بقلم عبد الفتاح الشلوي

فرح الليبيون يوم أن غمسوا أصابعهم بالجبر الأزرق بتاريخ 2012/7/7م، لانتخاب أول جسم تشريعي، وهو المؤتمر الوطني، الذي نص عليه الإعلان الدستوري المؤقت، الصادر عن المجلس الانتقالي.

جاء ذلك عقب أربعة عقود من سلطة انفردت بشكلها وآليتها دون غيرها بعالمنا المعاصر، أطلقها القذافي بعد مرور ثمانية سنوات من استيلائه على السلطة سبتمبر 1969م، وادعى حينها أنه تخلى عن السلطة، واعتبر نفسه الحارس الأمين على نَفَسِها الثوري، وموجه ذراعها الضارب حركة اللجان الثورية، العين الساهرة على حماية القائد وثورته، هذا بجانبها النظري.

أما من الناحية الفعلية فقد كان هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، والآمر الناهي، لدرجة أن السلطة التشريعية ممثلةً بمؤتمر الشعب العام أصدرت قرارًا يقضي باعتبار كلمات وأحاديث القذافي منهاج عمل، والليبيون يمارسون السلطة الشعبية المباشرة.

ولأن تركيبة مجتمعنا في عمومها قبلية صرفة فقد كانت الحاجة لتوظيف هذا العامل من قبل المتنفذين والمصلحيين وذوي المآرب الدفينة غير المرئية، وهم يمارسون سلطتهم الشعبية المباشرة، فقد برز عامل القبيلة ومن بعده مكون الشريحة بشكل ظاهر وجلي، وأضحت القبيلة والجهوية الجسر الذي يعبر عليه أصحاب المصالح الخاصة، فشاع ما يعرف بمصطلح  “بالكولسة” وهى أن تُطبخ عمليات التصعيد في ذلك الوقت — الانتخابات بمفهوم اليوم —  في المرابيع و”الصالات بشكل خفي وبسرية بعيدا عن الأعين، لكن ما هى إلا سنوات حتى أصبحت تقام بشكل علني، فتنصب الخيام بالشوارع والساحات، بعد أن طربت لها سلطة سبتمبر ورأت فيها تفتيت للعضد العام، واعتبرتها تفاعلا شعبيا وإن طال العراك وشجت الرؤوس وخرج بذيئ القول والكلمات .

مع قيام ثورة فبراير كانت الأصوات تتعالى ضد هذا السلوك، واعتبر إسقاطه أحد أهداف الثورة، وجاءت انتخابات المؤتمر الوطني مجسدة لهذه الغاية، أو أنها تحققت فيها بدرجة كبيرة.

لكن يبدو أن مفهوم القبلية وارتباط “الكولسةبه كاد أن يتحول لثقافة وجينات نحملها، فطفحت الجهوية والقبلية بالانتخابات اللاحقة لاختيار أعضاء المؤتمر الوطني العام، سواء في انتخابات هيئة الدستور، أو انتخات مجلس النواب، وكأننا عازمون علي تحقيق هذا السلوك الخبيث المشين، مع إقرارنا بأن إفرازات انتخاب المؤتمر الوطني لم تكن ملائكية، لكنها كانت بعيدة بشكل كبير عن هذا المفهوم، وأفضل من لاحقتها.

كان الشقاق السياسي، ومعه برز الغطاء القبلي والجهوي، بل واتُخذ مظلة ومطية لتحقيق غايات داخلية، وفي بعض الحالات لأخرى خارجية، بعلم متصدريها أم بدون علمهم، وصلت ليبيا لحالة من الانقسامات فاقت كل تصور، سياسية، واقتصادية، وعسكرية، ومجتمعية، وامتزجت خلافاتنا، وأصبخت ككرة الثلج، تنمو بفعل المال الفاسد، ويغذيها الإعلام الهابط .

تولت الأمم المتحدة المشكل الليبي، وأخفقت في لم شمل الليبيين عبر ممثليها الأربع، ولعلهم ساهموا أو بعضهم بشكل أو بآخر في زيادة حدته، وجاء أخر المبعوثين غسان سلامة، وحرك دولاب القضية وقد تداخلت فيه عصيٌ حار أمامها السيد غسان، الذي لم يجد أمامه بدًا من اتباع سياسة خض الكيس ومفاجأة المتخاصمين بالهدف المميت بالوقت الضائع من المنازعة السياسية.

عرض عليهم فكرة إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وربما بلدية، وكانت الفكرة تلقى ترحيبًا من بعض الدول المتنفذة، ومعارضة البعض منها، ولم يكن الأمر يختلف بالداخل، فقد وقع بين منطقتي القبول والرفض.

أيقن الليبيون أن مسألة الانتخابات لا مفر منها، وأنها سنة الديمقراطية التي ينشدونها، وثاروا لأجلها، لكن ساستهم لهم رأي آخر وتخوف من قادم الأيام، فقد خشى البعض منهم على مستقبلهم وأن تقذف بهم صناديق الاقتراع لدائرة النسيان، فعمدوا لإفشالها أو تعطيلها، وكشر مناصروهم عن أنيابهم بشكل مبكر، فقاموا بتكسير لوحات ترقيم المراكز الانتخابية، ملوحين بتفويض خليفة حفتر رئيسًا للبلاد، معلنين عن انتهاء الاتفاق السياسي بالسابع عشر من ديسمبر الحالي.

ليس أمام من يطالب بالتداول السلمي إلا أن ينتهج طريق الانتخابات، ويخرج عبر صناديقها، صحيح أن عراقيل ومتاعب ستواجه سير العملية الانتخابية، ومحاذير لا يمكن تجاهلها وإغفالها، بل إنها ستكون أصعب من سابقاتها، لتردي الوضع الأمني، والانقسام السياسي، والعامل الخارجي، لكنها لن تكون إلا هى، وما عداها سيزيد من تفاقم الوضع المعيشي للشعب الليبي، وسيورم الانقسام السياسي الذي تستفيد منه فئة لا يهمها مصير وطن ولا مستقبل شعب، يعاني مرارة العيش، والعوز السياسي، والأطماع الخارجية، فهى الانتخابات وإن كانت الدواء المر.

***

عبد الفتاح الشلوي ـ عضو المؤتمر الوطني العام السابق

____________

مواد ذات علاقة