بقلم المهدي ثابت

إن ليبيا على أعتاب مرحلة جديدة من تاريخها ما بعد الثورة . فالسنوات العجاف طالت كثيرا . والرغبة في بناء الدولة أصبح أمرا مطلوبا أكثر من أي وقت مضى . والبعثة الأممية للدعم ترغب في تحقيق نجاح هذه المرة بعد تتالي خيباتها طيلة السنوات الفارطة.

فهل ستوفق في عقد المؤتمر الوطني الجامع بعد فشل اتفاق الصخيرات في ترتيب الوضع في البلاد.

إن الوضع شديد التعقيد بالنظر لتناقض المصالح في الداخل وكذلك بفعل التدخل الدولي الصارخ . وتبقى إرادة الليبيين ونضجهم الفيصل في تحديد مستقبل البلاد

الجزء الأول

مقدمة:

علق الليبيون آمالا عريضة على اتفاق الصخيرات ليكون السبيل إلى إخراج البلاد من محنتها والقطع مع سنوات الفوضى والإقتتال التي عقبت سقوط نظام القذافي .كما أن القوى الدولية راهنت عليه وسعت إلى حمايته وحماية منظومة الحكم التي أفرزها

واليوم وبعد مضي قرابة الأربع سنوات على هذا الإتفاق فإنه هنالك شبه إجماع لدى الملاحظين في الداخل الليبي وفي الخارج على فشل هذا الإتفاق في حل المشاكل المتراكمة على كل الصعد سياسيا وأمنيا واقتصاديا

فما أسباب فشل الإتفاق ؟

وما الدور الذي لعبته القوى الدولية في مرحلة ما بعد الصخيرات؟

وما طبيعة الأوضاع القائمة الآن في ظل الصراع الدولي الذي تجلت ملامحه؟

وما حظوظ الأمم المتحدة في إنجاح محطة المؤتمر الوطني الجامع ؟

أسئلة عديدة وحارقة تعكس عمق الأزمة المستفحلة في البلاد سنحاول الإجابة عنها بعيدا عن التحيز لأي طرف أو أجندة رغبة منا في أن نضع القارئ الكريم في صورة ما يجري في هذا البلد المهم الذي تكالبت عليه القوى الدولية لتغنم من خيره واستثماره

أسباب فشل الاتفاق السياسي:

عديدة هي أسباب الفشل منها ما هو مرتبط ببنية الإتفاق ذاته ومنها ما هو متعلق بالظروف المحيطة المتمثلة في الأطراف الليبية المتصارعة والأجندات الدولية المتناقضة .

ومن الأسباب المتعلقة بالإتفاق هو الدور الذي منح للبرلمان في بنود الاتفاق السياسي وهو دور ثبت بعد ذلك أنه معوق رئيس أمام العملية السياسية . فالبرلمان الليبي مختطف من قبل العسكر في الشرق وهو ما جعله عاجزا عن المضي قدما بالعملية السياسية وكذلك بعض الأحكام الإضافية المتعلقة بالإتفاق إضافة إلى المادة الثامنة منه التي كانت سببا في عدم اعتراف البرلمان به بالنظر للضغط الذي كان يمارسه حفتر طيلة السنوات السابقة

وبالنسبة للظروف المحيطة . فالجميع يعلم أن مفاوضات ما قبل الإتفاق قد طالت كثيرا إذ بدأت في مدينة غدامس الليبية ثم انتقلت إلى جينيف ثم إلى المغرب وكل الأطراف وخاصة الدولية ملت من طول الإنتظار وضغطت للخروج بأي شيئ من هذه المفاوضات .

وفعلا تم إمضاء الإتفاق في 17ديسمبر 2015 دون رضى بعض الأطراف المفاوضة وانسحابها من المفاوضات كما أن طرفا إقليميا فاعلا ( الامارات العربية المتحدة) أصر على وضع بعض البنود التي تخدم أجندته وخضع السيد ” برنادينو ليون” مهندس الاتفاق لضغوط هذا الطرف ليمكّن بعد انتهاء عهدته على رأس البعثة الأممية من وظيفة سامية في هذا البلد بمرتب مغر جدا

ومع بداية 2016 بدأ العمل على تنزيل الإتفاق على أرض الواقع وبدأت التناقضات تبرز على الأرض بين رؤية البرلمان ورؤية المجلس الأعلى للدولة وكذلك بين القوى العسكرية في الشرق والغرب.

كما تكثفت أشكال التدخل الدولي وهو ما حول الساحة الليبية إلى ساحة صراع دولي بالوكالة .

جملة هذه التناقضات جعلت حكومة الوفاق المنبثقة عن الإتفاق السياسي تعجز عن إدارة الأزمة، فلم تتمكن من جمع أطراف الصراع الداخلية بل إنها في حالات عديدة تحولت إلى جزء من المشكلة عوضا أن تكون طرفا جامعا وعلى مسافة واحدة من الجميع.

إن السمة التي غلبت على أداء المجلس الرئاسي هي الضعف المطلق . فالسيد فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي ضعيف داخليا فهو غير مسنود بقوة سياسية ترجح كفته ولا يملك ذراعا أمنيا تنفيذيا يدين له وللدولة بالولاء المطلق وهو ما جعله يعيش تحت رحمة الكتائب العسكرية والأمنية المسيطرة على العاصمة طرابلس والمتعددة الولاءات لأطراف في الداخل والخارج .

