكثير من الأحيان تأتي الأزمة نتيجة حالة من الفوضى، فقد يؤدي النظام في منطقة استأنست الفوضى المؤسسة لخلق أزمة، وهنا يكون المشكل في النظام، بحيث يصبح نظام الفوضى هو أساس النظام، وأي نظام طارئ يصبح دخيلا ويخلق الأزمة.

وهذا ليس تلاعبا بالكلمات بل حقيقة نعيشها رأي العين في الكثير من الرقع الجغرافية المرقعة سياسيا وإداريا واقتصاديا، خاصة في الدول المنتسبة للعالم الثالث، وبالعالم العربي على وجه الخصوص، والتي تعيش الفوضى المؤسسة والممنهجة كأساس للنظام السياسي.

وهذا ما حصل في ليبيا، لقد كان البلد زمن القذافي يقوم على نظام الفوضى المؤسساتية المستندة لحكم الفرد والدكتاتورية خارج إطار القانون. ثم استيقظ الليبيون على انهيار نظام الفوضى الواحدة الذي دام لعشرات السنين وقامت الفوضى المتعددة، وبدل قذافي واحد ظهر على الساحة قذاذفة متعددون، كلهم يدعون الأحقية بحكم ليبيا.

وهذا الوضع لا تعيشه ليبيا فقط، بل الكثير من بلدان الربيع العربي، مثل مصر التي كانت مهابة الجانب، لكن ومع أول انتخابات حرة بعد الثورة، ومع أول رئيس منتخب بطريقة ديمقراطية في دولة لم تعرف رئيسا منتخبا من قبل، حدثت الفوضى العارمة التي عوضت الفوضة المؤسساتية والممنهجة والمقننة لنظام مبارك،  ضعفت مصر وأصبحت غير قادرة حتى الدفاع عن بعض جزرها التي تخلت عنها بمحض إرادتها، وعن حقوقها في نهر النيل أمام دولة أثيوبيا.

***

د. هشام خلوق ـ دكتوراة في القانون الدولي والعلاقات الدولية ـ استاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاجتماعية والاقتصادية ـ عين الشق ـ المغرب

______________

      مجلة الدراسات الإفريقية وحوض النيل ـ المجلد السادس ـ العدد الثاني عشر ـ يوليو 2021م

مواد ذات علاقة