وقد ارتهنت هذه الميلشيات والكتائب القرار السياسي في العاصمة طرابلس طيلة الفترة التي تلت تركيز حكومة الوفاق الوطني وهو ما انعكس بوضوح على أداء المجلس الرئاسي الذي بدوره تشقّه الخلافات وهو ما جعل بعض أعضائه يفضل الإستقالة والبعض الآخر يغادر طرابلس تحت وطأة الفضائح المالية والسياسية.

راهن السيد فايز السراج ومن ورائه المجلس الرئاسي على الدعم الدولي لتثبيت سلطته وفرض الإتفاق لكنه فشل في ذلك أيضا لأنه لا يملك أوراق القوة الضرورية في الداخل التي تمكنه من فرض موقفه على القوى الدولية الفاعلة في الملف الليبي بل أنه اصبح يعيش تحت وطأة الضغوط الشديدة من هذه القوى إقليميا ودوليا حتى أنه اعتبر لدى قطاع عريض من الليبيين والطبقة السياسية مجرد منفذ للأجندات الدولية على حساب المصلحة الوطنية العليا.

وعلى المستوى الإقتصادي فإن البلاد عاشت أزمات حادة مثل أزمة السيولة وأزمة انهيار الدينار الليبي أمام الدولار وعاش غالبية الشعب حالة شديدة من البؤس بلا مبالغة في بلد يصدر أكثر من مليون برميل من النفط يوميا.

كما استفحل الفساد الإداري والمالي بشكل غير مسبوق .وانهارت أغلب الخدمات الأخرى مثل الكهرباء والصحة. كل ذلك أمام عجز الحكومة التي لا تملك من أمرها شيئا أمام تغول الميليشيات وأجهزة الدولة العميقة.

هذا الواقع جعل السيد غسان سلامة الذي حل محل الألماني ”مارتن كوبلر” يدفع بخارطة تتضمن جملة من المراحل تنتهي بانتخابات رئاسية وتشريعية إلا أن التناقضات الداخلية والتدخل الدولي السافر جعلها تولد ميتة.

الصراع الإيطالي الفرنسي:

لقد وجدت فرنسا في فشل السيد غسان سلامة فرصة لتنزل بقوة إلى الساحة الليبية بخطة عمل غرضها إجراء انتخابات دون قاعدة دستورية تمكن لحلفائها من المشاركة في الإستحقاقات الإنتخابية القادمة لأن مسودة الدستور الحالية تمنع أغلبهم من الترشح بسبب ازدواجية الجنسية ومنهم حفتر الذي فقدت فرنسا الرهان عليه عسكريا

أسرعت فرنسا في مايو الماضي بتنظيم مؤتمر في باريس استدعت إليه أهم الفاعلين الرسميين واستدعت حفتر لتسوقه دوليا كحقيقة وأمر واقع على الأرض دون الأطراف الأخرى الأهم منه عسكريا في الحضور والتأثير مثل قيادة البنيان المرصوص واستدعت أيضا ممثلين لدول الجوار الليبي إلى جانب ممثلين عن وروسيا وأمريكا وبريطانيا وقاطعته ايطاليا.

هذا الأمر أزعج كثيرا الإيطاليين . فإيطاليا ترى في نفسها المخولة من أمريكا والإتحاد الأوروبي بقيادة الملف الليبي وأن التدخل الفرنسي يعتبر تجاوزا فجا وخطرا استراتيجيا على المصالح الحيوية الإيطالية .

وهو ما جعل الحكومة الإيطالية ترسل وزير خارجيتها لواشنطن حيث قابل “ترامب” الذي عبر بوضوح عن مساندته لإيطاليا. ومباشرة إثر الزيارة تسمّى السيدة ” ستيفاني ويليامز” المبعوثة الأمريكية لليبيا نائبة لرئيس البعثة الأممية للدعم في ليبيا وهو ما اعتبر عند أغلب الملاحظين بداية انخراط أمريكي في الملف الليبي الذي لم يكن أولويا بالنسبة لأمريكا طيلة المدة التي تلت سقوط نظام القذافي

هذا الدعم الأمريكي لإيطاليا جعلها ترد بقوة على الخطوة الفرنسية وجهزت لمؤتمر “بالارمو” رغبة منها في نسخ مخرجات مؤتمر باريس وهو ما حصل تقريبا إذ أن التنسيق هذه المرة كان مع الأمريكان ومع الأمم المتحدة التي تتقاطع في تصورها للحل مع الخطة الإيطالية المعروفة بخارطة الطريق

البقية في الجزء الثاني

***

المهدي ثابت ـ باحث تونسي في الشأن الليبي متحصل على الأستاذية في العلوم السياسية وأعد لرسالة الماجستير السياسية في العلاقات الدولية وهو مهتم بالشأن الليبي باعتباره شأن حيوي بالنسبة لتونس.

________________

المصدر: مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية بتاريخ 08 يناير 2019

مواد ذات علاقة